آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات.. إشكالية المقاربة (17)

قصّة أبينا آدم.. تراجيديا العقل

جدل آدم وإبليس هو جدل في صلب تراجيديا العقل، قصّة النّزول وأسباب نزول النّزول، جرى نقاش في الفضاء الملكوتي – الملأ الأعلى – وليس فقط في الفضاء العمومي، وكان الدرس التطبيقي الأوّل لأبينا آدم بعد أن تعلّم الأسماء كلّها لكن خفي عليه أمر واحد بحجاب كمال المعرفة وتعالي المقام، ألا وهو المُغالطة، كانت لحظة تجريب وكان الاستثناء.

فآدم كان عارفا بالأسماء وكانت غايته نبيلة، وكان إبليس جاهلا بالأسماء وقصده خسيس، وسيتكرر المشهد بعد النزول: أن يُخرج منطق إبليس -على انحطاطه العقلي والأخلاقي- أوادم كُثر من جنّة المعقول، هو الشيء الذي خُلق له: بلوغ الكمالات، لكن ماذا إنّ كانت المعصومية هنا في نشأة المخلوق الجديد غير مستوعبة كيف يكون من بلغ الكمالات وهو في حضرتهم يمكن أن يقعوا فيما هو شأن لأسفل السّافلين؟ ففي قصّة السجود تمرّد المخلوق الذي اندسّ في مقام الملائكة وليس منهم أو منهم ومسخ بعد الإستكبار – حسب اختلاف الروايات – قبل أن يكشف عن أنّ الكمالات لا تتعايش مع الاستكبار.

فالاستكبار وإرادة حجب الحقيقة ومنها كل أشكال المُغالطة هي مظاهر التجربة الأنطولوجيا الهشّة، لكن هذه الأنطولوجيا ستعبّر عن نفسها معرفيا في حجاج كشف أنّ ثمة علاقة بين الانحطاط الأنطولوجي والقياس المعرفي، بين القياس المعرفي والمسخ الأنطولوجي، لكن أيّ قياس؟ يتعايش في المدارك نمطان من القياس: أحدهما تامّ لا مرية فيه والثاني ناقص يغيب عنه الوسط. ولأنّ العقل لا يستغني عن القياس في استدلالاته إلاّ أنّه يخضع لضغط إرادة الجهل فيعمد على استعارة صورة القياس المنطقي مع فقد الوسط: قياس إبليس.

لقد احتج هذا الأخير استنادا إلى قياس لم يحضر فيه الوسط، ولا نحسبه هو الخطأ الوحيد الذي كلّفه اللّعنة والخنوس، بل هو بنية احتجاج فاسدة مطرودة من عالم الملكوت ولا يحتملها إلاّ عالم المُلك إلى حين، وبما أنّ الأمر يتعلّق بتجربة بيداغوجية وعملية، كان ذلك تمثيلا لحقيقتين: حقيقة آدم والطبيعة الخيّرة كضحية للمغالطة وحقيقة إبليس الذي كان يخفي ضحالة وعيه بشروط الملكوت باعتباره لم يكن من الكُمّل.

كان مندسّا بين الملائكة حتى أنّهم حين قالوا: (ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك)، قال :(إنّي أعلم ما لا تعلمون)، ولمّا أمره بالسجود – إظهار الإجلال للمخلوق الجديد – طغى واستكبر وعاند فكشف عن نفسه بين من ظنّوا أنّهم منهم ومن الواصلين، وتظلّ قصة خلق إبليس محاطة بأسرار منها ما ظهر ومنها ما بطن، ولخلقه كما ذهب صدر المتألهين أسرار “لم يحط بها سوى الله”.

إنّ أوّل درس يقدّمه الخطاب الوحياني في قصة آدم وإبليس كان حول المغالطة، حين استنجد إبليس بقياس فاقد للوسط: ﴿لَم أَکنْ لِأَسجُدَ لِبشر خَلقتَهُ مِن صَلصال مِن حَمإ مَسنون﴾(الحجر 33)، من هنا بدأ الانزياح عن الوسط، عن السبب الرمزي الحقيقي الذي تمّ تفضيل آدم به، لكن إبليس سيضعنا أمام تفاضل يقوم على تراتبية الإسطقسات.

تفضيل عنصري، وذلك نتيجة استكبار وحجب لحقيقة الأشياء، وجاء التحذير حينها: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)/فاطر( 5-7 )، عدوّ من حيث هو أبو المغالطة وفي إنجيل متّى هو: رئيس سلطان الهواء وفي يوحنّا: أبو الكذّاب، فعدو العقل هو المغالطة، فهي عدو لكم فاتخذوا المغالطة عدوا للعقل، الشيء الذي لم يتحقق، فكان النزول، فمن انتصر على المغالطة ارتقى ومن سقط في المغالطة كان أسفل سافلين. حتى قصّة خلق آدم تعرّضت لالتفاف، وكأنّها في الخطاب الدّيني مجرد حرب شخصية وليست حربا بين نمطين من القياس: قياس البرهان وقياس المغالط.

فإن كنا سنتحدث عن أسباب نزول آدم وخروج إبليس من الجنة فهو قياس المغالطة، وهذا ما لزم تتبّعه في الخطاب الديني وفي عالم الخلق، أنّ قياس إبليس يُخرج من جنّة العقل، وأرى أنّ جوهر تخلفنا في الموروث التعقيلي يكمن في موقع المغالطة في تعاقلنا، فلازالت بنية عقلنا مدينة لمصفوفة قياسية مغالطة، مما يجعلنا امتدادا لطريقة إبليس في التعاقل لا في طريقة آدم.

إن قياس إبليس مُغالط لأنّه شبيه بالقياس لكنه فاقد للوسط أو الحجة التي تثبت بها الكبرى للصغرى، فهو ليس قياسا برهانيّا منطقيّا بل مُماثلة مغالطة كفر بها إبليس بالوسط أي حجبه، وسنجد كلاما للإمام الصّادق وهو من أطلق على القياس الأصولي أوّل ما ظهر صفة قياس إبليس ومنه أنكر ابن حزم على القياس وذلك ببيان الفارق بين القياس المنطقي والقياس الأصولي كما عن محمد بن يحيى عن الإمام الصّادق:” إن ابليس قاس نفسه بآدم فقال (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فلو قاس الجوهر الذي خلق الله منه آدم بالنار كان ذلك أكثر نورا وضياءا من النار”.

ومن هنا قال: “إن اصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلاّ بعدا، وإن دين الله لا يصاب بالمقاييس”.

وكان قد أظهر سبب رفض القياس الأصولي كما هو متداول بحيث تغيب الحجة فلو ظفر المجتهد بالحجة أي الوسط في القياس لكان هذا من أحكام العقل المقررة، لذا لفت إلى مفارقة القياس الأصولي من منطلق أنّ السنّة لا تقاس، كما في رواية أبان بن تغلب عنه أيضا، قال: “إن السنّة لا تقاس، إلاّ ترى أن المرأة تقضي صومها، ولا تقضي صلاتها، يا أبان إن السنة إذا قيست، محق الدين”.

سوف ندرك بعد ذلك أنّ رفض القياس في الأحكام هو رفض لقياس المغالطة، القياس الفاقد للوسط، ولكنه ليس رفضا للقياس المنطقي ولا لأحكام العقل، بل الموقف من هذا النوع من القياس هو موقف عقلي وليس نقليّا.

وسوف نجد أنّ أثر هذا النوع من قياس المغالطة حاضرا في كل نظر وعمل، ومهيمنا على فكر الأمّة لا ترى في القواعد العقلية ما يغني عنه، وإنّ القياس الأصولي هو من هذا القبيل ولكنه فاض عن الفقه وأصبح منهجا عامّا في مسائل التشريع والتكوين، وكان لا بدّ هنا من التمييز بين نوعين من القياس قبل أن نقف على أنّنا في أصول تفكيرنا لا نستعين بقياس منطقي بل أبدلناه بقياس مغالطة نلتفّ به على العقل الذي هو مدار النزول والصعود، وبهذا القياس حاولنا الإلتفاف على العقل نفسه بعد أن طردناه من أصول التشريع وبعد أن رفضنا استقلاله بالتحسين والتقبيح، قياس في شروط تستبعد العقل لن يكون سوى قياسا مُغالطا، وسنرى أنّ تلك كانت طريقة إبليس منذ التأسيس وهي سبب نزول النّزول، ففي الوسائل عن جعفر بن محمد أنّه قال: “أن أول من قاس إبليس، وأن أول من سن لهذه الأمة القياس المعروف”.

لقد بات الاجتهاد يساوي القياس بهذا المعنى، قياس بلا وسط يقيني بل ظنّا غير معتبر لما تفرضه النوازل من وجوه وعناوين وشروط وسياقات لها في قواعد العقل والأصول والأمارات ما يغني، ولها في الاحتمال والاحتياط مندوحة، ولقد حُرمت الأمّة من عقل الاحتمال وسقطت في قياس تمثيلي بلا وسط ،وعلى هذا القياس أقامت سائر مفاهيمها في الوسطية والاعتدال والمقاصد. قلنا أنّ أوّل تدريب للعقل قدّمته قصة آدم وإبليس، حيث تأكّد أنّ سبب النزول المأساوي ارتبط بالقياس المُغالط –قياس مع الفارق-، وكما أنّ القياس كان وراء نزول آدم وخنوس إبليس فإنّ القياس نفسه سيكون سببا في تخلّف الأمّة، ولا عليك ممن ظنّ أنّ القياس الأصولي يصلح في موارد البجاحة كما لو كان من سنخ القياس المنطقي، فهو غريب عن المنطق، وسترى أنّ القياس الذي نتحدّث عنه هو القياس فاقد الوسط وأمّا سائر الأقيسة حيث الوسط يقيني غير ظنّي مأخوذ بها حتما كقياس الأولوية ومنصوص العلّة والقياس نفسه إذا تحقّق معه المناط على نحو يقيني.

وسندرك لا محالة آثار وتداعيات هذا النمط المهيمن على التفكير، وكيف أنّ القياس لعب أدوارا تعطيلية للعقل بسبب الالتفاف عليه بواسطة القياس على الظنون، كما ساهم في الجمود وحرم العقل من تحقيق ثورته استنادا إلى العقل الإحتمالي، وأنّه ساهم في تعزيز ضرب من الإجتهاد المغشوش والجمود المقنّع الذي ساهم بدوره في دعم التّطرّفات المقنّعة بمظاهر من التعقيل القياسي الذي لا يتحقق معه المناط ولا يتنقّح ولا يميّز فيه بين الظّن الخاص والعام.

بل يقيس القياس الأصولي على القياس المنطقي في الاعتبار، حالة انحطاط ونزول إلى أسوأ أشكال التعقيل، تعقيل يناهض الاحتمال والجدل وقواعد الاستدلال الصحيح: القياس المُغالط آفة العقل والتفكير في الدّين والدّنيا معا، فإذا كانت بنية التفكير السائد اليوم مدينة لقياس إبليس، فقد استحقّ بالفعل كلّ الأوصاف التي أطلقت عليه في الكتب المقدسة كرئيس العالم وملاك الهاويّة، فحينما يصبح الفهم الدّيني تحت هيمنة قياس إبليس فلا غرابة من أن يصبح خطابا منتجا لكل أشكال التّطرّفات، لقد تأبلس الخطاب الدّيني منذ أصبح حقلا للقياس والمقاصد المغشوشة.

https://anbaaexpress.ma/2x8nl

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى