
تمهيد
وربما يحسبها البعض منهم جناية على القديم في تطور العادات والتقاليد والأعراف المجتمعية بعامَّة وبالذَّات السودانية منها خلال المائة عام المنصرمة؛ ذلك لأنَّ التكيف والتماهي التقليدي لأي عُرف ما مجتمعي لهو بمثابة البقرة المقدسة التي لا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال؛ وقد شهد السودان طيلة القرن الماضي عادات متعددة ومتنوعة لها جذورها الراسخة في الوجدان القومي والعقل الجمعي المحلي ورسخت رسوخاً نبيلاً بين جنبات القلب والفكر والممارسة السودانية في نوع من التلذذ والتندر والاستثناء؛ قال شاعرهم: لقد رسخت في القلب منك مودة * كما رسخت في الراحتين الأصابع
ومن ضمن هذه العادات التي رسخت في العقل والقلب: طقوس الزواج في الشريط النيلي للسودان الشمالي الممتد من آخر قرية جنوب مديرية الإقليم الأوسط بقرية ” الشُكَّابة ” وما تاخمها من حدود جغرافية ؛ والتي تحولت فيما بعد للولاية الوسطى أو إن شئت ولاية الجزيرة ، وحتى آخر نقطة أو قرية شمالي السودان من المديرية الشمالية في ” حلفا القديمة ” وإن شئت الولاية الشمالية / تغيرت اسماء المديريات من عهد الإنجليز ( 1898م – 1956 ) و( 1989 م – 2023 م ، ثورة الإنقاذ الوطني ) للعصر الحالي باسم الولايات كنوع من التأصيل الديني لجذر الاسم لكلمة ” ولاية ” والتي تعني الخليفة عند الاصطلاح الإسلامي يرومون بها إعادة الدولة الإسلامية القديمة في القرن السابع الميلادي 634 م ، أو دولة المدينة أو الخلافة الإسلامية الراشدة / ؛ وكذلك تشابه أو تقليد أو نسخ لبعض تلك الطقوس النيلية في كل ربوع السودان شرقاً وغرباً وجنوباً وبالتحديد مديريات شرق وشمال شرق السودان كمديرية كسلا والقضارف والبحر الأحمر ونهر النيل والشمالية ووسط السودان ؛ ونتجت هذه المشابهة في النقل والتقليد خصوصية العنصر السكاني المناطقي وأدَّت من بعد لقليل من الاختلافات هنا وهناك أثمرت عن تنوع كبير لهويَّة السودان.
نتجت أيضاً عن هذه المشابهة زيادة على التأثير والتأثر في الحراك الاجتماعي الواسع جداً بمساحة القطر النصف مليون ميل مربع أو عليها تزيد ، عامل المصاهرة والتنقل والتجارة واللغة وما إلى ذلك من الصيغ والصبغات العُرفية بين بني القطر الواحد الشاسع في النقل والتقليد والمحاكاة ؛ خصوصية السِمة والتميز السكاني المناطقي القبلي وما أشبه ، وأدَّت من بعد لخلق لوحة سريالية رائعة اسمها السودان القومي ( الهُويَّة السودانية في أحسن حال ) وإن شئت السودان النيلي لاعتبارات تحديد عنوان هذه الكلمة مع قليل من الاختلافات هنا وهناك التي تحافظ على العنصر القبلي في عرفه وعاداته وتقاليده وآدابه وفنونه كل على حده.
قبل أن أشرع في تفصيل هذه الكلمة؛ دعني أوضح الآتي:
الأمر الأول، نشرت مجلة ” السودان في رسائل ومدونات ” التي كانت تصدر مؤخراً في بريطانيا ( 1918م – 1953 م / أرشيف السودان بجامعة درم البريطانية مصدر من مصادر أبحاث السودان ) إن لم تخني الذاكرة أربعة مقالات طوال لحضرة الأستاذ الكبير بروفيسور عبد الله الطيب؛ تحدَّث فيها عن بعض هذه العادات النيلية تحت عنوان: ( العادات والمتغيرات النيلية ) قبل أكثر من خمسين سنة؛ وقد أخذت نَفَسَ عنوان كلمتي هذه منه للأمانة العلمية والحق الأدبي بلا ريب.
الأمر الثاني لم أطلع على كلمته كاملة حتى هذه اللحظة ، بل قرأت نُتَفَاً منها على الإنترنت قبل مدة طويلة جداً وبسرعة شديدة ولم يعلق بالذاكرة منها سوى كلمة ” الكُجْرَة ” أو ما أشبه وهي غرفة تجهيز العروسة قبل الزواج لكني سمعت عما كتبه بطريق متابعاتي للراحل المقيم في كلمات قيلت عند تأبينه بقاعة الشارقة جامعة الخرطوم وكان آخر عهدي بتأبينه – رحمه الله رحمة واسعة – قبل عشر سنوات أي سنة 2014؛ بالتحديد 19 / 6 / 2014 في ذكراه الحادية عشرة إذ غادرت بعدها السودان إلى مصر ولم أعد إليه حتى تاريخ كتابة هذه الكلمة فتأمل أصلحك الله.
بمعنى أنَّ التأثير واضح على كاتب الأسطر لكن لكل تجربته واحساسه الذي نقله في موضعه بلا شك.
رجع الحديث
بيركهارت؛ الرَحَّالة البريطاني الذي زار السودان قبل أكثر من قرن ووصل بعد جنوب أسوان ما بين نهر النيل والبحر الأحمر؛ لم يذكر عادة الزواج لكنه ذكر طريقة التجارة وعمل القوافل التجارية ووصف طبيعة المنطقة وما إلى ذلك؛ وقد ذكر المرحوم البروفيسور عبد الله الطيب في كتابيه ” من حقيبة الذكريات؛ طبعة سنة 1944 تقريباً” وكتاب ” من نافذة القطار؛ طبعة سنة1969– 2005 ” خبر الرَحَّالة البريطاني ماكمايكل الذي زار مدينة الدامر بمديرية نهر النيل ووصف فيها الخلاوي ومُدَارَسَةَ القرآن الكريم وبالذَّات خلاوي المجاذيب الذين لهم باع طويل في حفظ القرآن الكريم ومدارسته في الخلاوي والمعاهد الدينية ذات الصلة ، من باب الاستطراد والمراجعة والتاريخ والتوثيق.
وبدوري أنا أقوم بتسجيل وتوثيق الأنثروبولوجيا والاثنوجرافية السودانية بما علق في الذاكرة إلحاقاً بما تقدَّم ممن درسوا الخارطة الجغرافية والتاريخية للمديريات الشمالية وبالذَّات مديرية نهر النيل بين مناطق عزيزة عليَّ جداً هي: ( طيبة الخوَّاض وديم القرَّاي والمتمَّة وأم دوم وبيت المال بأم درمان ) حيث انتسب أنا لتلك المناطق ، بما تيسَّر لي من الحديث توثيقاً وتحقيقاً إن شاء الله.
تعليق وتوثيق الموضوع
سنة 1984 كان عمري تسع سنوات؛ ذهبت لحضور مناسبة زواج أحد أفراد الأسرة الكريمة بديم القرَّاي ببص نيسان ” جَهِّزْ كَفَنَكَ “؛ هكذا يُصطلح عليه شعبياً ؛ وكانت الرحلة شاقة للغاية والطريق الرابط بين الخرطوم شندي ديم القرَّاي ليس معبَّداً وطويلاً جداً؛ وتحرك البص حوالي الساعة السادسة صباحاً من الخرطوم ووصل لديم القرَّاي بعد صلاة العصر بعد إرهاق وعذاب شديدين؛ وتحضرني هنا مقولة في الأثر عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت في سفرة سافرتها: ( كنت أظن أنَّ العذاب قطعة من السفر لكن السفر قطعة من العذاب )، وجدت هذه العبارة المنسوبة لعائشة أم المؤمنين في كلمة طويلة جداً أهدانيها الأستاذ / عبد الله يوسف إبراهيم النور المعلِّم بالمدارس الابتدائية السودانية كتبها عمَّه المرحوم الأديب النحرير القاضي الشرعي والفقيه المعروف / محمد إبراهيم النور ، لشقيقه / يوسف إبراهيم النور ، بتاريخ 4 / 1 / 1925؛ وهو والد سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الآن المهندس / صديق يوسف إبراهيم النور؛ ثبَّتُها في كتابي تحت الطبع الآن ( دوحة الأدب ) فلتراجع في موضعها هناك إن شاء الله.
هذا ! بغض النظر عن كراهتي المفرطة للاختلاط بين الرجال والنسوان في أي مكان كان ؛ كراهتي للغناء والرقص أيضاً في الحفلات والمناسبات السعيدة لشيء ما لا أفهمه ولا أتقبله ولا أعرف لماذا ، اضطررت لهذه الرحلة بلا ريب رُبَّما لأكتبها لكم بعد أربعين سنة والله أعلم .
انقسم الناس لقسمين؛ في المقدمة وخلف سائق البص النيسان “جهز كفنك” النساء وهنَّ يغنين أغاني السيرة والدلوكة أمثال: يا عديلة يا بيضاااا ( مع الترخيم والمد والصوت الانثوي الجميل) يا ملايكة ( ملائكة ) سيري معاااااا الليلة شُويَاً بي قُدُرْتَ الله يا ود العزة والمهلة عروسو ضوَّت السهلة الليلة شوياً بي قدرت الله ومثل: عريسنا قطع جرايد النخل وهكذا، والرجال من خلفهم يرددون مع مجموعة النساء المغنيات.
مراسم الخطوبة
تعرف بــــــ ” فتح الخشم” ويُقصد بها التَفَوُّه بطلب يد الفتاة للزوج امتثالاً لأمر الله تعالى : { ولا جناح عليكم فيما تعرضتم به من خِطبة النساء } سورة البقرة؛ فيقوم أهل الزوج بتقديم بعض الهدايا للخطيبة عرفاناً بالقَبُول وتعرف بـــــ ” قولة خير” إيذانا ببدأ تجهيزات مراسم الزواج؛ وتختلف من جماعة لغيرها ومن أسرة لغيرها حسب ما يقتضيه العُرف بينهم؛ ورُبَّما تسمى بـــــــ ” سَدُّ المالِ ” بتنقل التسمية بين المهر وبين هدية الخِطبة.
بهذه المناسبة؛ في طقس الشيلة لأهل العروس من المواد الغذائية والتموينية ؛ يقوم أهلها بإعادة شيلة الطعام مطبوخة لأهل الزوج وتعرف بــــــ ” فطور العريس” وإذا صادف موسم رمضان فقد تزيد التكلفة بإضافة ما يعرف بـــــ ” موية رمضان” وإذا صادف الزواج أي مناسبة اجتماعية مرتبطة بعيد أو أي مناسبة من هذا القبيل فعلى أهل الزوجة أن تستر حالها وتقوم بواجب المجاملة على أكمل وجه وإلا فسيلحقها الشنار طيلة حياتها هي ووالدة العروس بالذَّات.
أذكر قيامي بواجب فطور العريس لإحدى بناتنا والذهاب به من أم درمان بيت المال حتى المديرية الوسطى قرية شرفت على ما أذكر جنوبي حنتوب وعدنا في ذات اليوم بحافلة مخصوصة مدفوعة التكاليف وسترنا حالنا كما يقولون والحمد لله.
المَهْرُ أو الصُدَاقُ
مما يُقال هنا هو ما يعرف بمقدمات الزواج وأبجدياته مثل المهر أو الصُدَاق وهو المال المدفوع أو الأجر المفروض على الرجل دفعه للمرأة العروس نظير استحلاله لزوجته لقوله تعالى: {وآتوا النساء صَدُقاتهن نِحْلَة} سورة النساء ، ويكون حسب الاستطاعة أو ما تواضع عليه الناس وكل ما كان المهر قليلاً كلما كانت البركة كبيرة لقوله عليه السلام: ( أقلهن مهراً أكثرهن بركة ).
الجدير بالذكر في امتداد مدينة طيبة الخوَّاض وديم القرَّاي والمتمة؛ منطقة أم دوم الواقعة بشرق النيل الأزرق بمديرية الخرتوم / ولاية الخرطوم / ؛ التي تُعرف بثراء أهلها بنسبة عالية جداً لعملهم في التجارة بكل أنواعها وأشكالها ومسمياتها ومستوياتها؛ فكانوا يميلون للمبالغة في المهور حتى بلغ بهم أن تُقدَّم خادمة وعربة للزوجة مع المال والشيلة نحن بند المهر فانزعج الناس من ذلك جداً وعزف الطلب من الشباب على الزواج عزوفاً فقيَّض الله لهم شيخ المسجد الأوسط وإمامه المهندس / عبيد السيد الزبير؛ إذ رأى في المنام – حسب قوله وأنا شاهد على ذلك قبل عشرة سنين – رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يدخل المسجد فيطلب منه أن يتقدم للصلاة فيأبى رسول الله صلى الله أن يتقدم غضبان أسِفَاً وقال له: ( إنكم تغالون في المهور ) وانصرف عنه غضباناً ؛ فما كان منهم إلَّا أن تركوا هذه العادة الذميمة من وقتها.
(يتبع )
شكرررررررراً نبيلاً على المشاركة