آراءثقافة

محنة التَّمَوْجُد؟

تظلّ اللغة هي الوسيلة التي بها نحيا. هي وسيلتنا إلى الحقيقة، ووسيلتنا إلى الزّيف. هي تعبير عن إرادتنا كما هي تعبير عن ضعفنا وهشاشتنا. فمن دون اللغة، يخيم الظلام على وجودنا، هو العدم.

نحيا، إذن، باللغة وفي اللغة، ولا شيء منّا وبنا وفينا، يحدث خارج اللغة. فصمت الوجود غير ناطق إلاّ من خلال لغتنا، وأيّا كانت مراتب الوجود، فاللغة مناسبة لمراتبه، فالوجود المتعالي تعبر عنه أبلغ المجازات. لكن لغتنا التي تعاني من فقر في الخيال وتراجع في المجاز، أضاعت فكرة الوجود بين كان التّامة وكان النّاقصة.

حضور اللغة المستبد، يعوّض لغة الوجود المنسي/المنسيّة، حين نريد استظهار وجودنا، حين تستبدّ بنا غواية الظهور والانكشاف الذي لا مناص هيدغيريا من أن تجد للوجود نفسه كمعطى وانكشاف، سُكناه في قلب اللغة. شكّرا، كلّ محاولة هيدغر، المنحدرة من السُّلالة الشذرية النيتشية، جاءت لتذكّرنا بمنسيّ وجودنا.

هذا الكائن غريب الأطوار، حتّى أنّه يُبالغ في النِّسيان حدّ نسيان الوجود، صمم كائن حيال همس الوجود، يتردّى به حدّ أن يُصبح انعتاقه الأنطولوجي، متوقفا على سيّارة إسعاف فيلولوجية، على طريق سيّار، يرهن الوجود الأسمى لمحنة الألفاظ في سيرورتها المزدوجة: التعينية والتعينية. ذلك، لأنّ هناك لغة للوجود لم نحفظها بعد ولا تتحمّلها لغتنا.

يمكن لكائن نسّاء، أن يعيش من دون حاجة إلى أن يُدرك حدّه في المعرفة وبالتّالي حده في الوجود. وهذا من العدوانية المفرطة، لأنّ الإنسان في هذا النسيان يحنّ إلى حيوانيته، تلك التي يمكن تعريفها بالكينونة التي تستغني عن أن تجعل من الوجود همّا. وجب أن يعوّض نسيانه ذاك، بمزيد من الأنسنة، كما يعوّض نسيان بشريته بمزيد من الاستبشار. الإنسان كائن فريد في ولعه بنسيان الوجود، لأنّ تذكّر الوجود، يضعه أمام مسؤوليته التّاريخية.

هنا يمكننا إيجاد الوصل الخفي بين لعنة نسيان الوجود الهيدغيرية، ومسؤولية الفعل السارتيرية.

حين يفتقد الكائن بوصلة العودة، يضطر إلى إخفاء عجزه عن الإنصات إلى الوجود، وهنا تأتي اللغة، لغاتنا، ديوان وجودنا الكدري، وحدها تمكنه من تهجّي الوجود، لكنها تضعه على العتبة فتضمحلّ، وتتدحرج مرة أخرى من ظهر سيزيف إلى حافّة العدم. إنّه كائن يخفي هذه المهمّة في انهمام ممسرح بالأعراض. لشدّ ما استهلكه الأين والمتى وأن يفعل وأن ينفعل.

حين ننسى الوجود، يتعذّر التمييز بين ما بالذّات وما بالعرض. سيكون من الطبيعي أن ينهار نظام الكينونة، وسيكون العبث هو المظهر الأكثر بداهة لوجود ينكشف زيفا من خلال أعراض الحركة.

كيف يمسك كائن ناسي للوجود بسرّ الحركة في الجوهر؟ إحدّى مصاديق نسيان الوجود، عدم إدراك الجوهر، بالأحرى حركته. كيف يتحقق فعل استعادة الوجود إلى خوائنا من دون الحركة الجوهرية للنّفس الأمّارة بالتّرقّي؟
حين اعتبرنا أنّ سبب هذا النسيان للوجود هو العدوانية، فهذا يعني أنّ الميل الغريزي للمقذوف به هناك(الدازاين)، هو نسيان الوجود.

النسيان الذي تنقلب فيه ماهيته- إن جازفنا بالقول- أو تتدانى فيه مرتبته في الوجود حدّ الإنكار. ذلك الوجود الكدر الذي تلتف حباله حول عنق كائن متناسي، هو هو نفسه الوجود الكدر يستدعي النّسيان.

إنّ الغريزة حائل ضدّ الانكشاف، هي قوة للتدمير الذّاتي. لا تسمح الغريزة بوجود همّ للإنسان يفوق انهمامه بالغريزة.

ولأنّ الإحساس بهذا الانكشاف يلزم عنه شروق شمس أولى الحقائق، وارتفاع الظلام، حيث يسكن النّسيان المفرط للوجود، وتسكن الغريزة.

وهنا أعي خطورة أن لا نأخذ نيتشه بعين الاعتبار، فالغريزة في تجربته تُفهم في سياق معركة نيتشية انقلابية ضرورية لتحطيم أصنام المفاهيم الانتهازية التي فقدت قدرتها على الحياة. الحرب الأنطو-ستراتيجية التي خاضها نيتشه، ضرورة استدعاها جبروت ذلك النسيان الأخطل الذي مارسته الميتافيزقا الغربية ضدّ الوجود والحياة والقوة.

الغريزة نيتشيا ليست هي الغريزة التي كرستها المعاجم اللغوية الموسومة بالانحطاط. إنّ طُغيان أصنام الفلسفة المدبرة لهذا الفلك الهيليني، لا يتحقق إلاّ بثورة نيهيلية، وتلويح بميلاد ديو جين الكلبي. إنّها معركة مفصلية ضدّ الضّعف الموروث عن سلطة المفاهيم/الطفيليات، في جسد المعرفة وتاريخ الأفكار.

ما كان غريزة، فهو لا ينفكّ عن ذي الغريزة. من هنا رفضي لكل أشكال المُلاوغة، تلك التي تعتبر العقل غريزة بالمعنى الشّائع للغريزة بوصفها اندفاع مركوز لا فكاك عنه. وبهذا فإنّ حادثة نسيان الوجود الكبرى، هي أكبر دليل على أنّ الشعور بالوجود لن يكون غريزيا مهما بدا بديهيا.

ما هو قابل للنسيان ليس غريزة. الغريزة تُنشئ أمام الدازاين وجودا بديلا، هو المرتبة الكدرة من الوجود في مشوار تدهوره وتدانيه. الشعور بالوجود هو مصالحة، ولحظة انبلاج قصوى لحقيقة لطالما اكتشفناها باللغة ولطالما أخفيناها باللغة أيضا.

هل الوجود يستدعينا للمصالحة أم نحن من وجب أن يستدعي الوجود، لحظة انقلاب أنطولوجي على وضعنا العرضي في محنة تموضعنا في المقولات الأربع، وانحشارنا في هالة التخوم الفاصلة بين العدم الخالص وعتبة الوجود الملتبس بشوائب منه؟

في نوبات انكشاف الوجود في مخبر لغاتنا، إنما نعيد تشكيل العالم، عالم كُدُورتنا. لأنّ ثورتنا الميتافيزقية، هي إعادة إنتاج ميتافيزقي من داخل أحناط اللغة، حيث في جيناتها يكمن الـ ADN الميتافيزيقي نفسه، في دهاليز الأركيولوجيا تسكن المورثات القديمة. يولد من قلب هذه الأركيولوجيا التكرار نفسه. تلك هي محنة الوجود، وجودنا، لغتنا.

ليست تلك قدرية لا فكاك منها، يظل هناك أمل يخرج من قلب هذا الحطام، إشراقة موقف من هذا النسيان، من هذا التكرار، هذا الأمل، هذا التفاؤل الذي وحده يمنح فرصة لخوض تجربة استكشاف الوجود، إذ ما الإنسان؟ وعليك أن تدرك ذلك، لأنه وحده يمنحك قيمة وجودك في قلب هذا النسيان؟ أنّك في نهاية المطاف، كائن في دوامة اكتشاف وجوده، كائن لا يحتمل وجوده، كائن هارب من وجوده، كائن غريب من نوعه، وفي هذه الغرائبية وجب القبض على البداية، بداية السؤال عن الوجود، وفي كل جواب ممكن يتحقق تموجد ما. إنّ ثمن أن تكون إنسانا هي بحجم هذا القلق. فأنت أنت، بقدر تموجدك.

https://anbaaexpress.ma/r2rpu

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى