آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات.. إشكالية المقاربة (19)

خدعة الفقه المقاصدي

وكما نادى القوم بالعدل وأزاحوه من أصول الاعتقاد كلاميّا، كذلك نادوا بالعقل الذي أزاحوه من أصول التشريع، فوجدنا الغرض في أيديولوجيا مقاصد لا تنهض على برهان موضوعي متين بل على استحسان سبق وعارضوه واستقبحوه من أبي حنيفية ثم عادوا وتجاوزوه إلى حدّ بناء المقصد على القياس القائم هو الآخر على القياس حدّ منحه الأولوية وشرف النّص، فصالت مقاصدنا في كلّ اتجاه بينما لا زال العناد كبيرا لرفض قواعد العقل في أسس عديدة وأحكام شتّى.

وقد تبيّن أنّ المقاصد لم تعد شاطبيّة بل تعدّته لتصبح بلا ضابطة غير إرادة الاعتقاد، وقد أنتجت هذه المقاصد تطرّفات مقنّعة في السياسة والدين، حيث فُهمت المقاصد على أنّها فقها للانتهازية والتدليس، بل لعله من المُفارقة أنّ خطاب التّطرّف يرفع دعوى المقاصد، بل عنف المتطرفين كما في إدارة التوحش مبنيّ على ضرب من المقاصد، فكيف نميّز يا ترى بين مقاصد المتطرّفين ومقاصد الوجه الآخر للتّطرّف؟

وكما سبق وفصّلنا في ذلك فإنّ المقاصد القائمة على منهجية القياس لن تجلب سوى الهُزال، فهو قياس مقوّض للعقل وليس مُطلقا لقواعده، فحين تتخلّف أسسنا المعرفية وحينما يتخلّف عقلنا العربي فستتخلّف حتما معه مقاصدنا، فالنقاش اليوم في الأسس لا في العناوين الخادعة. ولا شكّ أنّ قصة المقاصد اليوم هي قصة القياس المُغالط نفسه، ولذا تناولتها ذات يوم باعتبارها أيديولوجيا وليست منهجا علميّا في الاستنباط، وبأنّ الوهم الذي تلبّس به القياس على اعتباره منهجا عقلانيا هو الأمر نفسه بالنسبة لمقاصد تقوم على منهج عقيم.

ففي كتابي: المعرفة والاعتقاد يمكن الوقوف – في الفصل الرابع من القسم الثاني: أثر الاعتقاد في أصول التشريع، الأيديولوجيا المقاصدية مثالا_ على تفاصيل هذا النقاش، حيث ميزتُ بين مقاصد الشريعة وشريعة المقاصديين وكذلك الوقوف على بنيات غير مقاصدية في الفكر المقاصدي. ولقد تشبّث الكثير من الدّعاة بهذه القشّة ظانّين أنها ستخرجهم من التخلف الضارب الأطناب على صعيد العقل، ولوّحوا بالمقاصد كما لو أنّها صدفة ثمينة من قعر بحر لجّي من التّخلف، ودائما سنجد وسائل ديماغوجية لتعزيز هذا الوضع: تمعقل التّخلّف.

وكان الأمر كما لو أنّه اكتشاف جديد ومذهل، وتعلمون أنّ العقل الجامد حين يجد بابا للهروب لا يكتفي بالهروب فحسب بل يلوّح بأنّه سيد العقلاء في حركة تعويضية عن تخلّفه المزمن. ووقفنا على تلك الدعوى، حيث اكتفيت بمناقشة من قدّمها تقديما ضمن مشروع أشمل، ركّزت على المقاصد في مشروع نقد العقل العربي(الجابري) والمقاصد في المقاربة التداولية(طه عبد الرحمن) وانتقلت مباشرة إلى الشّاطبي الذي أعاد صياغتها في نسق عام وأسس متكاملة، ورأيت فيما عدا ذلك تكرارا وتمحّلا غير منتج، وإذا استثنينا محاولة محمد الطاهر بن عاشور من تونس وعلال الفاسي من المغرب، لم نر جديدا في هذه الصناعة التي خرجت عن حدّها، وكل ما أتى فيما بعد هو من إنشاء الداعية الشيخ القرضاوي- صاحب كنّاش الحلال والحرام الذي ساعده في إخراج رواياته الشيخ الألباني- الذي اعتُبر من قبل تلامذته أبا للمقاصد في شكل من الإستيجاز المقلوب، لأنّه في الغالب يكون الشيخ هو من يجيز مريده وليس العكس، ولكنه بعد أن أجاز التلميذ أستاذه عادو وأخذ من الحلب شطرا من باب: وصلتك رحم.

وكل هذا الخداع لا يخرج من قوالب قياس إبليس، لأنّ المقاصد التي تقوم على عقل مثقوب لن تنتج سوى الغباء كما أنّ المقاصد التي تقوم على قيم غير الفرسان لن تنتج سوى الهزيمة وإعادة إنتاج الوهم، إنّ الأمة باتت تعيد إنتاج تخلّفها بالمقاصد وتقوّض مكتسباتها بالمقاصد، فكان أحرى تحليل شريعة المقاصديين بدل مقاصد الشريعة حيث لا جديد هنا مبتكر مادام لا يوجد من يرفض أن تكون الشريعة قاصدة، ففي هذا الوسط الذي يسكن أقيسة المقاصد، ذلك الوسط الظّني ، الملتبس، تخترقنا مقاصد سياسية وغامضة، لتصبح بناء على قياس إبليس: مقاصد إبليس.

فاضت المقاصد عن فقه لا زال جامدا غير مجتهد لتصبح مقاصد في السياسات، وقد باتت المقاصد أشبه بهلوسة أيديولوجية سائلة مائعة لوّح بها كل من دخل دورة هذا الخرف التعويضي عن انسداد باب الاجتهاد، فاقتحموا به كل مجال. ولا زال التّحدّي قائما أمام هذه النحلة التي تهرّب المفاهيم وتشوّش على التطوّر التّاريخي للعقل: هل طبّقتم المقاصد على الأسس كما طبّقتموها على كلّ شيء؟

هل طبّقتم المقاصد في إعادة الاعتبار للعقل كأصل يستقلّ بالتحسين والتقبيح؟ وكيف تبنون على الاستحسان الشّخصي والذوقي والمصلحي ولا تبنون على استحسان العقل؟ وإن كنتم تعتبرون أن استحسانكم هو عقلي فلم لا زلتم ترفضون الحسن والقبح العقليين في كلامكم؟ وإذا كنتم ستقولون إنّ العقل لا يمكن أن يحسن ويقبّح في الشرائع والعبادات فكيف جعلتم القياس أصلا وكيف أقحمتم المقاصد حتى في العبادات، علما أنّ الشرائع قاصدة وأنّ المدار على إحراز اليقين في علل الشرائع وليس الظّن الذي لا ينتج شيئا؟ لماذا لم تجعلوا العقل إن رفضتم أن يكون أصلا في التشريع مقصدا من مقاصدها؟ وكيف فصلتم المصلحة عن العقل وشّرعتم الأولى ونبذتم الثاني؟

سنحاول بوسائل البروباغاندا أن نؤسس لوهم جديد وكأنّ مفتاح التّقدم هو نهج مقاصدي بشروطه المزرية تلك، إذ لو كانت المقاصدية عقلانية لما تبنّاها من لا يؤمنون بالعقل إلى جانب النص والإجماع وشرع من قبلنا وهلمّ جرّا إلى حدّ سدّ باب الذّرائع، فبعد هروب تاريخي طويل من تحدّي العقل كلاما وأصولا نعود فنلتفّ عليه بزعيق مقاصدي تنتابه قشعريرة خاصة كلّما قارعه العقل الاحتمالي، فالعقلانية تقتضي شجاعة في المعرفة وليس خداعا فيها.

إنّ المقاصد هي اليوم عنوان للتضليل والهروب من تحدّي العقل نفسه، لأنّها حتى الآن لم تنتج لنا فقها اجتهاديا متقدّما غير إنشاء تناقضي يرقص وينطّ بين المباني، إنّها منهاج الشّرق الأوسط الجديد لعب في السياسة نفسها أدوارا ووظائف إمبريالية، إذ هناك دائما محاولات لرسم حدود للعقل العربي والإسلامي معا من خلال التطبيقات البرمجية، فمن فرط التطبيق المقاصدي ذي العوار المذكور سنحقق نمطا من التفكير وحدودا للعقل ضمن مصفوفة تقوم على الخداع والتعويض، ولن نستطيع الظّفر بالعقل وسننتهكه دائما وفق أساليب إعادة إنتاج التّخلّف المقنّع، لن يسمحوا لنا بعقل كامل بل ببرامج من التمعقلات كلما دنونا منها قبل أن تأفل قلنا: هذا هو العقل.

إنّ كل رأي واجتهاد مغشوش في هذه المحاولة لن يخرج من أسس ومقاصد قياس إبليس، نحن حقّا في طور من الانسداد العلمي الكبير.

https://anbaaexpress.ma/si9l7

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى