آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات.. إشكالية المقاربة (16)

وعائية العقل: الإستيعابية بديلا عن الإنتقائية

نسقط في التلفيق لأنّ العقل البسيط يتجاهل تعقيد الواقع والنظرية، التلفيق والإنتقاء لأنّ العقل المأزوم عاجز عن إنتاج النّسق وصياغة مفاهيمه واستيعاب مسار الترددات في تاريخ الأفكار.

يتسع الوعاء بقدر التجارب وينكمش حتى يتلاشى، لقد مُنحنا الوعاء وقابليته بالتساوي لكنّنا نحن المسؤولون عن محتويات هذا الوعاء، قد نختار حتى الإستقالة ونمنح لاستقالة العقل مظهرا عقلانيا. لقد فهمنا معنى الوعائية لأنها تفترض الإتساع والإنكماش بفعل التجارب المستحدثة غير أنّنا الآن مطالبون بفهم هذا التواسط الذي ما فتئ دعاة التجديد المزيّف يتحفوننا به حتى أنّهم أقاموا للوسطية أعراسا فيها التفاف على المهام التي يقتضيها فعل التّبنّي الحضاري والتجديد الجذري، ما أسوأ الوسطية حين تخرج من وعاء يخلو من تجارب حقيقية، فلقد أصبحنا أمام مظهر حشوي جديد: حشوية المفاهيم بلا استيعاب كما كانت حشوية الرواية بلا دراية، ولا شكّ أنّ بيننا وبين هذه الحشوية مسيرة 14 قرن لأنّها لم تتقدّم حتى على سبيل الكلام القديم وهي حين داهمها العصر بتحدّياته هربت في كل فجّ عميق ولوّحت بكل مفهوم مسروق من حقول معرفية نالت من تكفيرها ما نالت عبر العصور.

سأعود وأقدم مخرجا للوسطية وأنقذها من هذا البؤس المنظوري باعتبار أنّ الوسطية ليست تموقعا بين دعاوى بل استيعابا للموجود على مساحة التّرددات التي يتيحها الوجود، فالوسطية اختمار وتراكم ونتيجة توازن تفعل فيه سائر القوى، فالسكون هو نتيجة توازن فعل القوى وليس حالة خارج التفاعل.

ولقد ضربت لذلك مثالا بحركة البندول وكيف أنّنا في حركة البندول ننطلق من الأقصى إلى الأقصى ثم يبدأ التواسط بفعل الجاذبية وتوازن القوى بعد استيعاب مساحة التردد الواقع بين الأقصى والأقصى، فالعقل التواسطي هو من استوعب كل مسالك الفكر وقضاياها ثم يتواسط على أساس الاستيعاب وليس التموضع المنفصل بين أقصى وأقصى نقيض.

فالوسطية هي كمال الفكر والوجود حيث عند تواسطه تندك النقائض فيصبح مثالا مصغّرا لكل الأشياء وللكون كلّه، أين هذا النوع من التواسط من خطاب الوسطية الذي يقوم على الجهل بالترددات وما يفصل بين الأقصيين؟ إنه مقتضى الدعوة اليحياوية:(يا يحيى خذ الكتاب بقوّة).

وهي دعوة للمضيّ إلى أقصى المعنى والفعل، فالتواسط بين أقصيين ليس خيارا بل هو نتيجة توازن القوى التي تنتهي بالتمركز، والتمركز هو احتواء للأشياء.

ولا زلنا لم نقف في خطاب التجديد المزيّف والوسطية الساذجة ما يجعلها دعوة للاجتهاد وجهاد المعرفة، فقبل التواسط هناك سفر بين أقصى المعاني ونقيضها، إنّ التواسط خبرة وجدل داخلي وخارجي، هو تركيب خلاّق وحركة جوهرية وجب أن لا نختزلها في الحركة الموضعية.

وهنا وجب أن نفتح مجالا للتأويل، بحثا عن المعنى في صميم الخطاب الدّيني وهل هناك ما يسعفنا لدراسة مأزق العقل خارج خطاب الجماعات الهاربة بجهلها والملتفّة على الوعي والعقل بخطاب أشبه ما يكون بخطاب مغالطة تقدحه غريزة حبّ البقاء؟

سنتناول هنا تراجيديا انحطاط العقل من خلال إعادة تأويل الحدث الأوّل المؤسس للأديان، سنرصد بالتلميح ميلاد العقل وانحطاطه في قصّة آدم وإبليس، وكيف أنّ تأويل القصة سيضعنا أمام أصل تراجيديا العقل نفسه، وبأنّ هؤلاء هم أبناء إبليس وليسوا أبناء آدم حتى وهم يتحدّثون عن خطاب الوسطية وينسبون أنفسهم لآدم في السّلالة لا في المنهج، وبأنّ ما يبدو من مظاهر باترياركية (= هذا ما وجدنا عليه آباءنا) يراد منه أبوّة إبليس، هذا الأخير أعاد تشكيل الخطاب الدّيني للتّطرّفات، فإبليس مثل اللّقلاق – “بلاّرج” – يبني أعشاشه ويبيض فوق المآذن والكنائس والأديرة لأنّه معنيّ بمسارات الخطاب والفهم الدّيني وتدبير مغالطاته وتحيين الموقف الأوّل أو المُغالطة المؤسّسة للنّزول…

https://anbaaexpress.ma/rxtup

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى