آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات.. إشكالية المقاربة (18)

كيف نقبل بالأدلّة الظّنية ونرفض القواعد العقلية اليقينية؟

كيف نقبل بالأدلّة الظّنية ونرفض القواعد العقلية اليقينية كيف نبني مزاعم عقلانية على أسس تناهض حجّية العقل؟ فالعقل أوسع من تلك الأكذوبة التي إسمها القياس، لا بل سنجد رفضا لكل قواعد العقل والقبول بأبعد أشكال القياس عن البرهان المنطقي، فحينما لا يتحقق اليقين في الوسط وهو الحجة عند المنطقي فالأولى الأخذ بالاحتمال وهو عين العقل فيما عزّ القبض فيه على الجامع يقينا وفيما لم تتحقق معه المفاهيم.

وذلك درئا للمتاهة الهرمسية بتعبير أومبرطو إيكو، حيث التّشابه الصوري لا يغني في تحقيق الوظيفة، ذلك لأنّ الوسط في القياس الرياضي هو محسوم ويقيني في ذهن القائس، ولكن حين ننزل إلى الواقع والطبيعة الموضوعيين نصبح أمام متاهة من الاحتمال لا يمكن احتواؤها بأسوأ أشكال القياس، فهو بهذا المعنى نقيض للموضوعية، لأنّ الموضوعية تلاحظ الواقع الموضوعي، وليس في الواقع الموضوعي إلاّ الاحتمال في مثل هذا الحال. ولقد قلنا إنّ القياس الأصولي في نظر المنطقي هو قياس ضعيف، ولقد تمادى آباء قياس إبليس ليمنحوا الشرعية للقياس على القياس= سُخف: (absurdité).

غير أنّ هذا القياس المُغالط عاد لكي يصبح أسلوبا ومنهجا طاغيا في الخطاب الدّيني، ومن خلاله تمّ الالتفاف على المنطق كلّه والبرهان كلّه، وكان من قبيل الخداع أن يعتبر القول بالقياس عنوانا للعقل البرهاني في المعقول والمنقول، ودائما سنلجأ لمُغالطة المقارنة –كما فعل إبليس حين أحال على تفاضل العناصر- من خلال المُقارنة بين خطاب القياس الأصولي مع خطاب الحشوية، وها قد رأينا ابن تيمية يقبل بالقياس ويمضي على قياس الطّرد وقياس العكس بينما هو من المفاهيم وليس من القياس، لكنه في الوقت نفسه نقض على المنطق بما فيه قياسه البرهاني، بل العجب كيف نقض على المنطق بالجملة بينما أمضى على القياس الأصولي في الجملة.

لم يحدث أن خرج الخطاب الديني التّاريخي بما فيه المعاصر عن القياس أي غياب التعليل، بينما كان مناهضوه من الحشوية قد سقطوا أيضا في المُماثلة من دون تنقيح الوظيفة (لنسمّيها وظيفة الجامع)، وهي أيضا ليست بعيدة عن قياس المُغالطة، فالمماثلة تأتي بالظّن والقياس الأصولي يأتي بالظّن فما المائز يا ترى؟ وكون الأمة لا تميّز بين الأقيسة هذا يعني أنّها فاقدة لملكة التمييز أي للعقل الذي به تتميّز الأشياء الخطيرة عن الأشياء الحقيرة.

وكنّا نتمنّى أن يرتقي النقد العربي المُعاصر لمعالجة هذا النّمط من التفكير باعتباره على الأقل ليس منطقيا لكن الرّهان المنطقي نفسه أوقع المنطقاويين ومن سلك مسلكهم لكي يردّوا كل هذه الأنواع إلى المنطق والمعقول فزاد الوضع التباسا، فاختزلت العقلانية في قياس مغشوش كما اختزل التأويل في مجاز بلا ضابط، وسبق للمرحوم الجابري أن مدح قياس الأصولي ناظرا إليه نظرة البرهان – لذا لم يجد مانعا من الجمع بين ابن حزم اللاّقياسي مع ابن رشد القياسي(أقصد قياس الأصولي)- لكنه سيمضي في ردّ المماثلة بداعي الإنزياح عن الوسط في ردّه على منهج العرفان، وكأنّ الإنزياح المحتمل في المماثلة لا يقابله انزياح محتمل في القياس الأصولي ، وكأنّ الوسط مفقود في التمثيل وغير مفقود في قياس الأصولي، يكفي الخلط بين القياسين –المنطقي والأصولي- للوقوف عند مزق المُقاربة، ولا يكفي أن نتحدّث عن تنقيح المناط وتخريج المناط لأنّنا في التطبيق لا نقف على هذه الصناعة الإستدراكية، وإذا حصلت بات ذلك من المفاهيم لا القياس ومن المفاهيم يستمدّ اعتباره، كما يصبح المناط أيضا محلاّ لمعالجات قياسية، قياس المناط على المناط، فالعقل غارق في الأقيسة وفي مسلسل الظّنون، وحينئذ سننقّح القياس الظّنّي بقياس ظنّي وهو خلف عاش عليه العقل العربي.

فالشيء الذي أردنا التأكيد عليه هنا هو أنّ حراكات التجديد المذكورة كرّست هذا الوهم وحالت بواسطة قياس إبليس بين أن تدخل الأمّة عصر العقل الاحتمالي، وكما لفتنا الانتباه آنفا فإنّ القضية الأساسية في قصة آدم وإبليس تتعلّق بطريقة التفكير، فلم يكن الغرض يتعلّق بالأكل من الشجرة أو عدمه، حيث القصّة تنزّلت في مخيال المؤمنين كتنويع على تراجيديا بروميتيوس، كما أنّه لم يكن موضوعها هو الاعتقاد فإبليس كان مؤمنا واتهم بالكفر حين أقام إيمانه على الاستكبار، ولا يمكن أن يجتمع الإيمان والاستكبار إلاّ عن طريق قياس المُغالطة.

https://anbaaexpress.ma/5p5q9

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى