![](https://anbaaexpress.ma/wp-content/uploads/2023/05/كرة-اللهب-ـ-التراث-الفكري-والأدبي-لسيد-قطب-780x470.jpg)
في موضوع التّطرّفات لا ننسى أننا جميعا تحت لعنة المركز لا نملك ملامسة جوهر الأشياء، فالنّار المقدّسة للعقل والتحرر والتحضر محاطة هناك بأسوار وهي في صندوق مقفل وكلما اقتربنا كان مصيرنا صندوق باندورا البديل: شرور تذكّر بالأصل، بالهامش، هل يا ترى نحن خارج توقّعات المركز منّا؟
يسعى المركز لتدبير الهامش أي ضبط المسافات لكن في الهامش هناك تفاعل ونشاط بركاني، يسعى الهامش للظفر بمكانة في المركز وهذا خطر يقتضي يقظة من المركز، فما يسمى بمصالح المركز لا حدود لها، توجد ليس في السوق فحسب بل حتى في الضمير وكيف تفكّر.
انبثقت المُراجعات من داخل بنية تناقضية وكتعبير عن الوجه الآخر لذُهان مزمن في الذّات العربية، وهو ما يفرض تحليلا نفسيا للذات الجماعية وخطابها المنتج من داخل شروطها، وتضعنا البارانويا أمام هذه الإزدواجية: الميل للتدمير والعدوان الذي ينتهي بخطاب “إدارة التّوحّش” وهناك الميل النقيض، حالة المظلومية والمناورة التي تنتهي بخطاب المراجعات (انظر تحليلي للدولة البارانويانية في كتاب بؤس الربيع العربي) .
ويدرك المركز أنّ هذا داء مزمن وعضال ووجب الإستثمار في التطرفات من وجهيها. وسنصبح أمام تحكم من بعد هدفه تكريس بارانويا الخطاب، فهو خطاب ذُهاني سواء عبّر عن نفسه في التطرفات الجامحة أو عبر عن نفسه بالمراجعات الزّائفة. وسأحيل دائما على تجربتي مع هذا الخطاب، وفي التسعينيات التي بدأت تزدهر مقاربات مختلفة من داخل المركز ومعاهده، بدأت خجولة لكنها اجتاحت المشهد.
ربما لم نكن واعين تمام الوعي بمآلات هذا الخطاب لأنّنا لم نباشره بحساسية تكرسها نظرية المؤامرة، وكانت تلك قراءة بريئة لم تقف عند الأبعاد الحقيقية لظاهرة التّحكّم، لنتذكّر – وهل سمحوا لنا بالتذكير؟- أنّ سيد قطب كان أوّل من كتب تقريرا عن مستقبل الجماعة الإسلامية في الشّرق الأوسط إبّان التحاقه بمركز الأبحاث بالولايات المتحدة الأمريكية، كان يومها بعيدا عن الإخوان ولكنه اقتنع نتيجة هذا الاهتمام بالظاهرة المذكورة في دوائر البحث، كتب تقريرا وصدّق عليه بالحكم بأنه بالفعل ستكون المراهنة على هؤلاء في تغيير ملامح الشرق الأوسط، لن يسمحوا لنا بالتذكير لأنّ هذا محتوى كتاب لم يشأ أن ير النور حول الإرهاب المقدّس وحكاية كوكلوكس كلان سلفي -رحم الله صاحب منشورات زمان، قال ولم يطبع: أنت تكتب متفجرات وليس كتبا – وفيها ظن سيد قطب أنّه كان صريحا وولّى وجهته إلى مصر لكن إدارة ترومان ظفرت بتقرير استثنائي، رجع سيد قطب وهو يلوح بكتاب هجاء لأمريكا – أمريكا التي رأيت – لكن في الحقيقة كان ترومان الذي اقترح أن يكون سيد قطب ضمن الاستشارة في البيت الأبيض قبل أن يقتحمها برنار لويس بسنوات عديدة، قد حدّد مكانة الخطاب الديني في الشرق الأوسط في خريطة العلاقات العامة الأمريكية.
ومع ذلك حين أنجزتُ دراسة حول الفكر الإسلامي المعاصر وما بعد الحداثة، نظرت إلى القضية في سياق التحول في المركزية الغربية نفسها، كم نخسر من الحقائق حين نستهين بنظرية المؤامرة.
لفت انتباهي موقف لدانيال بايبس عن علاقة الأصولية المتطرفة بالتحديث، لأوّل مرة أجد باحثا ومستشارا أمريكيا يتحدّث عن الأصولي كمصلح حداثي، وسيتلقف باحث تركي هو خلدون جولآلب الفكرة ذاتها التي سيكون لها فيما بعد شأن كبير _ كان أوردوغان لم يخرج بعد كظاهرة “ميديا-جيو- سياسية” – اعتبر حينها الأصولي الراديكالي مفكرا حداثيا بامتياز. كانت تلك هي البداية، بداية جريئة في الوقت الذي كان غارودي قد كتب عن الأصوليات المعاصرة.
سنصل إلى أوج هذه الفكرة، مع غراهام فولر نائب رئيس الاستخبارات الأمريكية سابقا وباحثا في راند التابعة للبانتاغون، المشرف النّظري على مسار أوردوغان من البلدية إلى الحكومة، مسوق الإسلام الديمقراطي والمعتدل.
الاستثمار في جيل قرآني فريد كما وصفه سيد قطب في معالم في الطريق ستتمّ من الجهتين، سيتمّ العمل بالتوازي ضمن مشروعين متناقضين: أحدهما سيتولى الإشراف النظري عليه غراهام فولر والثاني سيتولّى الإشراف النظري عليه برنار لويس، الإسلام المعتدل وإسلام الحشاشين، ولكل رموز مصطنعة في المختبر الإمبريالي: النموذج الأوردوغاني والنموذج الداعشي، ويحدث أن تهتز الجيوبوليتيكا فيضطر أن يلتقي الاتجاهان ويتكاملان في “الكونفليونس” حين تتعقّد المسارات.
زكّى المركز وجهتي الخطاب الذُّهاني: خطاب الإرهاب وخطاب التدليس، خطاب يصول في مناطق النزاع وخطاب يدبر الشأن العام في مناطق السلام، كلاهما صديق لنيوليبرالية السوق، وأصبحت العدوى في الاتجاهين معا، والاستقطاب يتم ضمن الإطار نفسه، كان المركز قارئا لأفكار الجماعات متحكّما بما يبدو لنا هلاوس، إنها إدارة الأزمات، وكان خطاب الاعتدال نفسه -الوجه الآخر لخطاب ذُهاني – جزء من أزمة وليس حلاّ. وبدأت المسوخ تظهر من داخل مختبر تركيب الصور والبدائل، مسوخ الإرهاب ومسوخ الاعتدال وبينهما جسر تواصلي تفرضه شروط الجغرافيا السياسية.
الاستثمار في التّطرّفات والتحكم بمسارات التعبير عن وضعية ذهانية تتقلّب بين العدوانية المفرطة والإحساس بالإضطهاد، كان المحلّي يعتقد أنّه اهتدى لترشيد الخطاب وتهذيب الرؤية، فأصبح حقل التجديد والاعتدال مستباحا لأنماط أخرى من الجهل المُركّب، هو إذن إسلام السوق بمعنى آخر غير ما ذهب إليه الصديق بتريك هيني، بل سوق لترويج كل صنوف البضائع والترويج للفاسد منها أيضا ومجالا للنّصب والاحتيال، ليس دين الخروج من الدين كما مرّ معنا من مأثورة غوشيه بل هو دين ابتزاز الدين، دين المناورة بالدين، دين الوهم حسب كيركيغارد.