تمتلك روسيا أكبر ترسانة نووية في العالم تقدر بـ6 آلاف رأس نووي. درج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كما الرئيس السابق، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف، في الأشهر الأخيرة، على التهديد باستخدام سلاح الدمار الشامل إذا ما تعرّضت البلاد للخطر. لم تلحظ أجهزة الاستخبارات أي تحرك ميداني نووي يوحي بجدية الأمر. لكن العواصم الغربية، من واشنطن إلى كانبيرا وطوكيو، مروراً بتلك التي في أوروبا، حبست أنفاسها خلال الساعات العصيبة التي مرت بها روسيا إثر تمرد “فاغنر” ومالكها يفغيني بريغوجين.
تحدثت تقارير عن تخوّف دولي عام من وقوع الأسلحة الروسية النووية في أيدٍ قومية متطرّفة قد لا يكون بريغوجين إلا الواجهة الأقل سوءاً لها. خشيت العواصم الغربية، لا سيما في أوروبا القريبة، من أن يصبح التهويل البروباغندي القديم لبوتين وصحبه واقعاً داهماً يهدد الأمن الاستراتيجي العام لبلدان المنطقة. ومن يراقب ردود فعل لندن وباريس وبرلين وواشنطن… إلخ، ومن يراقب كثافة الاتصالات التي أجراها الرئيس الأميركي جو بايدن مع الحلفاء في العالم، يستنتج لهجة الحذر في ترداد كلمة سرّ ركيكة واحدة: “إنه شأن داخلي روسي”.
في البدء لم تقلق العواصم من خطاب بريغوجين وعملية إخراج قواته من مواقعها في أوكرانيا صوب مدينة روستوف، ثم سوقها “فاتحة” باتجاه موسكو. لكن القلق أتى من موسكو. بدا أن ما يصدر من هناك يفضح جسامة الأمر ويكشف عن ارتباك وتلعثم يقترب من عوارض الانهيار.
تحدث بوتين عن حدث يشبه ذلك عام 1917. أعلنت موسكو الأحكام العرفية. أُقفلت بعض الطرق صوب المدينة بالحواجز الترابية. نقل المراسلون صوراً مباشرة عن شاحنات كبرى تصطف على حافة إحدى الطرق جاهزة لقطعها حين تؤمر بذلك. مُنع عبور السفن عبر نهر موسكو. وأصدر الكرملين بياناً غريباً يؤكد وجود الرئيس في مكتبه. وصدر من “الدوما” من ينفي نزوع البلد نحو الحرب الأهلية في وقت كانت فيه أرتال “كتيبة أحمد” الشيشانية تتوجه نحو روستوف. وفوق ذلك، خرج أحد خبراء الأمن والدفاع الروس من موسكو يقول لفضائية عربية إن لا قوات احتياط كافية في المدينة لردّ القدر القادم.
اللحظة غامضة حرجة مخيفة إلى درجة أن واشنطن طلبت من كييف عدم ضرب أهداف داخل الأراضي الروسية، فيما امتنعت العواصم الغربية عن صبّ الزيت على النار، وتكاد مداخلاتها تدعو للصلح والوئام. واللحظة مربكة إلى درجة أن دولاً حليفة وصديقة صمتت ولم تتسرّع في إصدار مواقف داعمة لبوتين ونظامه السياسي.
لم تصدر بيانات الدعم المأمولة من دول مثل الصين والهند وإيران والهند وأفريقيا الجنوبية، إلا بعدما لاحت أولى علامات التسوية التي أنهت هذا التمرد. واللافت أن إيران ألحقت موقفها الداعم لموسكو بتذكير أنها ترفض الحرب في أوكرانيا.
ما زال من غير المفهوم لماذا لم يتدخل الجيش الروسي منذ اللحظات الأولى لصدّ بريغوجين وقواته، وما زالت التقارير بشأن انقلاب داخل الجيش غير واضحة. والأرجح أن بوتين لم يعط أوامر في هذا الشأن.
أولاً، لأن الأمر استنزاف لقوى روسية في عزّ الحرب في أوكرانيا. ثانياً، لأنه يسهل بدء حرب جديدة من العسير الخروج منها، وحرب أوكرانيا مثال ساخن. ثالثاً، لأن حكم بوتين للبلد بالحديد والنار ينزع عنه هيبة الحوكمة من خلال إدارة الصراعات بين موازين القوى وليس في أن يصبح طرفاً داخل هذه الموازين. ناهيك بعدم اليقين من ولاء الجيش في صراع من هذا النوع. رابعاً، لأن استخدام الخيار العسكري ضد فاغنر لن يترك لبريغوجين وقواته إلا خيار العنف المضاد بأقسى مستوياته على طريقة “عليّ وعلى أعدائي”.
بدا واضحاً أن ما جرى في روسيا ليس شأناً داخلياً له مفاعيل ونتائج ومآلات داخلية. وأن الاحتمالات السوداء التي لمّح لها بوتين بإثارته سابقة عام 1917 ستطيح كل التوازن الدولي الراهن.
بدا أن العالم، لا سيما الغربي منه، كان قد فوجئ بانهيار الاتحاد السوفياتي، لكن البلد كان أضعف من أن تعبث فوضاه باستقرار العالم. بدا للاستراتيجيين أن سقوط موسكو وغموض مآلات الاحتمال سيغير الخرائط داخل روسيا وخارجها، وسيبدّل من التوازنات بين الصين والولايات المتحدة وقواعد اللعبة بينهما.
حدّق المراقبون بعين في ما يجري على الطريق بين روستوف وموسكو، وراقبوا بعين أخرى ما ستكون عليه تداعيات الحدث على سوريا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى وموزمبيق ومدغشقر وليبيا والسودان… إلخ.
عواصم هذه الدول التي تملك موسكو أجندات ونفوذاً داخلها كانت شديدة التوتر والقلق من ضجيج في روسيا لم يُحسب له أي حساب ولا أحد تجرأ يوماً على تخيّل احتماله.
لم يكن قلق العواصم مبالغة. كان الأمر شديد الخطورة، وكان بوتين أول من استشعر جسارته. تحدث الرجل عن “خيانة” واعداً بإنزال أشد العقوبة بالخائن. بعدها بساعات فقط أبرم مع ذلك “الخائن” اتفاقاً. وفي المعلومات أن رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو كان واجهة لاتفاق دُبر في روسيا من خلال قناة اتصال بين أنطون فاينو رئيس موظفي الإدارة الرئاسية في الكرملين وبريغوجين.
وعلى الرغم من أن نصّ الاتفاق يقضي بتحصين بريغوجين وجنوده من أي عقاب، فلا أحد يثق بتلك الحصانات. فحتى الإعلامي الروسي الشهير دميتري كيسليوف الذي يعتبر صوت بوتين ولسانه عرض مقابلة قديمة للرئيس الروسي يقول فيها إن “ما لا يغفره هو الخيانة”. ومع ذلك فإن الروس تنفسوا الصعداء وانخفض قلق الخارج معهم أيضاً بانزياح غيمة سوداء من غموض ورعب عن سماء العالم.
لن ينسى الروس هذه الساعات ولن تعود روسيا إلى ما كانت عليه قبلها. دروس التاريخ في هذا البلد كما تجارب بوتين نفسه في الحكم لا تشي بأن الأمور انتهت. كان الأوكرانيون يعوّلون على تفاقم تلك الأزمة لإضعاف قبضة روسيا في بلدهم. لم يحصل ذلك، لكن الحدث قد يؤسّس لبدء نهاية هذه الحرب بالقوة العسكرية أو بالتسوية القهرية. لكن في العالم، وحتى في روسيا نفسها، من يرى أن الحدث أيضاً هو بداية لانتهاء البوتينية التي تحكم البلد منذ 24 عاماً. حتى بوتين أدرك ذلك فقرر تحسّباً تزويد الحرس الوطني (المكلف بحمايته) بالدبابات والأسلحة الثقيلة.
بدأ حدث روسيا برسائل مصورة لبريغوجين من خلال تطبيق التراسل “تلغرام” قادت إلى الزحف صوب موسكو. الأمر يذكّر بتغريدات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على “تويتر” والتي قادت في 6 كانون الثاني (يناير) 2021 إلى زحف مناصريه نحو مقر الكونغرس في واشنطن.
في الحالة الروسية تحدّث بوتين عن انهيار 1917، وفي الحالة الأميركية تخوّفت كل البلاد من العودة إلى الحرب الأهلية المندثرة (1861-1865) وآلامها. وفي الحالتين ما يكشف هشاشة أمم كبرى تبدو محصّنة من أي انهيار، معرّضة للمحظور في لحظة تاريخية حرجة خارجة عن أي حساب.