
أتذكر جيدا موت شخصيتين كبيرتين في المنطقة (الشيخ مكتوم في الإمارات وأمير الكويت الصباح) بنفس الوقت مات أبو صالح وهو أخ لصديقي في الفكر إبراهيم البليهي، فرأيته باكيا لأول مرة، فعرفت الرحمة المخزونة في أعماقنا، فعند الموت نتعلم الفلسفة من جديد، وننسى حماقات السياسة وأوحالها. ويحكم القبر بديموقراطية حقيقية صارمة.
مات الشيخ مكتوم كما ماتت زوجتي في عمر صغير فجأة وفي دار نائية في أقصى الأرض. وهو ما نبه عين الغفلة لقراءة سفر الوجود بكلمات..
عندما عبر كزركسيس مضيق الهلسبونت (الدردنيل حاليا حذاء بحر مرمرة في تركيا) بنصف مليون جندي، في حملة غزو اليونان، تأمل الجنود وانهمرت من مآقيه الدموع، تأثر عمه أرطبانوس فسأله ما يبكيك؟ قال: يا عماه كل هؤلاء الجنود الذين ترى، لن يبق منهم واحد بعد مائة عام.
إن هذه القصة تذكر برحلة جلجميش لإنقاذ صديقه أنكيدو من براثن الموت، فمضى في رحلة إلى البحرين الحالية لإحضار زهرة اللوتس، تذكر بقصة موسى والحوت الذي اتخذ سبيله في البحر سربا، فأكلتها الأفعى خلسة، فيبكي جلجميش المصير، ويعرف أن مصير الموت يغلف الجميع، وينصح أن يتمتع المرء بأيامه، فطول العمر لن يؤثر فيه طول السهر، كما أنشد الخيام في رباعيته وهو يحتسي أقداح الخمرة.
ربما كان الخيام عاقلا أكثر من رفيقيه في المدرسة نظام الملك وحسن الصباح المقتول والقاتل؛ فحسن الصباح تحول إلى شيخ مدرسة في القتل، وبنى فرق الحشاشين، التي أخذت اسمها في التاريخ، وتبنتها اللغة الإنجليزية بنفس اللفظة (Assissanation) واصطادت رؤوس كثيرين من الشخصيات الهامة، بمن فيهم صديق الصباح نظام الملك الوزير، الذي مات بخنجر أغمد في صدره بعناية.
لقد آثر الخيام الشعر والسهر والخمر فارتحل إلى مملكة الفكر والرومانسية والفلسفة واستنطاق الكون، خلافا لصديقيه، الصباح ونظام الملك، اللذين ارتحلا إلى مستنقعات السياسة وكوكبها الملعون فتحولا إلى قاتل ومقتول، والقاتل والمقتول في النار.
إن الموت يقتل الخلود، وحاولت بعض آلهة أثينا أن تمنح الخلود لأوديسيوس الضائع في البحار بسبب غضب إله البحر بوسايدن عليه، فحرمه من نعمة الرجوع إلى زوجته بينلوبي، وعندما عرضت عليه الساحرة سيرسا فكرة الخلود رفضها أوديسيوس بحماقة تعجز عن حلها آلهة الأولمب؛ فحماقة الإنسان لا حد لها.
الموت ينطوي على كل المفارقات والمتناقضات؛ فهو مرض الأمراض، وهو النهاية لكل شيء، وهو الخسارة التي لا تقف بجانبها خسارة، وهو نبع الفلسفة، وفي ظلها تتهمش كل القضايا، فلا يبق شيء يستحق المناقشة والاهتمام.
عند الموت يبدأ كل سؤال، وفيه كل جواب ولا جواب؛ وكل سؤال ليس عليه جواب، فهو باب الأسرار، ومغارة الأحاجي، واللغز الذي لا يملك أحد تجاهه فك أو إجابة واضحة.
هو باب ضيق ينحشر فيه فرد واحد في شقه، فيدخله تماما على المقاس بدون هامش شعرة، فلا يطعمه إلا صاحبه، ولا يتنفسه إلا هو. ويذوقه فردا، فلا يدخل معه أحد في مشاركة وأنس، ولا يخفف من ألمه ووحدته، أو أن يَسمع أو يُسمع ولو من ابنته وحفيده وزوجته وصديقه وأمه وخليله.
إنه ديموقراطي جدا، فيتناول الجميع، ويطوي ظله كل إنسان، مهما نبغ وحكم وعلا وتمكن، ويدلف إليه كل فرد بدون شيء على الإطلاق، ويتساوى في القبر الكل، فلا فرق في الحفرة بين عباقرة وجهلة أو ملوك وسوقة.
هو الذي كرس الدين كل طاقته للإجابة عن سره، وتقديم العزاء، ومنح الطمأنينة، أمام هذا الرعب الأعظم، الذي يظلل الجميع، وفي كل لحظة، فلا ضمان لأي إنسان في أي لحظة، أن ستكون ملكه، أو يكون ملكها؟ فيأتيه داعي الرحيل فيرحل، وأن إلى ربك المنتهى.
إنه إشارة مروعة لقصر الحياة، ومعنى مروع عن العدم الذي خرجنا منه، وإليه ندلف، في حياة أبدية، نحن عليها قادمون، ولا نعرف عنها شيئا على الإطلاق. وإن كان الفيلسوف يقول لا.. لم نخرج من العدم، فلا (شيء) من (لاشيء)، وكل شيء من شيء، والعدم لا يعطي شيئا، وبالتالي فلا شيء يذهب إلى العدم، بل هي صور من التحول، لا نفقه لغتها بحال، فنحن نجهل تماما طبيعة القوة التي قذفتنا إلى الحياة، أو تخرجنا منه مرغمين حزانى؟ بكلمة أدق نحن لا نفهم شيئا على الإطلاق، والله يعلم وأنتم لا تعلمون…..
طبيعة الموت كلي وشخصي وهنا التناقض، فكل من عليها فان، فلا يبق أحد، وهو شخصي وخاص وفردي، فلا يموت أحد بالوكالة، ولا يدفع الموت عن أحد شفاعة ورشوة ووساطة وتوسل، لا دفعا ولا تأجيلا ولا تبديلا، فهو قدر مغلق لكل لحظة يسمم كل ثانية من حياتنا تسميما بالقلق والحزن، فمع كل حياة موت ، ومع كل فرح وسعادة حزن وكآبة، ومع كل صحة مرض، فمن يحل لنا هذه التناقضات؟