
ولد موسى في ظروف مطوقة بالرعب والإبادة. شعار فرعون كان اقتلوا أولادهم واستبيحوا نساءهم وإنا فوقهم قاهرون.
تماما كما هو الحال مع فراعنة كثر عبر التاريخ مارسوا الفرعنة بدون حمل لقب فرعون، هنا علينا الانتباه أن فرعون ليس شخصا تاريخيا؛ بل هي سمات أي طاغية، ولو لم يرتد ثيابه ويحمل الصولجان والأفعى.
وحاليا من يتعرف على بيت الحرية يكتشف أن عدد الجيوب الستالينية في تناقص، وأن الديكتاتوريات تمثل مرضا إنسانيا تتخلص منه البشرية ببطء ومعاناة، كما في الشعب الكوري الشمالي الذي يتسلح طاغيته بأنياب نووية، مقابل موت ثلاثة ملايين بالمسغبة، أو قتل نصف مليون وتهجير عشرة ملايين كما في سوريا الحزينة.
ماذا تفعل أم ولدت لتوها وليدها، والمراسيم الفرعونية تنتقي الذكور إلى حفلات الإعدام الجماعية؟ من سيرفع هذا الظلم؟ من أين سيأتي المحرر؟ ومن سيكون؟.
يبدأ القرآن القصة من ولادة طفل ضعيف لايملك حولا ولا جيشا. هكذا هي خطط التحرير، تأتي من حيث لم يحسبها فرعون أو أي طاغية، بل كما في القرآن أنه سيكون لهم عدوا وحزنا.
أذكر من التاريخ طاغية رومانيا (تشاوسسكو) حين كان في ضيافة ملالي طهران، قبل إعدامه بأربعة أيام، يفرشون له السجاد الأحمر، وهم يعلمون أي نوع من الطغاة هو؟ ويسأله صحفي: أن أحداثا تعصف في كل أوربا الشرقية، فأين مصير رومانيا من ذلك؟ يجيب: نعم هذا صحيح؛ ولكنكم لاتعرفون الشعب الروماني الذي يحبني (تماما كما في محبكجية سوريا)، يتابع: وحين تنقلب أشجار الصفصاف إلى تين، فلسوف تتغير الأمور عندنا في رومانيا، ويومها كان قس مغمور في (تيمي شوارا) يحرض على العصيان المدني، فسألوه عنه قال: هو تافه.
وحين رجع الطاغية إلى (بوخارست) جمعت له السيكوريتات (المخابرات الرومانية) وكانت أكثر من مائة ألف بسراديب تحت الأرض وأسلحة، الناس في حفل هائل، فخرج على الناس، كما خرج فرعون يوما يقول أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولايكاد يبين (الحقرة لموسى وأنه ليس فصيحا مثله في النطق) فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين (الحجة هي المال أو الأساطير التي لايمكن تحقيقها).
لتنتهي الفقرة بالقانون الاجتماعي ـ النفسي: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين، هنا يحدث الجدل بين طرف مستكبر يستخف الجماهير وبين جماهير عمياء مستضعفة تطيع؛ فيحق عليها القول، أنهم خرجوا عن القانون (فاسقين) فينطبق عليهم المحو من صفحة التاريخ.
يقول القانون: من يلقي نفسه من شاهق يتكسر، ومن يضع يده في النار تحترق، والشعوب التي تطيع ولا تناقش الأمور أمامها الفناء؛ فهذا مبدأ قرآني معمم، ولذا تنتهي قصة موسى هنا في سورة الزخرف في عشر آيات (من الآية 46 حتى الآية 56) حيث تبدأ المسرحية من الاستخفاف بموسى والضحك عليه (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون) ثم زادت الجرعة من الآيات المتكررة (تسع آيات بينات) هنا دخل الخوف مفاصلهم، وعرفوا أن الامر لايستدعي الضحك مطلقا، فطلبوا من الساحر أن يكف ـ من خلال ربه كذا؟ ـ عن جرعات العذاب (يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) ولكن لافائدة فالنفس تتغير حين تزول الشدة (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) لتنتهي الرواية بآيتين تشرح مصير المجتمعات وهلاكها ونهايتها، فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين. فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين.
وحتى نرجع إلى بدايات القصة من مجيء موسى إلى هذا العالم، ليتربى في قصر من نوى إبادة كل الأطفال من هذا الجنس النجس ـ في نظره ـ فإذا بالقدر يطوق الظالم بأمور عجيبة، ليس هذا فقط بل إن بذرة الفناء تأتي من نفس الجسد، وهي عبرة كبيرة أن الموت يتدفق من مفاصل الحياة.
وفي القرآن تأكيد وتكرار على إخراج الحي من الميت، والميت من الحي، حاول المفسرون تفسيرها على أشكال شتى، كيف يمكن أن يحصل هذا؟ حتى جاء علم البيولوجيا فأظهر طبيعة الفيروس الذي هو تقلب بين الموت والحياة على ظهر جسر، فهو يتبلور مثل الملح، وهو يتكاثر وعلى نحو مرعب كل عشرين دقيقة وأقل، مع أنه لايحمل الكود الوراثي داخله، ولذا كان لابد له من جسم حي مثل الخلية يتكاثر على ظهرها، ولعل فيروس السيدا (الإيدز AIDS) هو النموذج الصارخ عن كيفية تسلل الفيروس إلى أحشاء الخلية الجرثومية، والتكاثر مع تكاثرها، بعد أن يصبح الفيروس قطعة من النواة، وهكذا يتطور أمر دمار الدول، وحطام الحضارات، فهو أمر يأتي من داخلها، وهو ماحصل لفرعون مع موسى.
هذا ويمكن مراجعة كامل القصة من سورة القصص، حيث تبدأ القصة بالواقع المرعب الذي يعيشه مسلمو تلك الحقبة (بنو إسرائيل)، وهذا العذاب الذي صب عليهم واستعبادهم.
وحتى نستوعب أسبابه العميقة وخلفيته كما ذكرنا؛ فعلينا مراجعة التاريخ جيدا، أن هؤلاء أي آباء بني إسرائيل جاؤوا أيام الاحتلال الأجنبي على يد (الهكسوس) وهم الملوك الرعاة، ومن يقلب في الجوجول الحالي، عن هذه الحقبة من احتلال مصر، يلاحظ اضطرابا في تحديد الفترة التي حكموا فيها؟ وكم امتدت؟ ولكن الكل متفقون على أنهم قوم جاؤوا من الشرق الأوسط، وغلبوا الفراعنة بتقنيات حربية، كانت بمثابة الصدمة لقوة مصر الحربية في تلك الأيام، فقد حارب الهكسوس بالعربة الحربية والحصان ولم يكن ثمة حصان وعربة حربية في يدي الفراعنة؛ فغلبوهم واندحر الفراعنة إلى جنوب مصر، في حين استقر الهكسوس في الشمال.