لن أكرر الحديث عن الغزو التّتري لحقل المفاهيم وتمييعها في صناعة الزّيف، فلقد أصبح من الصعوبة بمكان أن نقف على فهم حاسم وخريطة واضحة في ظلّ هذه الفوضى عن مكامن التّطرّفات، غير أنّ هناك مزاعم تتعلق بالمقاربات المنتحلة حول التطرفات وفي طليعتها عنوانين ما فتئا يتكرران في مشهدنا وقد عرّجنا على بعضها ولا بأس من التذكير بذلك:
– عنوان القطيعة مع المشرق
– عنوان الوسطية والاعتدال
وسنخضع هذا “الكاملوط” النظري للفحص لنكتشف أي مدى يبلغه الزّيف ونظرية الألعاب داخل حقل التّطرّفات، لأنّ المهمّة الأساسية اليوم هي تقويض الزّيف وهو أخطر أنواع التّطرّفات وأسوأ أنواع الإلتفاف عليها.
1 – القطيعة مع الشرق
وكما ذكرنا فقد شاعت هذه الدعوى حتى باتت وردا في الخطاب الإلتفافي على التّطرّفات، تستبطن الفكرة شيطنة ديماغوجية للشّرق، وربما أصبحنا مصابين بهذا الدّاء:الشّرقوفوبيا، وقد كشفت هذه الدعوى على بنية خطاب تناقضي ربما ساهمت السياسة الفرونكوفونية في التمادي في تعزيزه، لكنها دعوى سطحية وغير تاريخية ولا تحترم الواقع الجيوسياسي، لكنها تجد أيضا في مشروع الجابري أساسا آخر مع أنّ الجابري مناهض للفرنكوفونية وهو كله صناعة مشرقية، وذكرنا سابقا أنّ التعصب للرشدية لا ينفع في تعزيز هذه الدعوى لأنّ الرشدية في نهاية المطاف هي تأثير المشرق على أوربا بواسطة الأندلس، وابن رشد صناعة للميراث الفلسفي المشرقي.
ويمكننا القول دفعا لهذه الدعوى التبسيطية أنّ كلّ من أراد هنا أن ينتحل نحلة إلاّ واستعان بالشّرق: الإسلامي والقومي واليساري : ماذا فعلت منشورات حسن البنا وسيد قطب والمودودي وسائر الركب في إسلاميي المغرب؟ وماذا فعلت كتابات سمير أمين وتيزني ومهدي عامل وسائر الركب في يساريي المغرب؟ وماذا فعلت منشورات العراق القومية ذات يوم في قوميي المغرب؟ وقس هذا على سائر الفنون والآداب؟ أي معنى وأي أفق لدعوى القطيعة إن لم تكن دعوى زائفة بلا موضوع وبلا آفاق، ليس المتطرف متطرف نتيجة تداخل المغرب والمشرق بل المتطرف متطرف في كل زمان ومكان، ماذا عن تصدير تطرّفاتنا؟
واليوم تتراكم مناشير ومراكز المشرق الرجعي – خلافا للمشرق التّقدّمي – وتسعى لتكريس سياسة ثقافية موجهة لا تجد أي اعتراض نظرا لما تقدمه بين يديها من سيولة وشراء الذّمم، بل حتى المراجعاتيين باتوا يستعيرون مرجعيتهم من المشرق فلا يحسنون مقارعة التطرفات المناهضة لتطرفاتهم إلاّ باستعارة منشورات القيمني وشحرور والقائمة المعروفة التي أعيد إنتاجها لتحدث هي نفسها قطيعة مع جيل الرواد. وكما ذكرت آنفا فإنّنا نسفنا تراث الرواد على اختلاف مناحيهم ودخلنا عهد النّكوص، هذا بينما أنتج الجيل الذي لا زال راهنيا من أمثال الحبابي والعروي والجابري والخطيبي وما تلاهم نصوصا حيويّة ومتينة.
وتفرض المقاربة الجادّة لظاهرة التطرفات الحديث عن القطيعة مع الجهل، والجهل لا جغرافية له، فقد يوجد الجهل مشرقا ومغربا كما قد يوجد العلم مشرقا ومغربا، فجغرفة الأزمات هي دعوى مزيّفة والتفاف علما أنّها دعوى غير دقيقة وغير عملية لأنّ المشهد غارق في أسوأ اختراق لأسوأ المراكز الرجعية المشرقية.
دعوى القطيعة مع المشرق لا موضوع لها بل هي جزء من مُغالطة الذّات، وهي دعوى لا تصحّ جغرافيا وتاريخيا، لأنّ الشرق مشارق وليس شرقا واحدا كما أننا في المغرب مغارب شتّى.
إنّ غياب أمن ثقافي حقيقي يجعل المشهد منتهكا ممن يملك التغلغل والتمكين، ولكن ليس الأمن الثقافي هو غلق الحدود وتمكين الحليف السياسي من التغلغل الثقافي، فحساب السياسة شيء وحساب الثقافة شيء آخر.
النظر إلى الأزمات بهذه الحساسية الجغرافية يعمّق الإشكال ويبسّط الحلول، فالعلاج بالبتر هو من أسوأ الحلول وأقساها، والنّقر على خشب الهويات التبسيطية هو جزء أساسي في خطاب الزّيف والمُغالطة، ولقد طغى طغيانا فاحشا خطاب الهوية وخرج عن حدّه في الوقت الذي تسعى مراكز التثقيف الرجعية إلى محق هذه الهويّة التي أصبحت وصلا تجاريا رديئا، ذلك لأنّ الزّيف اخترق حقل الجدل الهوياتي وقوّض جوهر القضية الهوياتية.
فالهوية مركبة وليست بسيطة، وهي مجال للتنمية وليست مجالا للحصار والبتر والقطائع، نحن إزاء تحدي تدبير الهويات، ويبدو أنّ المقاربة في مجال التطرفات أقحمت سؤال الهويّة في نقاش يتعلّق بقضية العقل والتنمية والتقدم.
لقد حدث خلط كبير بين سؤال التقدم وسؤال الهوية، ولعله من المفارقة أنّ رضوان السيد حين قدّم لكتابي العرب والغرب(دارالطليعة/بيروت/1998)، كان يلاحظ كيف أنّ خطاب الهوية عندي يغلب ويستأثر بسؤال التقدم، والحقيقة أنّ الهمّ كان حينها يتعلّق بضرورة قيام مشروع نهضة بشروط محلّية وتعزيز هوية خاصة مناهضة للمركز الإمبريالي، لم تكن دعوى للهوية المغلقة أو البسيطة، شيء عالجناه تباعا، لكن ما أن غير رضوان السيد السياسة الفكرية حتى أصبح ينادي برسم هذه التكتّلات الجديدة بضرورة تعزيز هوية طائفية، إنّه الانتهاك العظيم للمفاهيم التي نستعملها كأصنام من الحلوى ثم سرعان ما نلتهمها عند المساء.