التموضع المقارباتي الزائف وانتحال صفة قارئ ظاهرة لم يعد الجهل المُركّب هاربا بعُواره ولا مستكينا لهشاشته بل منحته الفوضى فرصة ليتموضع كقارئ للظاهرات.
ولقد نتج عن قرار تمكين ما يسمّى خطاب الاعتدال -الإخوان المسلمين – تفريخ عدد من المراكز والمعاهد اشتغلت بالأدوات نفسها التي تشتغل بها البراباغاندا الغربية ومنحت إمكانيات هائلة وصولا إلى تدبير الحكومي وفق مخطط دقيق لكن هذا الأمر أزعج أطرافا أخرى فسلكوا على المنوال نفسه من التمكين لكن بخطاب مضاد فتراشق الاعتدال مع الاعتدال وانفصلا وبات لكل اتجاه عاصمة تأويه ومراكز تصطفّ ورموز تشتغل بأساليب راند وكارنيجي وإعلاميا بأساليب السي إن إن والبي بي سي، بات المشهد منقسما، أصبحنا أمام اعتدالين يتشابهان في المضمون ويختلفان في المقاصد السياسية.
تابعت جملة التقارير والمناشير التي تنتجها مراكز ما يسمّى الاعتدال، وتأمّلت وتتبعت تفاصيلها: محلّلا الخطاب ومنتجيه والفئة المستعملة في إدارة هذه المشاريع، فكانت فضلا عن كونها تراكما للتكرار وصناعة للنجوم والرموز بمثابة أدوات لتعزيز الاصطفاف والهيمنة على المشهد الثقافي والإعلامي والنّخب، وتجنيد الجيش الإحتياطي للجهل التّعلّمي لمحق مكتسبات الفكر العربي واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ففي غضون السنوات الأخيرة لاحظنا انقلابا في المشهد الثقافي وفي الرموز والخطاب، محاولة منهجية لقتل الأب، لم يعد المشهد نتاجا للانتخاب الطبيعي بل أصبح مجالا لصناعة الزّيف العام والسيطرة على الفكر والمفاهيم، التأسيس للفكر السائل – نستعير من باومان – في نسخته العربية الرديئة.
قامت الجماعات المذكورة بتفريخ جمعيات لتأطير المجتمع المدني بأسماء وعناوين مختلفة كما فرّخت مراكز أبحاث ودراسات مقنّعة لتمرير الخطاب الجديد، سيكون من الخطأ رصد نشاط الجماعات المتطرفة في جمعياتها الدينية المباشرة بل علينا تتبع آثارها في فروعها الثقافية والإعلامية وشجرة نسب العديد ممن يتصدّر المشهد الثقافي أو الإعلامي أو الإجتماعي أو الحقوقي أو ما شابه ذلك وهو من أصول تعود لهذه الجمعيات المتطرفة، أمّا مصادر التمويل فهي غربية وخليجية وحتى من الضرائب التي يدفعها المجتمع بعد أن احتلوا الجماعات المحلّية والحكومات، فهم أغلى وأمكن لكي يحتلّوا العقل العربي.
لم تحقق الجماعات المذكورة تحوّلا في المضمون العميق لخطاب التّطرّف بل التطرف الذي ترصده هو التطرف المناهض لها في السياسات وليس المناهض لفكرة التقدّم، بل لقد اهتدت إلى آليات الإلتفاف على التجديد بانتحال صفة دارس ظاهرة في الوقت الذي كان من المفترض أن يكونوا هم ظاهرة للدّراسة.
أصبحنا في مواجهة أساليب للسيطرة عن طريق الإخضاع، فالجماعات تسعى من خلال التّحوّل إلى دارس وليس مدروسا إلى تعزيز سلطة الدّارس، فالمراكز تمنح تمركزا جديدا، هذا في حين وجدنا أنفسنا إزال لعبة تبادل الأدوار: مراكز مقنعة تقدم تقارير لمراكز أجنبية ثم تستعيدها المراكز المقنعة مرّة أخرى كمصادر أجنبية لتكتسب سلطة جديدة في السّلم الحجاجي، عمّت الفوضى وتوارى المأزق وبتنا نحن الذين عشنا لرسالة التجديد والنّهضة والتبني الحضاري والتجديد الجذري أمام خطاب مقنّع يرسل أحكام قيمة ويغرق المشهد في إنشاء متورّم بكل أشكال المفاهيم التي فقدت قوامها وسط هذا المعمعان، نتساءل دائما: انطلاقا من أي أساس معرفي سكولاستيكي تنهض هذه المحاولات؟ ولقد ذكرنا بأنّ ما تقوم به هذه المراكز المشبوهة هو تعزيز سكولاستيكية مزيّفة أي تكريس وهم “سكولاري” كأساس هشّ لقيام تجديد مزيف يسعى للهيمنة الرّجعية على العقل وتجنّب ثورته التّاريخية.
ولازالت الجماعات المذكورة تعتقد بأنّها من خلال تقنين نشاطها ومأسسة خطابها واستعمال أساليب التمكين والنفوذ ستمحق حقبة من التراكم الفكري وجيلا من الرّواد تلاشى أمام هذا الاجتياح والتّغلغل الرجعي في المشهد، ومع أنّ خطاب الإعتدال تشظّى إلى سلفية متأخونة وسلفية متلبرلة إلاّ أنّه لا زال يحرف المشهد عن التطور وفق قانون الانتخاب الطّبيعي كما يشوّش على التطوّر التاريخي للفكر والثّقافة، لسنا أمام إنتاج فكري حقيقي بل أمام انتفاخ خزّان تطبيقي مزيّف يعمل وفق منظور وسياسات تصنيفية للمشهد.
أفرزت السياسات الجديدة لمراكز الأبحاث الممكنة إمبرياليا ورجعيا والتي تهيمن عليها التطرفات المقنّعة خبراء مزيفين في مجال التحليل الاستراتيجي ومجال تحليل خطاب الجماعات الدينية، تقوم هذه الإستراتيجيا على الإستثمار في الذّمم وتنتهي بإفساد العقل وإشاعة بضاعة فكرية مزجاة (kamelote)، هدفها إخصاء العقل العربي وتحطيم ما تبقّى من معنى في الثقافة العربية.
لهذه المراكز سماسرة يشتغلون بأساليب استخباراتية، يخترقون العواصم ويحتوون الجغرافيا السياسية ويضعون شروطا مسبقة ما يؤكد على الطابع التوجيهي لسياساتها الثقافية، إنّها بلقنة سياسية في مجال الاستثمار في الرمزي، بل أحيانا تبدو حالة سباق على الهيمنة على الخطاب الديني نفسه ومحاولة الهروب من تبعات سنوات من التفريخ الهمجي للتّطرّفات، وفي ظلّ وضع كهذا تصبح المُقاربة للتطرفات أمرا مستحيلا بل هنا فقط نقف على جانب من جدل الفهم الديني والتطرفات، حيث تنتج المراكز إياها شكلا جديدا من التّطرّف يقوم على عنف الإصطفاف الذي قد يصل إلى استثمار علاقات المموّل في تعزيز الحصار على المُثقّف بأساليب أخرى.
سنكون أمام مافيا إدارة أزمة الوعي في المشهد العربي وسباق بوسائل مختلفة للسيطرة على الخطاب الدّيني وتحويل المقاربة إلى محفّز وتأطير لما يجب أن يكون عليه الفهم الدّيني، والذي بات واضحا أنّه يترنّح بين صورتين من التّطرّف: تطرّف في اتجاه إدارة التّوحّش وتطرّف في اتجاه إدارة التّدجين، فلا زال الفهم الديني المحلّي فاقدا للوسطية التي استهلكها كسائر ما يستهلكه من مفاهيم، بل هو فهم ينوس بين تطرّفين.
هكذا سعت قوى التّطرف عبر استراتيجيا التّدليس السطو على حقل التقارير المتعلقة بالحالة والظاهرة الدينية وخطابها لكي لا تقع في يد الدوائر العلمية المحايدة – بمعنى غير المعنية بالسياسات وأهدافها وليس في مسارها انتماءات خارج حرفة التفكير -، ما يحدث الآن ينتمي إلى دورة الحجاج وليس دورة التفكير المحض، وهذا في حدّ ذاته مظهر من مظاهر التّطرّفات التي يتم الإلتفاف عليها بوسائل المكر والتدليس وتهريب المفاهيم وتسليح الجهل وانتحال صفة دارس لظاهرة..