آراءثقافة

وقفات وتأملات مع الإنجيل

تتخلص هذه الوقفات والتأملات في ثلاث محاور لا علاقة لها بالدين ولا العقيدة أيَّاً كانت ولا أبالي إذا زادت عن ذلك على النحو التالي :

المحور الأول: كلمة أو كتاب الإنجيل

The first axis the word or book of the Bible

كلمة إنجيل؛ كلمة يونانية في الأصل لا عربية لكنها من ذات الحرف العربي الوارد في القرآن الكريم وتعني عندهم: (الخبر السار) أو البشارة السعيدة، ومنهم من قال: مصدرها من الفعل إنجل وتعني الأصل؛ إلى غير ذلك من المعاني والشروح.

قال “أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي”: “الإنجيل: هو كتاب الله السماوي المنزَّل على المسيح – عليه السلام- ، حيث يؤنَّث ويُذكّر، فمن أنَّث أراد الصحيفة ومن ذكَّر أراد الكتاب، والإنجيل مثل الإكليل والإخريط وقيل اشتقاقه من النجل الذي هو الأصل، ويُقال: هو كريم النجل أي الأصل والطبع، والإنجيل إفعيـل من النجل وهو الأصل، فالإنجيل أصل لعلوم وحِكم، وقيل: هو من نجلت الشيء إذا استخرجته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحِكم” (332).

ويقول “علاء أبو بكر”: “ينتشر معنى كلمة “إنجيل” على أنها البشارة السارة، والخبر المُفرح، المصدر موقع الأنبا تكلا هيمانوت بالإنترنت.

هذا ! وردت لفظة الإنجيل في القرآن الكريم اثني عشر مرةً؛ على النحو التالي :
1ـــ “وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ” آل عمران (3)
2ـــ “وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ” آل عمران (48).
3ــــ “وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ” آل عمران 0(65).
4ـــ “مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُور” المائدة (46).
5ـــ “وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ” المائدة (47).
6ـــ “وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ” المائدة (66).
7ـــ “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ” المائدة (6).
8 ـــ “وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ” المائدة (110).
9 ـــ “النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِــي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ” الأعراف (157).
10 ـــ “وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ” التوبة (111).
11 ـــ “ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ” الفتح (29).
12 ـــ “وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ” الحديد ( 27).

ومما يشكل على عموم معناه قوله تعالى : { وآتيناه الإنجيل } سورة المائدة؛ وقوله جل وعلا : { الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } سورة الأعراف؛ الذي يوحي بداهة المعنى بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى مثله مثل القرآن والتوراة؛ لكن الحقيقة غير ذلك فهو ليس كتاباً بالمعني الحرفي للكتاب كالورقي أو مثل النص التوراتي أو القرآني الذي جاء مكتوباً أو منحوتاً في الألواح الحجرية أو ورق البردي أو جلود الأنعام أو لحاء الأشجار وما أشبه؛ فكلمة: “مكتوباً عندهم” تفيد معنى الرسوخ في الأذهان ومحفوظاً في العقول ومثبتاً في الذاكرة وأساسيات البديهيات لدعوة الأنبياء الذين يبشرون بمحمد عليه السلام في أقوامهم.

أمَّا معنى كلمة “آتيناه” والتي تعني التضمين أو التنزيل غير الملموس المادي العيني فهي محسوسة داخل النفس البشرية من مكوناتها أو ما أضيف إلى تكوينها زيادة على ما هي فيه كالعلم والموعظة والهداية والتقوى والحكمة والنور والصلاح والمحبَّة وما إلى ذلك من الصيغ التفسيرية والتعريفية ، كقوله جل وعلا : {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} سورة الزخرف؛ وكقوله عز وجل : {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} سورة السجدة؛ فالتنزيل والإيتاء يفيدان التضمين المعنوي؛ وتختلف في اللغة العربية من معنى كلمة ” أعطى ” والتي تعني العكس تماماً مثلاً : قال تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} سورة الكوثر؛ فتعني هنا العطاء المادي العيني المشاهد الملموس؛ والعطاء يفيد الماديات المشاهدة المتنقلة كالعينيات أو الثابتة كالكوثر مثلاً وإليك آية تجمعهما معا: {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} سورة طه، التضميني والملموس أو المشاهد .

الإنجيل اصطلاحاً يعني من خلال السياق أعلاه : الحكمة والموعظة الحسنة والإصلاح النفسي البشري قاطبة والهداية والنور والصدق والتقوى وما أشبه ؛ قال عز وجل: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} سورة آل عمران؛ وقوله تعالى: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} سورة المائدة.

أفهم أنا من الآية تلك أن كتاب الإنجيل ليس كتاباً مقروءاً حين نزل في الذات العيسوية مثل القرآن الذي كتب على جلود الأنعام ولحاء الأشجار وما أشبه؛ والتوراة التي كانت على الألواح الحجرية؛ وإن كان التنزيل على ذوات الأنبياء واحد وهو الإلقاء في القلوب لقوله تعالى : {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين * وإنه لفي زبر الأولين * أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} سورة الشعراء؛ وتجسيد هذا الإلقاء في حركة الحياة فكراً وشعوراً وعملاً وتطبيقاً وتجسيداً في اللحم والدم.

المحور الثاني: الإنجيل والحديث النبوي المحمدي

The second axis: the Bible and the hadith of the Prophet Muhammad

يلاحظ هنا الصيغ الحرفية النصية لكلام السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؛ واسقاطها مع ما كتب بعد وفاته بأربعين سنة كقوله عليه السلام: (من لم تكن عليه خطيئة فليرمها بحجر) وقوله : (احذروا الأنبياء الكذبة! قالوا : كيف نعرفهم؟ قال: بثمارهم تعرفونهم) / ليس هنا موضع تثبيت النص العيسوى من عدمه في هذا المقام وأردت الاستشهاد فقط لعموم الفائدة ما أمكن إن شاء الله / مقارنة مع النص المحمدي والصياغ المعروف مثل : ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه)؛ و (وا شوقاه لإخواني الذين لما يأتوا بعد / ثلاث مرات ! قالوا : ألسنا إخوانك يا رسول الله ؟! قال : لا؛ بل أنتم أصحابي.. الخ الحديث).

ملحوظة noteworthy:

إنّ أقدم نسخة مخطوطة لصحيح البخاري تعود إلى القرن الرابع الهجري، أي بعد عشرات السنين من وفاة البخاري (توفي عام 256 هـ). وهي نسخة الإمام محمد بن أحمد المروزي، الذي ولد سنة 301 هـ وتوفي سنة 371 هـ، وقد سمع صحيح البخاري من شيخه الفربري عام 318 هـ، وسمع الفربري الصحيح من البخاري سنة 252.

إنَّ التشابه في السياقات والصياغات يصل حد التطابق في النفس والأسلوب؛ وبهذه المناسبة من الخير أن نذكر نتفاً من بداية تدوين الحديث النبوي الشريف والذي يرويه بعض الناس وينسبوه للجناب النبوي الشريف صحيحاً كان أو ضعيفاً.

بدأت محاولات جمع وترتيب الحديث في منتصف القرن الثاني الهجري على يد الربيع بن صبيح ثم سعيد بن أبي عروبة، تلاها ما جمعه ابن جريج في مكة، ومالك في موطأه في المدينة، والأوزاعي في الشام، وسفيان الثوري في الكوفة، وحماد بن سلمة في البصرة ومعمر بن راشد الصنعاني في اليمن والليث بن سعد في مصر بما تيسّر لهم من أحاديث. وقد صنّف هؤلاء ما جمعوه ورتّبوه وبوّبوه بحسب الأبواب والمواضيع الفقهية، وضمّوا إليها بعض أقوال الصحابة وفتاوى التابعين.

وقد أرّخ جلال الدين السيوطي في ألفيته لبدايات جمع الحديث بأبيات قال فيها:
أول جامـع الحديث والأثر ابن شهــاب آمــراً لـه عُـمــر
وأول الجـامــع للأبـــواب جماعة في العصر ذو اقتراب
كابن جُريـج وهُشيـم مالك ومُـعـمّــر وولــد المبـــارك
وأول الجـامــع باقتـصــار على الصحيح فقط البخـاري
ومُســلم مـن بعـــده، والأول على الصواب في الصحيح أفضل.

انتقل تدوين الحديث إلى طور آخر أكثر تطوّرًا، وازدهر التدوين بازدهار تأليف الكتب في عصر هارون الرشيد، وتشعّب وتنوّع، فظهرت منه الموطآت والمصنفات والمسانيد والسنن والأجزاء والجوامع والمستدركات والمستخرجات وبلغ التدوين عصره الذهبي بحلول القرن الثالث الهجري الذي ظهر فيه الكتب الستة، وانتشر فيه الكثير من علماء وحُفّاظ الحديث الذين أسّسوا لعلوم الحديث كابن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن المديني ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم الرازي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وعثمان بن سعيد الدارمي . المصدر النت.

هذا ! وقد سمعت مرة من الأستاذ المرحوم الدكتور / عبد الله الطيب؛ يتحدث عن بداية تدوين كتاب الإنجيل بالصورة المرتبة التي بين أيدينا المعروفة اليوم ” بعد كتابة القرآن بثلاثة قرون ” أي في القرن الرابع الإخراجي؛ مما يلاحظ تقارب أسلوب النقل والتقليد والمشابهة بين فكرة تدوين الحديث النبوي الشريف في الصِحاح وبين كتابة وتدوين كتاب الإنجيل العهد الجديد والتوراة العهد القديم.

بذات الفكرة، تمت كتابة الحديث القدسي الذي يتعارض جملة وتفصيلاً مع نص الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} سورة المائدة؛ مما يعني التشكيك فيه جملة وتفصيلاً .

يقول الأستاذ / أحمد إبراهيم الشريف ، في صحيفة اليوم السابع المصرية بتاريخ : 23 / 10 / 2019 الآتي: {وقد كُتبت معظم الأسفار المقدسة بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد،‏ أي خلال الفترة الممتدة بين زمن النبيَّين إشعيا وإرميا، وعلى مدى القرنين الماضيين،‏ ظنَّ معظم علماء الكتاب المقدس أن غالبية الأسفار العبرانية كُتبت وجُمِعت في الحقبتين الفارسية والهلِّينستية ‏(‏من القرن الخامس حتى القرن الثاني قبل الميلاد‏)‏‏ .‏

وهناك رأى يرى أنه باستثناء سفر أيوب فإن الكتاب المقدس كُتِب خلال 1600 عامًا، كَتَبَ موسى أول خمسة أسفار نحو 1500 ق.م، وكَتَبَ يوحنا الحبيب آخر سفر وهو سفر الرؤيا سنة 96م}.

كذلك؛ كتابة السيرة النبوية لابن كثير الدمشقي وابن إسحاق وابن هشام وعموم كُتَّاب السِيَرِ؛ ذات الطريقة التي كتب بها الإنجيل والتوراة؛ مما يعني عامة حدوث التقليد إبَّان عهد التدوين للمسلمين والمسيحيين واليهود في عصر واحد هو القرن الثاني الإخراجي حتى القرن الخامس منه ولكم مراجعة ذلك في المصادر والمراجع ذات الصلة.

يقول “الدكتور منذر الحايك”: “الإنجيل كلمة معرَّبة عن اليونانية وتعني البشارة أو الخبر السار، أمَّا السيد المسيح فقد استخدم كلمة إنجيل بمعنى “بشرى الخلاص” التي أتى بها للناس، ونراها أيضًا بمعنى “ملخص تعاليم المسيح” لأنها تضم مسيرة حياة السيد المسيح التي يوجد فيها معنى الخلاص أيضًا. وفيما بعد استخدمت هذه الكلمة بمعنى الكتاب الذي يتضمن هذه البشرى، وقد غلب استعمالها بمعنى الكتاب منذ أواخر القرن الأول الميلادي وحتى اليوم.

والأناجيل هيَ كُتب دوّنت فيها سيرة وأقوال وأعمال السيد المسيح من قِبل رُسُلهِ، حيث أن بعضًا منها دوَّن ما شاهد وسمع بطريقته وأسلوبه. وليست نصوص الأناجيل كنصوص القرآن الكريم كلمات محددة منزّلة حرفيًا عن ذات الله سبحانه، إنما تعد الكنيسة أن الروح القدس قد ألهم هؤلاء الرسل بما يكتبونه” (334). المصدر أعلاه الأنبا تكلا هيمانوت.

المحور الثالث: الدلالات المسيحية للإنجيل

The third axis: Christian indications of the Bible

دعوني أنقل لكم من موقع الأنبا تكلا هيمانوت هذه المادَّة فأهل مكَّ أدرى بشعابها: يقول المفكر العربي فراس السواح [ كاتب سوري في الميثولوجيا وتاريخ الأديان منذ 1976. ولد في مدينة حمص في سوريا عام 1941 تخرج من كلية الاقتصاد.

في كتابه “ألغاز الإنجيل”  لم يترك يسوع أثراً مكتوباً بل تعاليم شفوية وسيرة حياة، وكانت الجماعات المسيحية الأولى تتناقل أقواله وأعماله كما وصلت إلينا عن طريق تلامذته المباشرين ممن رافقوه عبر مسيرته التبشيرية القصيرة. وعندما مات معظم أفراد الجيل الذى عاصر يسوع حاملين معهم ذكرياتهم وانطباعاتهم المباشرة، بدت الحاجة ماسة إلى تدوين سيرة يسوع وتعاليمه.

وهكذا ظهرت على التتابع الأناجيل الأربعة التي عزيت إما إلى شخصيات من العصر الرسولي مثل مرقس ولوقا، أو إلى تلاميذ مباشرين ليسوع مثل متى ويوحنا، وجميع الأناجيل دونت باليونانية القديمة لغة الثقافة في ذلك العصر.

هنالك إجماع اليوم بين الباحثين في كتاب العهد الجديد على أن يكون إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل وأنه دون نحو عام 70 م أي بعد وفاة يسوع بنحو أربعين سنة، يليه إنجيلا متى ولوقا اللذان دونا بين عامي 80م وعام 90 م وأخيراً إنجيل يوحنا الذى دون فيما بين عام 100 و110. كتاب الإنجيل: كيف كُتِبَ؟ وكيف وصل إلينا ؟ – القمص عبد المسيح بسيط أبو الخير

تدوين الإنجيل Gospel codification

كانت الفترة التي كرز فيها السيد المسيح والتي تبدأ من معموديته من يوحنا المعمدان إلى صعوده إلى السماء والتي تزيد عن ثلاث سنوات فترة غنية جدًا وثرية بالتعاليم والوصايا والأعمال التي عملها والأحداث التي حدثت فيها وكانت هذه التعاليم والأعمال والأحداث أكبر وأعظم من أن يكرز بكل ما قيل وحدث فيها جميع الرسل أو أن يضمها كتاب مهما كان حجمه؛ يقول الإنجيل للقديس يوحنا ” وأشياء آخر كثيرة صنعها يسوع أن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة ” وكان على الرسل أن يختاروا من هذا الكم الهائل من التعاليم والأحداث ما يرشدهم إليه الروح القدس وما يقودهم للكرازة به، وذلك بحسب ما يتلاءم مع احتياج البشرية للخروج من ظلمة هذا العالم والدخول إلى ملكوت الله وبحسب غاية وهدف الإنجيل ذاته الذي هو الإيمان بالرب يسوع المسيح كالفادي والطريق الوحيد إلى الحياة الأبدية وهذا ما حدث تمامًا عند تدوين الإنجيل المكتوب؛ “وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتب في هذا الكتاب (الإنجيل للقديس يوحنا). وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه”.

وقد وجه الروح القدس الرسل للتركيز في كرازتهم بالأخبار السارة إلى اتجاهين؛ الاتجاه الأول هو التركيز على قصة وأحداث وروايات الآلام والصلب والقيامة والصعود وشفاعة الرب الحي الدائمة في المؤمنين ومجيئه الثاني في مجد ليدين الأحياء والأموات، وكانت هذه الأمور هي محور وجوهر وبؤرة الكرازة والإيمان، كما بينا في الفصل السابق؛ والاتجاه الثاني هو تسليم أقوال الرب وتعليمه ووصاياه في ترتيب دقيق ومحكم، وذلك بحسب إرشاد الروح القدس وتوجيهه وعنايته.

ونتيجة لتكرار نفس المواضيع سواء عند الكرازة لليهود في مجامعهم أيام السبت أو الكرازة للأمم في كل مكان، وتكرارها أيضًا في التعليم للمنضمين إلى المسيحية سواء في فلسطين أو في كل البلاد التي كرز فيها الرسل بالأخبار السارة، الإنجيل، فقد اتخذ التسليم الرسولي أشكالًا محددة وأنماطاً وقوالباً ثابتة وصارت الخطوط العريضة لأقوال وأعمال وحياة السيد المسيح والتي كانت تكرر سواء في الكرازة أو التعليم كل يوم محفوظة ومحافظ عليها بدقة وقداسة تفوق الوصف.

وعند جمع الإنجيل وتدوينه أرشد الروح القدس الإنجيليين الأربعة وقادهم كما سبق أن وعد السيد “فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم”، وساقهم وحملهم لجمع وتسجيل وتدوين ما سبق أن وجههم إليه عند الكرازة الشفوية فقد كان الرسل والإنجيليون سواء في حملهم للأخبار السارة والكرازة بها شفويًا أو عند كتابة الإنجيل هم رجال الروح القدس الذي عمل فيهم وبهم وقادهم وأرشدهم وعلمهم وذكرهم (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وكما حافظ الروح القدس على كلمة الله، التسليم الرسولي، أثناء الكرازة وسيطر على عملية التسليم والاستلام والحفظ ولم يترك شيء للصدفة، حمل أيضًا الإنجيليين وقادهم وساقهم وعلمهم وذكرهم بكل شيء قاله وعمله السيد المسيح وكان على الرسل الإنجيليين عند كتابة الإنجيل وتدوينه أن يسجلوا ما سبق أن كرزوا به بنفس الخطوط والترتيب والتركيز على نفس التعاليم والمواضيع التي سبق أنت ركزوا عليها في الكرازة وحفظها المؤمنون عن ظهر قلب، أن يضعوا في اعتبارهم التسليم الشفوي والاستعانة بالمذكرات والملحوظات المكتوبة لكي يختاروا منها بحسب توجيه الروح القدس وإرشاده مع الوضع في الاعتبار أن ثلاثة منهم كانوا من شهود العيان بدرجات متنوعة في صلتهم بالسيد المسيح؛ فقد كان القديس يوحنا أحد الثلاثة الذين كانوا قريبين من السيد والذين شاهدوا أخص أعماله التي لم يشاهدها غيرهم من بقية التلاميذ الاثني عشر مثل التجلي والقرب منه في البستان ليلة القبض عليه ، كما كان القديس يوحنا أيضًا هو ” التلميذ الذي كان يسوع يحبه وهو أيضًا الذي اتكأ على صدره وقت العشاء “، وكان القديس متى الذي هو أيضًا “لاوي” أحد التلاميذ الاثنا عشر وحافظ شرائع العهد القديم، وكان القديس مرقس أحد الذين أتبعوا الرب وكان هناك ليلة القبض على السيد، فهو الشاب الذي أمسكه الشبان وقتها وهرب منهم بإجماع الدارسين، وكانت أمه مريم إحدى تلميذات الرب وكان بيتها هو البيت الذي صنع فيه السيد العشاء الرباني لتلاميذه وكان مقر اجتماع الرسل في أورشليم وأول كنيسة مسيحية في العالم كله وكان مساعدًا للرسل في كرازتهم، خاصة برنابا وبولس وبطرس ، قبل أن ينطلق للكرازة في مصر وغيرها وكانت لديه الإمكانيات لكتابة وتدوين ما شاهده وسمعه بنفسه، كشاهد عيان، وأيضا ما سمعه من الشهود العيان الآخرين الذين استمع منهم جميعًا عندما كانوا يجتمعون في منزل والدته وأيضا عندما كرز مع القديس بطرس في روما والذي وصفه بابنه “مرقس أبنى”.

أما القديس لوقا والذي كان رفيق القديس بولس ومساعده والعامل معه فقد كان لديه فرصة للاستماع إلى جميع الرسل سواء في أورشليم أو قيصرية أو روما وكان زميلًا للقديس مرقس في الكرازة مع القديس بولس، وكان لديه فرصة للاستماع لمريم العذراء، وقد تسلم الأخبار السارة، التسليم الرسولي من الرسل وعرف ما سبق أن دون من مذكرات وملحوظات، ومن ثم فعندما دون وكتب الإنجيل الثالث استعان بما تسلمه شفاهة من الرسل وما سبق أن دون، خاصة ما دونه الرسل أو مساعدوهم الآخرون، وراجع كل شيء وتتبع كل شيء من الأول بتدقيق وحرص، وفى كل الأحوال كان مسوقًا ومحمولًا بالروح القدس الذي قاده ووجهه وأرشده وحفظه وعصمه من الخطأ والزلل، ويبدأ تدوين الإنجيل الثالث بقوله ” لأن كثيرًا من الناس أخذوا يدونون رواية الأحداث التي جرت بينا، كما نقلها (سلمها) إلينا الذين كانوا من البدء شهود عيان للكلمة وصاروا خدامًا لها، رأيت أنا أيضاً، بعدما تتبعت كل شيء من أصوله بتدقيق، أن أكتبها “.

كتب الإنجيليون الأربعة الإنجيل بأوجهه الأربعة محمولين ومسوقين من الروح القدس الذي أخضعوا أنفسهم تمامًا لقيادته وإرشاده.

وكان هناك الإسهام الشخصي لكل إنجيلي وميله وحبه لجانب معين من جوانب حياة الرب وتعليمه مع الوضع في الاعتبار الناس الذين كتب لهم الإنجيل أولًا؛ فقد كتب القديس متى الإنجيل الأول للمسيحيين من أصل يهودي ولليهود عامة، وقد كان هو نفسه بحسب لقبه “لاوي” من سبط لاوي الذي يحفظ ناموس موسى، ومن ثم فقد ركز على الجانب المسياني في شخص السيد المسيح باعتباره المسيح الآتي والملك الذي من نسل داود الذي يجلس على كرسيه ويقيم ملكوت السموات والذي تم فيه جميع ما تنبأ بع عنه أنبياء العهد القديم. وكتب القديس مرقس الإنجيل الثاني للمسيحيين من أصل روماني وللرومان عامة، فركز على جانب القوة في شخص المسيح “ابن الله” وبدأ بالقول “بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله” وأبرز معجزاته أكثر من أقواله ودون الأحداث بصورة موجزة وسريعة وحيوية.

وكتب القديس لوقا الإنجيل الثالث لليونانيين والمثقفين فركز على جانب الصديق والمحب والفادي والمخلص في شخص المسيح، وكان أسلوبه هو أسلوب الطبيب المثقف والرسام البارع والمؤرخ المحقق والمدقق “تتبعت كل شيء من أصوله بتدقيق ” وكتب القديس يوحنا الإنجيل الرابع بعد كتابة الأناجيل الثلاثة الأولى وانتشارها بفترة كافية، فأطلع عليها وأضاف إليها في الإنجيل الذي دونه أحداث وأعمال وأقوال وتعاليم لم تدون فيها، ولأنه كتب للمسيحيين عمومًا وللمتقدمين في الإيمان بصفة خاصة فقد ركز على الجانب اللاهوتي في شخص السيد وبدأ بمقدمة تعلن وجوده الأزلي الأبدي “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله”، وخلقه لكل شيء “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة..” وتجسده في صورة إنسان وشكل العبد “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًا “، كما ركز أيضًا على الجوانب التي تبرز إنسانيته بعد التجسد، وركز بصورة أكبر على هدف وغاية تجسده والذي تلخص في قول السيد “هكذا أحب الله العالم حتى بذل أبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” وفى خاتمة الإنجيل “وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه “.

وفى كل الأحوال فقد دون كل حرف وكل كلمة وكل فقرة تحت إرشاد وعناية وتوجيه ووحي الروح القدس الذي أرشد الإنجيليين لاختيار ما دونوه ودفعهم للكتابة وحفظهم وعلمهم وذكرهم، وفى كل الأحوال فقد حافظ على شخصية كل كاتب وميله الروحي ولكن في الروح القدس وباعتبارهم جميعًا رجال الروح القدس الذي عمل فيهم وبهم. ومن ثم فقد دون كل إنجيلي أحد جوانب حياة وأعمال وأقوال السيد المسيح، أحد جوانب الصورة وأحد أوج الإنجيل الأربعة، وقدم كل واحد منهم شهادة مستقلة للمسيح في ركن من أركان الأرض ولجماعة معينة من الناس وبذلك قدموا الإنجيل لكل الناس في كل زمان ومكان.

وقد اتفق كتاب الإنجيل في تدوين مواضيع مشتركة بينهم جميعًا من أعمال وأقوال السيد المسيح، كما اتفق كل اثنين منهم في تدوين موضوعات لد يدونها الآخران وتميز كل واحد منهم بتدوين أقوال وأعمال لم يدونها الثلاثة الآخرون ؟ فقد اتفق القديس يوحنا في تدوين حوالي 10% مما دونه الآخرون وتميز بتدوين حوالي 90% مما لم يدونه غيره، واتفق القديس متى في نفس المواضيع مع القديس مرقس والقديس لوقا في 58% مما دونه وتميز 42% مما لم يدوناه، واتفق القديس مرقس فيما دونه مع القديس متى والقديس لوقا في 93% وتميز عنهما في 7% فقط، واتفق القديس لوقا فيما دونه مع القديس متى والقديس مرقس في 41% وتميز في 59% مما دونه ولم يدونه الآخرين.

ولا يرجع هذا الاتفاق أو التنوع والتميز إلا لغنى وتنوع وعظمة ما عمله وعلمه السيد المسيح ولتميز كل إنجيلي بميل روحي لأحد جوانب حياة وأعمال وأقوال المسيح، فقد كان ثلاثة منهم شهود عيان بدرجات مختلفة كما استلموا أيضًا من شهود عيان آخرين ونقلوا عنهم، وكان الرابع مساعد لشهود العيان وكارز بالكلمة لسنوات طويلة، وأيضا لإرشاد وتوجيه ووحي الروح القدس.

وهكذا صار لكل وجه من أوجه الإنجيل الأربعة مميزاته الخاصة تبعًا لكاتبه ونوعية الناس الذين كُتب إليهم، وقدم الأربعة صورة متكاملة لشخص وأعمال وأقواله الرب يسوع المسيح، وأكمل كل جانب منهم الجوانب الثلاثة الأخرى.

ولذلك فقد صورت الكنيسة الأناجيل الأربعة بأنهار جنة عدن الأربعة وأوجه الكاروبيم الأربعة، فوصفت الإنجيل للقديس متى بالكاروب الذي على صورة إنسان والإنجيل للقديس مرقس بالكاروب الذي على صورة أسد، والإنجيل للقديس لوقا بالكاروب الذي على صورة ثور، والإنجيل للقديس يوحنا بالكاروب الذي على صورة نسر ] انتهى النقل والاقتباس.

نهاية الكلمة word end

صيغت المواعظ والحكم والإرشاد والهداية السلوكي العيسوي ( جملة معنى كلمة إنجيل) في شكل أحاديث مقتضبة تحاكي الأحاديث النبوية المحمدية في الصِحَاح بيد أنَّ العهد الجديد والعهد القديم – وإن كانا يحملان ذات الملامح والشبة حد التطابق إلَّا قليلاً – ضيف لهما في السياق والصياغ الحدثي والحديثي ما هو أشبه أو أقرب للسيرة النبوية المحمدية في كتب السِيَر المشهورة؛ في حين وجود قليل من الاختلاف بينهما / راجع المحور الثالث هنا / علماً بأن الحديث النبوي الشريف المحمدي مفصول ومفصَّل في كتب متعارف عليها باسم كتب الصِحَاح ذات الأحاديث النبوية التي أيضاً تحمل طابع العظة والتقويم الرشيد والهداية والنور؛ وكذلك حركة حياته كلها التي سبق القول فيها وعنها في كتابنا “الفكرة الإنسانية العالمية”، من أنها تحمل السيرة الذاتية للنبي لا النبوية – عليه أفضل الصلاة والسلام – في كتب منفصلة تماماً عن الصِحَاح والمعروفة باسم كتب السيرة النبوية كابن كثير الدمشقي وابن هشام وهلم جرا؛ وبينهما تداخل / الصِحَاح والسيرة / كما لا يخفى على ذي عينين.

الأمر الثاني الذي يحتاج لوقفة متعمقة ودراسة متأنية هي ما يعرف في الوسط العقلي المحمدي بالأحاديث القدسية التي تضاهي أو تبادل أو تحاكي أو تماثل أو تكمل وتتمم النص القرآني بين الفينة والأخرى في حين القرآن الكريم حوى بين دفتيه كل ما أرادت السماء أن توحيه لأهل الأرض؛ مما يغني عن الإعادة ههنا ولا أعلم صحتها فعلياً من عدمها.

ليس هذا كل ما أردت قوله لكنه ما اسعفتني به الفكرة والذاكرة وعسى الله يكتب لي أجلاً مسمى عنده لأكمل ما عساه يفيد الناس؛ وبالله التوفيق.

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(332) الجامع لأحكام القرآن جـ 3 ص 5 – 6.
(333) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 5 من شبكة الأنترنت.
(334) علي زلماط – دراسة في إنجيل لوقا ص 12.
(335) تفسير الكتاب المقدَّس للمؤمن – العهد الجديد جـ 1 ص 43.

https://anbaaexpress.ma/nqzps

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى