![](https://anbaaexpress.ma/wp-content/uploads/2023/06/3488509e-266c-4a52-87f3-afe83752550a-780x470.jpeg)
إنّ العقل يظل مدينا للبرامج التي استكان إليها، إنّه بقدر ما يفعل ينفعل، بقدر ما يثور يستكين، بقدر ما يكشف يُخفي، جدل العقل مع الواقع وجدل العقل مع معقوله، ومع أنّ المنطقي منح للعقل صفة كونية وأبدية لكن العقل في أكثر الظروف يعمل في إطار زمني محدّد، ثم سرعان ما يصبح المعقولا لامعقولا ويجد العقل نفسه في وظيفة نقيضة: العقل في خدمة اللاّمعقول.
ولن أتوسع هنا فيما سبق وأثرناه حول ماذا يكون يا ترى هذا العقل الذي وجب معالجته بالنقد والدّعاية، فما أن نقترب من مفهوم العقل نفسه ووظيفته حتى نتواضع أكثر في التلويح بالعقلانية كما تجري اليوم على لسان التّطرّفات المقنعة والمراجعاتيين الذين أفسدوا النظر في عمق الأشياء وظنّوا أنّ الإصلاح هو شعبة من شعب الارتزاق لا شعبة من شعب الفكر الخلاّق.
أيّا كان العقل فعلا أو جوهرا أو غريزة فالقضية تتعلّق بطريقته ووظيفته، إنّه آلة لالتقاط المعنى، آلة في برنامج نحن من يختاره، لكن أين تقع الإرادة يا ترى من العقل؟ إرادة التعقل لا تقل أهمية عن إرادة الاعتقاد، وهنا سنبدأ فيما يجب أن يتّجه إليه النظر في التجديد الجذري، أي كيف وجب تأويل الخطاب الديني لكي يكون أكثر إمكانية لما سبق وقدمناه كهدف للتبني الحضاري والتجديد الجذري وهو البحث في الإمكان الدّيني والإمكان الحداثي وصولا إلى التّفاعل الخلاّق، ولكن لا بدّ هنا من الوقوف عند موقع العقل في تاريخ المعنى، دور الإرادة؟ من يسبق يا ترى، هل الإرادة أم العقل؟
في الخطاب الديني سنجد أنّ العقل هو أوّل مخلوق به يتم العقاب والإثابة، لكن هذا لا يلغي أنّ الإرادة هي من عليها المدار، هي المسؤول بينما العقل آلية للاحتجاج على الإرادة نفسها، ففي البدء كانت الإرادة، لا يكفي أن نعقل إن كنا لن نقبل بنتائج العقل. إنّنا في نهاية المطاف نختار لأنفسنا طريقا خارج العقل أو داخله، وأحيانا نستعمل العقل كآلة في نقض أحكام العقل، فالعقل الأداتي يمنحنا قدرة فائقة على التّغليط.
وكما ذكرنا فإننا إن اعتبرنا العقل جوهرا أو فعلا أو غريزة فلن نحلّ الإشكال من دون إدراك وظائفه، سندرك حينئذ أنّ العقل لا يوجد بالسوية في كل تجارب الإنسان، ربما حمّلت عبارة ديكارت أكثر مما تحتمل، علينا أن لا نقرأها بناء على المضمون الذي منحها إياه عصر التنوير بل علينا فهمها في مسار الفلسفة السكولاستيكية حيث الديكارتية هي ذروتها، بمثابتها خضراء الدّمن بين نوعين ومرحلتين من التفكير، العقل مقسم بالسّوية في مرحلة العقل الهيولاني، فديكارت لم يتحدث عن العقل بهذا المعنى(la raison) بل تحدّث عن الفطرة السليمة (le bon sens)، ولا أحد كان يجادل في هذه القضية في الكلام المدرساني للقرن الوسيط، وهي تحمل تصورا عميقا في الخطاب الدّيني الوسيطي إسلاميا ومسيحيا، ولربما اللاّهوت التلموذي وحده خرج عن هذا الإجماع معلنا تفوّقه بالعقل –الأداتي – وهو ما أخرجه من كونية وعدالة الفطرة : شعب الله المختار.
ولكنني سأتحدث عن العقل كوعاء: “العقل وعاء”، ومقتضى الوعائية الاتساع والانكماش، لكن قبل ذلك أين تتموقع الإرادة؟ الإرادة التي تستطيع أن تدبر الموقف العملي بناء على المعقول أو اللاّمعقول، هي هذا السّر الذي يتقرر في ضوئه سائر اختياراتنا باعتبار أنّ العقلانية واللاّعقلانية تثير إشكالية أخرى ألا وهي الجبر والاختيار. في خطاب التجديد المقنّع تحضر عناوين مغرية لكنها من دون مضمون سكولاستيكي متين فضلا عن أنّها لا تواكب التطور الذي منحه تاريخ الأفكار لمفهوم الإرادة.
إنّ دعوتي لبعث قيم الفرسان هي شرط أساسي يمكّن الإرادة من تنفيذ مهامها وتبنّي العقل كوجهة وخيار وتخفّض من سورة الغموض، وهذه قضية تفرضها بنية الخطاب الديني نفسه باعتباره متوجّها لإرادات حرّة، لكنها حرّية متاحة للكائن، الإنسان، ليس لأنّه حيوان ناطق، بل من حيث هو كائن يملك خصائص التخارج النّوعي، كائن تتسع دائرة حريته لكنه لا يملك أن يتحكّم في الأثر التكويني لاختياراته، كائن مجبور في كون يملك فيه حرية الفعل واللاّفعل، المعقول واللاّمعقول، ولكنه مسؤول، وعلى هذا الأساس وجب أن ينبعث التفكير الأعمق في الإرادة والعقل والحرية والمسؤولية، ولا أخفي أنّ ميلي للنزعة الإرادوية يفرض ذلك، وهو ما يجعلني أميل إلى شوبنهاور في مفهوم تبعية العقل للإرادة، وكيف أنّ العقل في هذا التصوير المجازي الخلاّب يتخلّى العقل عن طبيعته مُداراة للإرادة، إنّها الثورة التي ستزلزل المقاربة الكانطية نفسها لحدود العقل، لندع تشاؤمية شوبنهاور إلى مستوى آخر من الاشتغال، ولكن ثمة ما هو مهمّ لفهم وظيفة الإرادة، لأنّها تكاد تلخّص ما هو موجود، لكن هذه الإرادة نفسها تبدو هنا إزاء مفارقة أخرى تدعوا أحيانا للعبث، هل الإرادة حرّة، أم أنها محكومة بالضرورة؟ لكن هل هذه الضرورة ملموسة أم غامضة، فالإرادة تباشر خضوعها للضرورة كما لو أنها ليست ضرورة.
وهذا ما يجعلنا لسنا أمام غموض مفهوم وموقع ووظيفة العقل فحسب بل أمام إشكالية موقع ووظيفة وغموض الإرادة أيضا، ذلك لأنّنا حين نتحدث عن الإرادة باعتبارها أوّل معني بالاختيار فكيف سنعرّف غموضها وكيف نعرّفها بشيء سابق عنها، وسيكون العقل هنا أعجز عن فهم الإرادة التي تدبّره، ذلك لأنّها في نفس الأمر متمنّعة عن التعريف لأنها خارج مبدأ السببية بالمعنى الذي نحى إليه شوبنهاور. هنا يجري أيضا الحديث عن القلق: قلق الإرادة وأثره على العقل، هنا أيضا وجب الحديث عن وهم الحرية.
أو لنقل الحرية الصورية التي تظهر كائنا حرّا بالمقارنة فقط مع كائنات أخرى تشاركه الوجود من دون إرادة للتحكّم الاختياري في غريزة دون أخرى وتوجيهها، إنّه في نهاية المطاف وفق هذا المنعطف الشوبنهوري له تدبير مختلف في هذا الخضوع للضرورة، يستطيع أن يعبّر عن خضوعه بأشكال متنوعة كما يفعل دعاة الحرية اليوم وهم يقادون تحت ضغط الضرورة، وهم لا يفعلون سوى التعبير عن تغيير موضوع الخضوع، وهنا نبلغ ذروة المفارقة: إن كنا سنتحدث عن الإنسان ككائن حرّ بالمقارنة مع الحيوان والنبات فعلينا أن نعتبر النبات حرّا مقارنة مع الحجر من حيث أنّ النبات يخضع بكيفية أخرى للجاذبية أو أن “الكلب سيكون حرا بالمقارنة مع النبتة لأنه يملك الحركة كما يبدو له”، علينا أن نستأنف القول في الإرادة، ولن نبلغ القول فيها إذا لم نقف قليلا عند شوبنهاور، ولن نبلغ قيم الفرسان إن لم ندرك تموضع الإرادة أو نقترب من بعض من أسراره، ولن نغيّر من نسق الرداءة إن كنّا سنتجاهل إشكالية الإرادة في مقابة جدل المعقول واللاّمعقول.
الحديث هنا عن الإرادة يتجاوز الإشكاليات القديمة التي تناول بها الكلام القديم قضية الجبر والاختيار، الطلب والإرادة(انظر قسم علم الكلام من كتابي: محنة التراث الآخر/1998، وانظر أيضا فصل النسق الكلامي وحدود الوظيفة الكلامية عند القدامى من القسم الثاني من كتابي: المعرفة والاعتقاد/2012) ، وعلى الرغم من أنّ ما يبدو من نقاش حول الحرية لا سيما في خطاب التّطرفات المقنعة وخطاب التجديد المزيّف لم يستند إلى ذلك الاختمار السكولاستيكي في تقريب هذه العلاقة فإنّ قضية العقل والعقلانية لم تعد قضية قابلة للاستعمال لا سيما في سياق جدل العقل والإرادة، إنّ العقلانية لم تصبح سائلة فحسب بل باتت شكلا من الالتفاف المُغالط على تعقيد الواقع.
ولا شكّ أن المأزق لا يقف عند حدّ العقل بل هو اليوم يتعلق بأي نظر وبأي موقف نريد، فقيم الفرسان هي البيئة التي يمكن أن تستعيد فيها الإرادة صلابتها، لأنّ ما هو سابق لأوانه هو التلويح بالعقلانية المقنّعة والأنسنة المشبوهة والتسامح المزيّف والمشاريع الممسرحة، بل المطلوب والاستعجالي تحقيق القيم التي توقف نزيف المعنى أمام تغلغل الرّداءة في صلب التفكير والخطاب، لقيام مقاربة منهجية جادّة للفهم الدين وتحليل ظاهرة التّطرّف الديني خارج كهنوت الاعتدال الزّائف.
لن تكون عقلانيتنا إلاّ بقدر إرادتنا، وحيث باتت التطرّفات المقنّعة تصدر خطابا عن العقل فاعلم أنّه خطاب في حدود إرادة المُتاجرة بالمعنى وبلا آفاق، وهو ما أسمّيه بالهدر في الشروط الإبستيمولوجية والأنطولوجية للخطاب، خطاب أشبه ما يكون بزخرف القول مهما أمكن وتمكّن وغلط وتغالط..