آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات.. إشكالية المقاربة (21)

ضرورة التأويل وإنتاج السّنن

الخطاب بالفعل منتج لسياق، وملاحظة السياق في فهم وتحليل الخطاب قضية حيوية لا غنى عنها. يُظهر الخطاب بقدر ما يُخفي، تلك هي طريقته لأنّه لا يملك أن يظهر كل المعنى، بل يظهر ما هو حاجة يتوقّعها من المتلقّي، والباقي هو مسؤولية هذا الأخير في استنطاق النّص باستمرار، وهي عملية لا تتوقف في الزمان ولا في المكان.

وسوف نواجه دعوات شتّى، لا جديد فيها ولا مخرج ولا بديل، وبدل أن نملك أدوات تحليل الخطاب نسعى لافتراض إشكاليات ليست هي جوهر الإشكال، فالعقل حين يمرض ينتج خطابا مأزوما، وإصلاح العقل هو الطريق لتفادي مرض الخطاب. نسمع دعوى لتبنّي القرآن ونبذ السّنة ولكن بأي منهج؟ سنلتفّ مرة أخرى على الإشكالية ونخضعها لعقل القياس، قرآنيون سينتجون أفهاما من داخل القرآن من دون سنّة، وهم بذلك سينتجون سنّة أخرى، هل توجد هناك آلية تضمن أن نقع في معارك التأويل؟ لقد كان هذا هو الوضع، حرقت القرائن زمن عثمان ووحدوها على قراءة زيد، ولأنّ العصر كان قريبا من زمن التنزيل قال عليّ لابن عبّاس في المفاوضات التي انتهت إليها حرب صفّين: (لا تحاججهم بالقرآن فإنه ذوو وجوه ولكن خاصمهم بالسنة فلن يجدوا عنها محيصا).

وهذا يعني أنّ وظيفة السّنة ابتداء كانت هي الحسم في المعنى وإنتاج البيان الأخير بينما القرآن يحتاج إلى تأويل، وهو حمّال معاني ووجوه، وعند أي تأويل ينظر في السّياق، فمجال التأويل هو مختبر صناعة المعنى.

لكن بعد قرن – أولى عمليات تدوين السنة كانت في القرن الثاني الهجري- من عدم الرقابة على السّنة تم تدوينها ولم تخرج من هذا الخلط بين الصحيح وغيره حتى اليوم، لأنّنا بدل أن ننتج سنتنا بقياس حكمة العالم على الكتاب، حددنا لأنفسنا مهمّة غير تاريخية هي: هل صدر هذا عن صاحب الدعوة أم لا؟ لكن في النهاية لم نهتمّ بتأويله، وبعد أن جاء النهي عن استعجال تأويله(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)/طه(114)، أصبح الأمر معكوسا لمّا أجّلنا تأويله واكتفينا بتكرار الشّرح بلا تأويل ولا تدبّر، وإذا لم نتمثّل هذه المهمّة اليوم فإنّنا لن نكون قادرين على تفادي المآل، لأنّ التأويل من الأوْل والمآل، وفي المآل يكون تأويله بالتّحقّق تكوينا، فالتأويل إذن هو في نهاية المطاف شكل من استشراف المعنى والعمل على مقتضاه، فمن لا يؤِّل يُؤوَّل:(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)/ الأعراف 53.

فالسنة في نهاية المطاف هي منتج قرآني، لكن سيتسلسل الإشكال ولن نحظى بقرأنة الخطاب الدّيني تفاديا لفوضى الرواية. القضية محسومة منذ قرون: عقل الحديث عقل دراية لا عقل رواية، لكن التجزيىء فرضته الحشوية والعقل القياسي.

المشكلة ليس في هذه التمثّلات المُغالطة، بل في استراتيجيا تدبير المعنى واستنطاق النّص، فللنّص نزول تاريخي وأكثر من نزول تأويلي، وهناك ثلاث مراحل:
– مرحلة أسباب النزول، وهي مرحلة بيداغوجية بامتياز.
– مرحلة التفسير، وهي مرحلة تطبيقية
– مرحلة التأويل وانتهاء التنزيل.

في كل هذا لا نتحدّث عن اللوح المحفوظ، بل عن تنزيل، وفي تلك المرحلة كانت آلية التفسير ممكنة وصاحب الدعوة ضامن لاستقامة المعنى، وحين انتهى زمن التنزيل.

دخل قوم كثير إلى هذه المرحلة مندهشين، ولسان حالهم: (حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا)/محمد(16). فالكثرة غير مستوعبة ، وقد وصفوا: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)/ العنكبون(63)، وهي لا تنطبق على المشركين والمنافقين كما هو سبب نزول الآية، بل تصدق على سائر التجمعات، لأنّ اللاّعقل موزّع أيضا بالسّوية، ففي كل اجتماع هناك قوم لا يعقلون.

لقد دخلوا عصر التأويل بنمط التفسير، والتفسير من الفَسْر أي إظهار بالبيان والنقل بينما التأويل هو قياس منطقي مع ضبط وتحقيق الوظيفة في الوسط أي استنطاقا للنّص في سياق يفرض حاجة ملحّة وينتظر معنى خاصّا وينشئ حكما ووظيفة، في التنزيل تكون العبرة بالسبب وفي زمن التفسير تكون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لكن في طور التأويل تكون العبرة بالمآل انطلاقا من الأوْل، منح النص فرصة لكي ينطق في سياقات جديدة، فشلوا في الدخول إلى زمن التأويل وعجزوا عن تدبير المعنى خارج منطق التفسير فعادوا إلى القياس.

أعود إلى السّنة، ولأنّها عقلت عقل رواية لا عقل دراية لم تعد قادرة على تحصين نفسها من الاختراق، ذلك لأنّ السّنة هي محصول الفهم، بينما السّنة تعرّضت للوضع، ولأنّ آلية تحصين السّنة ضاعت في فنون علم الجرح والتعديل، التفّ العقل القياسي مرة أخرى ولاذ بقاعدة البتر، فعزّز ما رواه الثّقات توهّما ورمى بالصحيح لمّا تعذّر أن يستوفي شروط الصحّة في الرواية لا في الدراية.

جعل القرآنيون القرآن بديلا عن السنة لا معيار لتصحيحها، فلم تعد توجد هناك آلية للحسم في منتوج حشوي، ودعاة الإصلاح زادوا الطين بلّة، وعادوا إلى القرآن فلم ينتجوا منه ما يجيب على تحدّيات العصر، وكان أحرى أن ندرك بأنّ السنة غير جامدة، وبإمكاننا أن ننتج سنّتنا أيضا إذا سلكنا الطريقة ذاتها التي سلكها صاحب الدعوة وهو يقدّم دروسا في تأويل النّص حين لا تكون هناك حاجة لاستنزال الوحي وهو ما نعتبره تجددا للإنزال تأويلا، فكل كلام قيس بالكتاب ووافقه فهو سنّة، قاله النبيّ أو لم يقله – قلته أو لم أقله، كما في الرواية -، فالمناط في تسنّن القول هو قرأنته، وقرأنته بالعرض على الكتاب، فكل هذا التراث الإنساني لو عرض على منطوق ومفهوم القرآن ووافقه فهو سنّة، تسنين كل قول معقول أو منقول، وهي مهمّة من شأنها توسيع معنى السّنة ووضع حدّ لهذا التّرنّح، يصبح التأويل مخرجا، ولكن التأويل يتطلّب عقلا ناظما، وهو عقل يأنس بالاحتمال ويعيد نظرته للعالم وللنص باعتبار العالم في حركة دائبة، منظور مختلف عن الوجود والماهية والزمان والمادة والعقل والإنسان(للوقوف على جوانب من التأويل انظر كتابي: محنة التراث الآخر، لا سيما بخصوص التأويل توحيد القراءات، وأيضا كتاب: الإسلام والحداثة، ففيه عرض لآلية التأويل وجانب من تطبيقاتها على مفهوم الحضارة وقضايا أخرى)..

وفي الختام، ليست تلك سوى إشارات يراد منها وضع اليد على الجرج في مزاعم الخطاب الديني بما فيه المعاصر القائم على القياس، وطريقة تمثّلاته التمثيلية وتهريب المفاهيم والعودة إلى الماضي عودة ملتبسة تجعلنا أمّة بلا تاريخ سالك ولا بنية متفاعلة. فالعقل مأزوم والخطاب منتج لعقل عاجز عن خوض الراهن والمستقبل بشجاعة معرفية تجعله يتدارك العجز التاريخي عن دخول عصر التأويل، وبأنّ المخرج الحقيقي من هذه الأزمة لا يمكن أن يتمّ انطلاقا من عقل لا زال وفيّا لعناصر الأزمة، و بأنّ ما يروج في مشهدنا هو مزاعم لا زالت تحوم في السّطح، وبأنّ ما يسمّى مُراجعات هي استغفارات وتوسّلات محتالة تركب المفاهيم وتساهم في تمييع ما لم تكن جزء من صناعته، فهي في نظري طفيليات تكسّبية تنمو داخل بيئة الفوضى وتشوّش على ثورة العقل، فالتجديد يستهدف العقل وبنية التفكير ولا ينشغل بنوازل عقل مأزوم وتفاصيل بنية تفكير فاسدة، وما لم يخرج الخطاب الدّيني من هيمنة قياس إبليس وما لم يكتشف طريقة التأويل التي تلاحظ السياق الزماني والمكاني وتجعل التأويل بمثابة آلية لإنتاج وصيانة الخطاب في سياقه، لن نكون أمام تجديد حقيقية، فثمّة تجدد في الإنزال يقتضي تجدّدا في الخطاب. التأويل مفتاح، والمفتاح يصدأ والأقفال تتعطّل، ولا يمكن استقبال المعنى بقياس إبليس ولا امتلاك المفاتيح من دون تأويل: تأويل النّص في نزوله وسياقه، كان المعنى ينزل عموديّا وباتت المهمة هي أن نلتقط المعنى أفقيّا، ومن الاستيعاب الأفقي للمعنى نستطيع اختراق الآفاق أيضا، فالعقل يتعطّل من خلال برامجه التي يخضع لها، والبرامج نفسها تصل إلى الباب المسدود، أمامنا مهمّة كبيرة لم ننجز منها حتّى الشّق الإبستيمولوجي فكيف نستطيع تحقيق الحضور الأنطولوجي؟ نحن متخلّفون ونعاند…

https://anbaaexpress.ma/n4qsi

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى