
هل كان في إمكان المهدي وخليفته أن يعلنا دعوتهما دون الارتكاز على مفهوم الجهاد والعقيدة الإسلامية؛ وهل كان بإمكانهما جعل فكرة طرد المستعمر قضية وطنية محضة دون الالتفاف على الشعب باسم الدين ودغدغة المشاعر المقدسة العقدية له؛ هل لهما أن يفلحا إن لم يفعلا ذلك ؟!.
في إعتقادي لا يمكن بحال من الأحوال أن يكتب لهما الفلاح دون استخدام الدين مطية لا أقول للدنيا لكن أقول للوطنية؛ فإنَّ أثر الدين على النفس البشرية لهو أذكى في الفؤاد من غيره من حيث السرعة في الإنجاز والقبول وتطبيقه على الواقع الحياتي المعاش تحت أقسى الظروف.
لنا أن نلاحظ فحوى خطابات المهدي وخليفته للأنصار وللأعداء سواء فهو يتكلم بذات اللسان الديني للطرفين تارة بالترهيب وتارة بالترغيب حين لا يملك سلطاناً للعدو من أيِّهما كان ذلك لاختلاف العقيدة القتالية بينهما؛ فالعدو البريطاني ينظر للمعركة مع المهدويين من جانب السلطة والسياسة والنفوذ وما إلى ذلك؛ ولا ينظر إليها باعتبارها قضية ذات أبعاد دينية لا من جانبه ولا من جانب المهدويين فهو يراهم مغتصبين ومنتزعين لحكمه بأمر الإدارة البريطانية ويجب الذود عن التاج البريطاني مهما كلَّف الأمر؛ وظهر هذا الدفاع والذود جلياً في القضاء على فترة المهدية الثانية بقيادة عبد الله التعايشي التي استمرت لمدة سبعة عشر سنة وخمسة أشهر (1881 – 1898) ومن ثم تم توقيع اتفاقية الحكم الثنائي الانجليزي المصري 1898 م على السودان الحديث والذي استمر ثمانية وخمسين سنة (1898 – 1956) حتى جلاءهم باستقلال القطر السوداني في أول يناير 1956 بقيادة الزعيم الأزهري ومحمد أحمد المحجوب وغيرهما كما هو معروف.
انظر إلى سوء الفهم للدين الذي أدَّى لسوء التصرف والتعامل بين الخليفة التعايشي ومعارضيه السياسيين الذين نكَّل بهم أشد تنكيل فهو يعتبر نفسه معصوماً من الخطأ في أحسن الظنون وكذلك مأمور بالأمر الإلهي والنبوي لإقامة الدين وشريعة الله في الأرض وبتكليف المهدي لإدارة الدولة السودانية بذات النظرة الضيقة.
أنا قلت النظرة الضيقة لمفهومنا نحن اليوم للدين وماهيته على أساس حكم الوقت وسعة العلم وتطور العقل البشري قاطبة وأثر ذلكم على الفكر المعاصر والفكر القديم.
من جانب آخر؛ اعترض على رأي البروفيسور / أحمد إبراهيم أبو شوك، الذي أوردت جانباً مهماً من كلمته الطويلة في تحليله لفترة المهدية التي أطَّرت وكرَّست لمفهوم الدولة الدينية باعتبارها ايدلوجية مثل دولة الإخوان المسلمين في السودان وأضرابها تمت باستغلال الدين وقلة الفهم فيه وعنه وأدَّى لما نحن فيه اليوم من تشظي وجعلت هذا التكريس والتأطير في القبيلة ومن ثم التحوير في شخصية هذه القبيلة والتي يمثلها التعايشي إذ كان من الأجدر أن يعمل لتكريس مفهوم الدولة القطرية في شكل المؤسسات كما هو الحال اليوم؛ ولا أبعد مغالياً إنَّ هذه النظرة بعيدة جداً بحكم اختلاف الوقت والظرف التاريخيين بين العهد المهدوي والعصر الحداثوي اليوم؛ فإذا كنت أنا مقام التعايشي أو المهدي لنظرت لإدارة القطر السوداني بمفهوم القبيلة لا بمنظور القطر والدولة ومؤسساتها الحديثة لاختلاف المعايير والأفكار والاطروحات المتاحة بين الأمس واليوم والعكس صحيح بطبيعة الحال.
يقرأ البروفيسور أبو شوك الظرف التاريخي المهدوي من واقعه الأكاديمي والسياسي ويقارن بينهما في سلم التطور العسكري وتوظيف إمكانيات الدولة القبلية في مواجهة الاستعمار باعتبار ما لاقاه اليوم من موازنات تحمل ذات الطابع الديني والمنظور السياسي والعسكري في فترة حكم الإخوان المسلمين للسودان؛ ولكم أن تراجعوا مقدمته في تلخيص واقعة المتمة والمراجع المشار إليها من كتبه في هذا الباب.
من ذات قراءة البروفيسور أبو شوك الأكاديمية وربما السياسية أيضاً المقارنة بين الحقبتين؛ لنا أن ننظر لحسن النية للخليفة عبد الله التعايشي في محاولته تجنيب أهل المتمة للدماء في خطابه للأمير محمود ود أحمد وكذلك خطابه لعبد الله ود سعد اللذين حاول فيهما تجنيب سفك الدماء لكن القبلية والعنصرية من الطرفين حالتا دون التجنيب فكان الاحتكاك والمصادمة وازهاق الأرواح في سبيل الحفاظ على القبيلة وسمعتها بين القبائل السودانية في حين كان إرسال محمود ود أحمد للمتمة من باب صد الحملة المساندة للإنجليز وعدم وصولها الخرطوم وبالتالي قطع الطريق عليها وليس لقتال الجعليين كما هو ثابت في الكتب والمرويات التاريخية المصاحبة لهذا الكتاب.
أنا جعلت فصلاً مطولاً لأحداث واقعة المتمة (1/ 7 / 1897 م) لسببين؛ أوَّلهما: مناسبة الموضوع ، إذ كنت في محاضرة للبروفيسور / عبد الله الطيب، منتصف التسعينيات تحدث فيها خارج إطار الموضوع المخصص للمحاضرة عن واقعة ” النخيلة: 18 / 3 / 1898 “بالقرب من أتبرة ” عطبرة “، حوالي ثلاثة وعشرين دقيقة بالضبط فإن كنت أنسى فلا أنساها أبداً؛ وكان منفعلاً أشد الانفعال فقال بالحرف الواحد : ” أنا ذكرت هذه الواقعة لأنَّ أعمام أبي كانوا يقاتلون مع المهدي” ثم ذكر أنَّ الكاتبة البريطانية فلورا شو التي وثَّقت للزبير باشا ود رحمه (1830 – يناير 1913)، في منفاه بفترة قضتها تقدر بأربعة أشهر معه قالت من ضمن مذكراتها عن التوثيق أو هو قال عنها: “إنَّ حملة محمد علي باشا لفتح السودان لم تكن من أجل المال والرجال بل كانت تمهيداً للاستعمار البريطاني للسودان واحتلال منابع النيل، والقصد من هذا كله هو ضرب ومحاربة الإسلام في إفريقية” ؛ ولاحظت جيداً طيلة فترك تحدثه وشد الحضور معه لم يذكر ولا بيت شعر واحد فتأمل!.
الثاني : هو العبارة المشتركة بيني وبين البروفيسور عبد الله الطيب ” لأنَّ أعمام أبي كانوا يقاتلون معه ” وهلك متهم الكثير؛ أمَّا صاحب الأسطر؛ فقد ذكرت ذلك لأن أعمام أبي قتلوا في قتلة المتمة والتي راح ضحيتها تسعة اخوة من بيت واحد هم آل القرَّاي العجمي التاكي؛ وقد ذكرت ذلك مفصلاً في كتابي (طيبة الخوَّاض وما وراءها من نبأ) ومنهم جدنا أحمد النحيفان ومحمد الضبيلان وقرَّاش الحنظل والعباس وعبد الرحمن وأربعة آخرين نسيت اسماءهم.
إنَّ قتلة المتمة لهي مجزرة بشرية وإبادة جماعية وتطهير عرقي تمت باسم الدين لأغراض سياسية ودنيوية تحت راية القبيلة لا الدولة حيث كان من الأجدر أن يفصل بين القضايا السياسية والدينية في المعارك السلطوية.
هذا ! ذكرت في هذا الباب أكثر من مائة وخمسين حدثاً عسكرياً مباشراً وغير مباشر كلها تمت باسم الجهاد في سبيل الله والشهادة والجنة والنار والحور العين وما إلى ذلك كيفما اتفق ، وما ذكرته أقل بكثير مما حدث فعلياً آنذاك ومن أراد المزيد من الاسهاب والشروح فعليه بمراجعة الكتب ذات الصلة ؛ لأدلل فقط على فكرة موضوع الكتاب القائمة على استغلال الدين أو قل : سوء الفهم والعمل بالدين والإسلام والشريعة الإسلامية؛ والعاطفة الدينية للقضايا السياسية وملتقاهما الدخول في معركة حربية تزهق فيها الأرواح ؛ حتى ذهب أحدهم ولعله الدكتور عمر القرَّاي في كتابه عن المهدية أن تعداد الذين قتلوا في فترى المهدية ما يقارب الاثني عشر مليوناً من جملة خمسة عشر مليوناً من السودانيين وبالأخص فترة الخليفة التعايشي (1888 – 1898) التي استمرت أكثر من فترة المهدي نفسه (1881- 1885)؛ فتحصر قتلاه في فترته بأقل كثير من صاحبه وخليفته التعايشي.
وبهذه المناسبة؛ أنا لم أطلع على كتاب الدكتور عمر القرَّاي لكني اطلعت على تعليق الأستاذ جبريل محمد الحسن في الإنترنت على الكتاب المذكور ووجدته يؤيد فكرة القرَّاي بأنَّ المهدية هي أول من بطش بالناس باسم الدين وإنَّ داعش الحالية بدايتها كانت في الثورة المهدوية ذلك للعدد المهول من القتلى والجرحى والمفقودين؛ لكن دعني أصوِّب هذه الفكرة إن صح تعليق الأستاذ جبريل على كتاب الدكتور القرَّاي:
إنَّ العدالة الأكاديمية والقراءة التاريخية لظرف الثورة المهدية وبالتحديد فترة الإمام / محمد أحمد المهدي (1881 – 1885) تقتضيان بأن لا تتحمل مسؤولية سفك الدماء المهراقة؛ فلم يرد ما يفيد ويتطلب التعويض والاعتذار للشعب السوداني عن الدماء المسالة في عهده بل مؤكد وحسب ما قالت به المصادر التوثيقية أن الخليفة عبد الله التعايشي هو الذي بطش وفتك ونكَّل بالمعارضين السياسيين وسجنهم وعذبهم وقتلهم في الأسواق على مرأى ومسمع من الناس (راجع كتاب: ” السيف والنار” لسلاطين باشا وكتاب السيد إبراهيم فوزي الأسير المصري في سجون المهدي وخليفته وكل الذين كتبوا عن المهدية والتعايشية) بل حتى مواليه وقياداته العسكرية كحمدان أبي عنجه عامله على جبال النوبة والزاكي طمل ومحمد خالد زُقل عامله على دارفور وغيرهم الكثيرين؛ فهو وعصبته وقبيلته من يتحمل مسؤولية ذلك لا المهدية ولا آل المهدي؛ هذا إن كانت للعدالة الجنائية وجيع في العصر الحديث مما ذهبنا إليه في اختصار هذه الكلمة الطويلة حيث أشار جبريل لحديث القرَّاي.
ملحوظة أخيرة؛ الجُمَل البرَّاقة في خطابات المهدي والتعايشية للأمراء والعمَّال وكذلك العكس كخطاب عثمان دقنه ومبايعته للمهدي وخليفته ، هي التي تشعل جذوة الغيرة على الدين وأنَّ الأشياء لا تحدث إلَّا بالأمر الإلهي والنبوي المكلف بهما المهدي والمخلوف عليهم التعايشي كقوله: “حدثني سيد الوجود” و “أمرني سيد الوجود” / راجع كل الخطابات في كل المراجع والمصادر المتكلمة عن هذا الموضوع آنفاً / وما إلى ذلك من الصيغ والصبغات الدينية وبحكم العقل السوداني البسيط آنذاك هو ما سهَّل لنجاح الثورة المهدوية ولو إلى حين.
شكرررررررراً نبيلاً على المشاركة