
من معركة، كبرى قرى قضاء صور، بجبل عامل، حيث الشعر ينبت بنضارة الصنوبر وقوة الصخر، حيث البيئة هي نفسها شعر ارتجالي كبير، حيث صور وكل تلك الأقضية، هي كما صورها عباس بيضون: صور قصيدة.
شاعر المقاومة خليل عجمي نوطة شعرية مميزة؛ مميزة بوفائها للشعر العمودي حدّ هجاء النثري، مميزة بشفافيتها وشعورها الدّافق بالعدالة. نهر شعري متدفّق، خريج سجن أنصار، رائد الهجاء الثوري، شاهد على أطوار المقاومة كلها.
كنت أرمق في لهجته أبا ذرّ الغفاري الذي سكن أنصار في القرن الهجري الأوّل، من أصول عجمية قديمة، لكنّه متشبّث بعروبته التي اكتسبها من نشأته في أحضان الشعر العربي. ألم يقل أنّ الشعر ديوان العرب، بل ومن تكلم العربية فهو عربي، وإذن، لنقُل: أنّ الشعر رحم العرب. ها هو خليل عجمي يهجو كلّ ما له وما عليه، حتى أنه هجا سيارته العجيبة بعشرات الأبيات، في قصيدة هي اليوم مقررة بكتاب اللغة العربية لصف البروفيه. كما هجا إسمه قائلا:
لا تقولوا بأنني أعجمي+++يتلقى لغاتكم بارتطام
طالما الشعر مارد عربي+++فلماذا أنا من الأعجام؟
عجمي أنا ولكن عقلي+++ عربي البيان والالتزام
أنا حرفٌ إذا تفجّر شعرا+++بلسم الطف جرحه من حطامي ولي الفخر كله أن أمي+++أرضعتني القريض قبل الفطام
يعود الفضل إلى أمه أم وهيب، من معركة، وهو لا يبارز بشعره نظراءه في جيله وبيئته فحسب، بل يتباهى به في أقدم العصور العربية:
وترعرعت شاعرا عربيا+++يتباهى على أبي تمام.
وحتى الأمس تصلني منه قصيدة يضع لها دباجة، عبارة عن رسالة إلى سيف الدولة الحمداني، مطالبا إياه بجمع شمل العرب، مذكرا إياه بأنه وريث المتنبّئ، ويمتطي جواده في انتظار الأمير. وفيها يفخر:
قضى المتنبئ فاعتليت حصانه+++وغاب نزار فاستلمت مكانه
يقدم عجمي نفسه بفخر وارثا لرواد الشعر العربي، حتى شوقي ورث منه عباءته:
فصرت أمير الشعر صدقا لأنّني+++ربحت بمدح المصطفى صولجانه
ولكن سيف الدولة اليوم غائب+++فمن أين يصطاد القريض جُمانه
تشبّث خليل عجمي بالعمودي،وهو يرى أنّه أصيل حدّ رفض أن يعتلي قرود التكنولوجيا حصانه. وهو إذ يقرض على منوال الخليل، لم يخرقها نثرا بل بمزيد من التفعيلة، حيث ابتكر بحر المناجاة، وصورته:
مستفعلن فاعل فاعلن +++مستفعلن فاعلن فاعلن
وقد وضع له مفتاح:
بحر المناجاة يا سائل+++مستفعلن فاعلن فاعل
لقد عبر بحور الخليل وزاد في بحوره بحرا:
عبرت بحوراََ للخليل بزورقي+++فألفيته فيها يعض بنانه
سألت بنات الشعر عنه فلم تجب+++ وقال رويّ الشعر فك رهانه
فوجهت طرفي للخليل وقلت قم+++ وبارك لنا بحرا نسيت احتضانه
وفاجأته من بحرنا بقصيدة +++ فهزت به وجدانه وكيانه
فقام الفراهدي فورا موقعا +++ غلى بحرنا لما رأى فيضانه
وقبلني ثم استراح وقال لي +++ خليل قضى حل الخليل مكانه
فراقت بحور الشعر لما دعمتها +++ ببحر تمنّى الأصمعي اتقانه
وأسميته بحر المناجاة بعدما +++ وجدت به النجوى تريد اقترانه
ولكن هذا البحر رغم هدوئه +++أبى العصر أن يلقي ليه دنانه
الخ…
شاعر الارتجال، وهي خصيصة رافقته منذ الطفولة، حين كان يرتجل أبيات ويطلب من المعلم أن يقطعها ويزنها، قبل أن يفاجأ المعلم أن هذه أبيات ارتجلها التلميذ خليل في عين المكان.
فاز في برنامج “الأولون” عام 1993_1994، إلى جانب الشاعر عباس فتوني وبشارة السبعلي، حين ارتجل قصيدة ضد غريمه:
فتن الفتوني فتنـةً فـتّانة
ففتلته بفتات فـتـة فـلـفـل
سبّت سباع السبعلي سباعنا
فجدعـت أنـف الـسبعلي لأسـفل
وطبشت رأس السبعلي برأس
عباس الفتوني في العكاظ الأول
وجعلـتهـا للعـالمين حكاية
تعتزّ فيــها شــاشة المستقبل
يذهلك ارتجاله، فالشعر كاد يصبح عند عجمي هواء يتنفسه، وها هو يهديني أبياتا ارتجالية:
زرعت الشعر في وطني حروفا+++وقد رويته يدم المآقي
فأصدره الزمان لنا كتابا+++عظيما جاء من أرض العراق
وأهديناه للإدريس هاني+++ليبقى طعمه حلو المذاقي
تفاعلت عفو خاطري مع قصيدة له، وأفردت له مكانا في كتابي: حين بكتك محاجر القصيد. فهو شاعر صنديد، شعره كبرميل بارود حين الهجاء، رذاذ ينعش المتلقي حين المديح، شاعر الثورة والمقاومة، بأشعار تفوق الألف بيت، وبعضها تحولت إلى أناشيد ثورية، نتذكر منها أنشودة نحن بركان تفجر، ذائعة الصيت.
عجمي فضلا عن ميراثه الشعري الغني، هو كائن متصالح مع شعره، يعيش الشعر بنقاء وصدق، بلهجة أبي ذرّ، شاعر إنساني انحاز بالفطرة والكلمة إلى صفّ المستضعفين والعدالة، وهو في ربذته بمعركة، يعيد إنتاج موقف أبي ذرّ…
وها هو صديقنا شاعر المقاومة يتفاعل أيّما تفاعل مع انتصارات أسود الأطلس، في ملحمة مونديال قطر، فينظم قصيدة حماسة، بلسان أصيل، وبيان وتبيين، كنت أتمنّى أن تتحوّل إلى نشيد كروي لأسود الأطلس، يقول فيها الشاعر خليل عجمي من بلدته معركة:
اللهُ أكبرُ فازَ المغربُ العربي
وبالمغاربِ فازتْ أمةُ العربِ
يا أيّها المجدُ قمْ صافحْ عروبتَنا
فاليومُ عادَ إليها عصرُها الذّهبي
هذا جبينُ أسودِ الأطلسيِّ لقد
أمسى بإشراقهِ أعلى من السّحبِ
حيً الأسودَ اسودَ الأطلسيِّ فقدْ
جابوا الملاعبَ في المونديالِ كالشّهبِ
تعجَّبَ الكونُ حينَ استنفروا فبدَوْا
على الملاعبِ مثلَ الجحفلِ اللّجبِِ
بقدرةِ اللّهِ قدْ رصّوا صفوفَهُمُ
فأفلحوا واستجابَ اللهُ للطّلبِ
وحقّقوا الفوزَ ضدَّ البرتغالِ بما
قدْ أظهروه من الإبداعِ في اللَّعبِ
وأبهروا الكونَ سحرًا في لياقَتِهم
بما لديهِم منَ الأخلاقِ والأدبِ
وسجّلوا عند مرمى خصمِهِم هدفًا
شقَّ الشّباكَ كما الصّاروخُ في القصَبِ
هزَّ الجماهيرَ في المونديالِ فانتفضوا
على المدارجِ بالتّصفيقِ والطَّربِ
فيَا لهُ من سباقٍ قادَ أمّتَنا
من السّباتِ إلى ما شاءَ من أربِ
قدْ اشرَقَتْ شمسُنا من بعدِ كبوتِها
وأقسَمَتْ بعدَ هذا النّصرِ لم تغِبِ
والعالمُ العربيُّ اليومَ
مبتهجٌ
واليَعْرُبيَّةُ نالَتْ أعظمَ الرُتبِ
وهاكَها دارُنا البيضاءُ شامخةٌ
على الثّريا بهذا ٱلموقفِ ٱلعجبِِ
يا مغربَ العزِّ قد زيّنْتِ مشرقَنا
بالإنتصارِ الٌذي أدمَى أبا لهبِ
فجّرْتَ في ملعبِ المونديالِ قنبلة
فأحدثْتَ فيه بركانًا من الغضبِ
يا ايُّها المغربُ ٱلغالي على وطني
طوبَى لفوزِكَ في المونديالِ باللّقَبِ
ًإنَّ الأسودَ الّتي أرسلْتَ نخْبَتها
إلى المباراةِ كانتْ خيرَ منتخَبِ
قد كانَ فوزُكَ في المونديالِ صاعقةً
على الذين ارتَشوْا بالمكرِ والكذبِ
لكنَّ حارسَكَ المقدامَ
أخرسَهُمْ
رغمَ التّعرُضِ للإرهاقِ والتّعبِ
يافرحةَ الشّرقِ من يومٍ ستذكرُهُ
أصابعُ ٱلمجدِ والتّاريخِ في الكتبِ
يومٌ به قد حنا المونديالُ هامتَه
أمامَ أبطالِنا في المغربِ ٱلعربي
إنَّ المغاربةَ الأبطالَ قدْ صنعوا
مجدَ ٱلحضارةِ بالأقدامِ والرّكبِ