آراءثقافة

المدارس النقدية.. بين البيئة وتأثيرها على الشاعر في العصر الحديث

عبد الله الطيب حين ينظم الشعر ينظمه متأثرا متأعصرا بالبيئة وما أسفر قائلوها من قصائد ومن معاني ومن أغراض، ولكنه حين ينتقد أو يحلل القصيدة فإنه لا ينظر إلي بيئة الشاعر وإنما يدقق في الصور البيانية والأغراض والأساليب حتي يتعرف علي الحالة الإجتماعية له من خلال وصفه لها، وهذا يعني أن / عبد الله الطيب يمزج بين المدرستين وهو أقرب إلي الثانية أو يمكن أن يقال يشكل مدرسة ثالثة هي المزج بين المدرستين راجع كتابه { مع أبي الطيب المتنبي / ط: 1968 م } كما سيبدو لاحقا والذي إختلف تماماً عن صاحبه د / طه حسين فإنه يتعرف إلي الشاعر من خلال البيئة ودرسه لها التي أخرجت ذلكم الفن وهو بها كلف للغاية، بل هي أم المدارس العصرية الحديثة كما يظهر بوضوح في كتبه: { من أدبنا المعاصر – من تاريخ الأدب العربي – ألوان – خصام ونقد } أما عبد الله الطيب فيظهر أمر المدرسة الثانية وهي نظم الشاعر الفني للتعرف علي البيئة وما فيها من تقارب وتباعد في تكوين شاعريته وفي ذلك يقول: { والشعر مثل كل تأليف يراد به الصنع والخلق والأبداع لابد معه من صراع ومعاناة (مقدمة ديوانه أغاني الأصيل ص12 / ط2 /1979م).

هذا ! وإنما إختلف بين المدرستين الأستاذ / عباس العقاد ود / طه حسين عن كتابة العقاد كتابه عن إبن الرومي ولسبب ما قال طه حسين: { العقاد شاعر } وقيل إنما أراد لنفسه الفسحة في النثر والله أعلم، وليس بضآر أحد أن ينتمي أو ينتسب أو يغترف من أيهما شاء، ومراد ذلك هو زيادة البحث والإطلاع لما فيه الفائدة ، وقد ينتصر طه حسين، على العقاد وقد يكون العكس، ومثل هذا كثير عندنا في الشعر السواني كالناقد الدكتور / عبد القادر شيخ إدريس أبو هاله؛ في كتابة { الناصر الشيخ قريب الله.. حياتة وشعره ( ط: 1998 م ) دار البلد } فإنه أخذ الأخير كما أخذ أستاذه الطيب في كتابة { كلمات من فاس ط: 1986 م – تقريباً } الشاعر أبو تمام في النقد والتحليل من خلال النظم، أما أبو هاله فالبيئة وحال المجتمع المعاصر له قريب الأسلوب والنفس من المجذوب وهو ذو دربة وملكة في اللغة بلا شك، وإنتصر المرحوم الدكتور / صلاح الدين المليك في كتابة { شعراء الوطنية في السودان ط: 1973 م } للمدرسة الأولي إلا أن الغالب علي كتاب أبي هاله { الناصر }.

هو الشاعر للتعرف علي البيئة وقد أسرف رحمه الله أيما إسراف في نقد وتحليل وإطراء علي صاحبة الناصر حتي كاد أن يخرج من عباءة الموضوع، وما هو أحب إلي أن آخذ في التعرف علي الشاعر من خلال البيئة مخالفا أستاذي / عبد القادر شيخ إدريس أبو هاله، كما أشير هنا إلي أن الشاعر / محمد محمد علي الناقد الكبير عنيف جداً فيما يكتب من نقد أو من رأي وهو أقرب إلي المدرسة التي تقول بالتعرف علي الشاعر من خلال البيئة وذلك في كتابة { محاولات في النقد، ط: 1958 م }.

وما يجدر أن ينبه إليه في كتاب أبي هاله عن الناصر نفسه رحمه الله تأثره بالبيئة حوله ويلخصها تلخيصا في شعره ، ولا أبالغ إن قلت أن شعره العاطفي لا يرقي لمستوي شعر التجاني يوسف بشير فالتجاني أشعر من الشابي ومن الناصر ، وإدريس جماع أشعر الجميع والعباسي أمير عليهم وقد إنتهج أبو هاله نفس النهج الذي في تحليله للعباسي { وقفات مع العباسي ط / 1976 م }، أما عبد الله الطيب فيصر أن التعرف علي البيئة لا يتم إلا من خلال الشاعر قال: { ثم أساليب القصائد المادحة في العصر الواحد تختلف بإختلاف الشعراء وبإختلاف السياسات التي كانت تهيمن علي دولهم أو ما هو بمنزلتها } وفي موضع آخر من نفس الكتاب مع أبي الطيب: { ولعله يكون من الدراسة الممتعة أن نعرض لشعر المدح في أمير بعينه في فترة بعينها لنجعل ذلك طريقة إلي فهم إمارته ومجتمعه } وأيضاً { وأن نعرض لمدائح كل شاعر لنعرف مدي قدرته علي الخلق والإبداع بعرض الصـــــــور المــــخالفات كما هي مختلفات ( مع أبي الطيب المتنبي / ص8، ص9 / ط / 1968 م ) } وهذا أحب إلي من رأي أبي هاله رحمهم الله جميعاً.

كتب الدكتور / صلاح الدين أبوبكر المليك كتابه { شعراء الوطنية في السودان – ط / 1973 م } وتعرض فيه للحقبة التاريخية السودانية منذ عهد / محمد علي باشا ودخوله السودان – 1821 م ثم شعراء الثورة المهدية والحكم الثنائي والمحدثون إلي وقته الذي كتب فيه الكتاب، فهو بذاك السفر القيم قد تعرف إلي البيئة من خلال شعرائها والفترة تزيد علي المائه والخمسين سنة، إذا هو قد صور الحراك السياسي والإقتصادي والإداري والفكري والأدبي وما إلي ذلك وقد سطر حقبة تاريخية كبري ودرس وحلل وإنتقد ووصف وقدم وأخر فيمكن الركون إلى أنه تعرّف وعرّف تعريفا جيداً الوضع الحياتي للشعراء آنذاك، ومن أبرز شعراء تلك الفترة هم: محمد عمر البنا وحسن طه، وصالح جرجس بطرس، ويوسف مصطفي التني، وصلاح أحمد إبراهيم وعبد الله الطيب، وقد ركز كثيرا علي المعاصرين له كما هو واضح في الكتاب وتعدد مصادر ه إلا أنه أغفل الشاعر الكبير / محمد محمد علي ومنير صالح عبد القادر وتوفيق صالح جبريل فهم من شعراء القرن العشرين بلا ريب..

حركة اللواء الأبيض 1924 م بدأت بالجمعيات الأدبية وكانت نواة للتغيير السياسي لحكم المستعمر فهي التي أججت الحماس الوطني والشعور القومي بقلة متعلمة من خريجي مدارس غردون وأفذاذ مؤتمر الخريجين ونفخت فيهم جذوة القومية وطرد الإنجليز، ومثل هذه النشاطات السرية كانت أو العلنية أعقبتها نفحات تحرر لم تكن متخيلة من قبل في الإطار المحيط للعرب، فما أن إنجلي المستعمر حتي تكونت الجمعيات الأدبية والثقافية وما يجري مجراها بل إتسعت رقعة العمل الأدبي في الدور الثقافية وإنشاء المكتبات وإقامة الندوات والمجالس والصالونات والقهاوي – جورج مشرقي نموذجاً – ليتسع بعدها مفهوم التحرر والديمقراطية والتعدد الحزبي وإنطلق تكوين الأحزاب السياسية مثل الحزب الجمهوري بقيادة الأستاذ / محمود محمد طه 1945م، والحزب الإتحادي الديمقراطي بقيادة مولانا / علي الميرغني 1953 م، وحزب الأمة القومي بقيادة السيد / عبد الرحمن المهدي 1946 م ثم تعددت الأحزاب من بعد، كحزب الأشقاء وغيرهم إلي الآن { 1989 م – 2023م } أكثر من مائة وخمسين حزبا سياسا يحمل برنامجا قوميا وسياسيا بغية التغيير والإلتفاف حول مفاهيم جديدة، كل ذلك كان نواته الجمعيات الأدبية، بمعني أدق من ذلك أن سمات التغيير هي الآداب والفنون ثم الإتجاهات الإنسانية الأخري ليكون الإنسان نفسه هو عنصر التغيير المستمر للحياة حوله وللآخرين.

يخلص من ذاك أن البيئة لها الدور الأول في إعمال الحراك الإنساني عامة نحو أفضلية الحياة وإخصابها في شتي الميادين التي يتحرك فيها الإنسان وتمد له من أسباب الراحةما يكون كريما بها.

الشاعر عند العرب كالنبي في بني إسرائيل هو رسول إليهم وهو منبئهم وهو لسانهم المتكلم عنهم في المناسبات جميعها، واليوم في العصر الحديث حلّ محلها الأدوات الإعلامية الأخري مما هو معروف كالإذاعة والتلفزيون والقنوات الفضائية والتكنلوجيا الرقمية وغيرهم حتي ضاق علي الشاعر اليوم أن يكون هو واحدا فقط ليتكلم بإسم الجماعة، وحتي إذا ظهر الشاعر نهل من مادته الجديدة فيصورها أدق التصوير ويتفنن فيها أحسن ما يكون الإفتنان ويستمد قوته حين يستمدها في العصر الإسلامي الأول والحديث والأخير من القرآن الكريم قال تعالي : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } سورة الحجر، ولا يسلم شاعر من سقطة أو ذلة حين يلقي شعره أو ينظمه أو يقرأ له إلا إنبري له حاسد أو متمكن من أمره ليستقيم القول الصحاح من مستمد مادتة اللغوية العربية ومثل هذا أمرؤ القيس الكندي { جندب بن حجر } وهو من أشعر الشعراء إطلاقا وقدمه النقاد حتي إنبري له أبوبكر محمد الطيب بن الباقلاني، والباقلاني نفسه إنبري له عبد القاهر الجرجاني وكلهم إنبري لهم أديبا العصر / طه حسين وعبد الله الطيب المجذوب، قال:
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح

مما سبق يتضح أن الإنتماء في هذا المقام للمدرسة التي تقول بالتعرف علي البيئة من خلال الشاعر والعكس تماماً ما قاله الناقد الضخم / عبد الله الطيب في كتابة { مع أبي الطيب، ط: 1968 م } بأنه يتعرف علي الشاعر من خلال البيئة وهو يتوافق مرات مع الأولي وما يلبث أن يفر منها فرارا ومرات مع الإثنين معا ولكن الغالب عليه عند درسه للشعر العربي والآداب قديمها وحديثها المدرسة الثانية وقد جعل لنفسه رمزا في ذلك ، أنظر إلي كتابة المشار إليه آنفا عند ذيله، قال : { هذه خلاصة محاضرتين ألقيتا بكلية الآداب ببغداد بتاريخ: 12 / 11 / 1967 م والأخري بالبصرة يوم: 22 / 11 / 1967م وعنوان المحاضرتين ( المطالع ومداخل النسيب في الشعر العربي ص 193 ) } وقد أفرد لها جزءا كبيرا في مجلده { المرشد إلي فهم أشعار العرب وصناعتها / ط: 1991 م – الرموز والــــــكنايات والصور – ج 3 } فهذا يؤكد ما ذهبت إليه وأيضاً كتابه { كلمات من فاس / ط : 1986م – القصيدة المادحة ومقالات أخر ط: 1973م } كما يظهر من شرحه لمعلقة سويد بن أبي كاهل اليشكري ( العينية ) ويلحق بها شرحه لبائية علقمة الفحل ( طحا بك قلب في الحـــــــسان طروب – شرح أربعه قصائد لذي الرمة ).

عبد الله الطيب حين يشرح يكون قد خلص لشاعرية الشاعر من فهمه هو للبيئة التي عاشها الشاعر نفسه وكأنه أمر لا معدي عنه ثم لا يعيرها بالا – أي البيئة – حين يبدأ بالشرح والتفسير وإنما يعكس الآية بالصور والرموز الدالة عليه .

في النقيض تماما د / طه حسين { 1883 م – 1973 م } يبدأ بالعكس ويجعل الحياة خصيبها وجديبها هي ديدن الشاعر ولا يتعدي إلي غيرها لذهابه لتأكيد رأي فيه بصورة أو بأخري وهدك من كتابه: { مع المتنبي / ط : 1936 م } فهو يجعل عمود قرآءته وآراءه حركة الشاعر وتقلبه مع صروف الحياة سلبا و إيجابا وهو بذلك زعيم متفنن لا يجاري ولا يباري و أميل لرأيه في هذا الباب و إن كنت لا أخرج من جلباب الأول .

https://anbaaexpress.ma/dmv4k

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى