آراءثقافة

التحولات الفكرية.. قلق معرفي في وسط محيط إجتماعي متأخر (1)

شيء من أم البدايات

قاسية هي الحياة البشرية حينما نتحدث عن غياب السلام والمحبة والعدالة، متوحشة عبر تراكمات البعد الفلسفي للفردانية، وموغلة في الانزياح نحو الاستبداد الاجتماعي بكل الابعاد والصور، مُتعبة لمن هو مًصاب بالقلقِ المعرفي.

أفتشُ في حقائب الذاكرة الصحفية عن حقيقة ما يدفع الإنسان إلى مجموعة تحولات أفقية كانت أو عمودية، وأحيان عن دوافع العودة إلى الهُوية بِصورتها الأولى، إنها رحلة محفوفة بالكراهية المنفلتة والاغتيال المعنوي وربما أكثر من ذلك.

أن تكتب خبراً ما شيء، وأن تًصبح أنت الخبر شيء مختلف تماماً، فيما مبتدأ الخبر لا يزال مبني للمجهول عند الكثيرين وكأنك أيها المعني بالقصة الخبرية قد رحلت من هذا العالم أو أن ما حدث لك يتجاوز حدود المعقولات.

بطبيعتنا البشرية ليس كل فرد فينا قادر على إخفاء هُويته الفكرية والتي بالضرورة تنعكس على حياته، طالما أنني كنت أحلق بجناحي الأمل على أن المتغيرات الاجتماعية كفيلة أن تهبني عالما مًمتلئ بروح التعددية الفكرية التي من خلالها أمارس حُرية التعبير عن ذاتي المصابة بالقلق المعرفي المستمر، قلق كان يُرافقني مًنذ مرحلة مبكرة جداً وكانت مليئة بالأسئلة الوجودية، والاجتماعية، والسلوكية في بيئة ذات بُعد واحد إلا من كل صور الاضطهاد، والازدراء، والعنف المزدوج المُتراكم، وبالرغم من كل ذلك، كان العطش المعرفي هو الثابت الوحيد ولا يزال بعد عقدين من الزمن.

مسَاَرات

إن التحولات الفكرية من أقصى اليمين حتى اليسار في المعتقدات والانتماءات التي تُلقي بِظلالها على القيم والمبادئ الأخلاقية سلباً أو إيجابًا تكشف حقيقة أن الإنسان كائن شديد التعقيد، وأعني ، إضافة أنه مُتسائل، إلا أنه يواجه حصار من قبل حُراس الادعاءات من أجل الاتباع والتطابق معها وكأنك منزُوع الكرامة والحرية، هذه الفئة هي الصوت الأعلى في العديد من المجتمعات لأنها واقعة تحت تأثير العقل الجمعي والذي ببساطة يفرض على كل من هو في دائرة الانتماء أين كانت صورة في عدم الخروج عن السياقات المعرفية سواء كانت موروثة أم حتى مُستحدثة، إنها التجلي الحقيقي للمكارثية التي ظهرت كإتجاه سياسي رجعي في عام 1950 في أمريكا ،على يد رئيس إحدى اللجان في الكونغرس الأمريكي السيناتور جوزيف مكارثي، التي تقوم على شيطنة الفكر و الرأي الآخر من أجل الحد من تأثيره الاجتماعي وقد يصل الأمر إلى توجيه اتهامات قاسية كالخيانة الوطنية بوصفها تهمة سياسية، أو اتهامات بُمحاربة وازدراء المعتقدات الدينية ولا غرابة لو تم استخدام القضايا الجنسية كتهم أيضا.

راقبت عن كثب العديد من الشخصيات العربية والغربية التي غيرت مسارات اعتقاداتها أين كانت وكان أهم الروابط بينها هوالعمل الجاد في البحث المعرفي وعدم التسليم في المورثات لا سيما تلك التي تضع حدوداً وقيوداً على العقل. وبكل تأكيد لا يوجد إتفاق موحد في كيفية التنقيب عن المعرفة والتحقق من ماهيتها وتأثيراتها، فهناك من يتبنى الأدوات الفلسفية، وهناك من يعتمد الأدوات العلمية وغيرها، وكذلك الحال مع المناهج.

أعتقد بشكل قاطع أن لا سبيل إلى الوصول إلى مجتمعات قوية وناهضة إلا من خلال تبني السلم الاجتماعي، ولتحقيق هذا الهدف السامي لا بد من تنفيذ الشروط الاجتماعية كخارطة طريق والتي هي خلاصة ما وصلت له من فهم في قضايا الصراعات الاجتماعية والتي لعل أبرز نماذجها الحروب الأهلية كما حصل في لبنان والتي اشتعلت في الثالث عشر من أبريل لعام 1975 للميلاد.

نحو مجتمعات ناهضة بالتقدم

إن التعددية في المرجعية الفكرية تُساهم في الثراء الفكري والتي بالضرورة تُساهم في دفع عجلة التقدم الاجتماعي وهذا من المفارقات في العقود السابقة حيث لم يكن العالم مفتوح على بعضه البعض، إلا أنه من المبكر جداً أن تًصبح المجتمعات تستوعب أن المرجعية الفكرية الواحدة تُعرقل نموها.

لذا فإن التعددية في الآراء داخل المدرسة الفكرية الواحدة من أكثر الأمور تعقيداً، نظراً إلى هذه البيئات الاجتماعية المحافظة والتقليدية سواء كانت عبر المنصات الاجتماعية على شبكة الأنترنت أو خارجها ترفض و تُهاجم فكرة تعدد الآراء داخل المدرسة الفكرية الواحدة، ولهذا حينما نسمع شعار أن الاختلاف لا يُفسد للود قضية هو في الحقيقة شعار غير واقعي، حيث أن الاختلاف في الآراء في المجتمعات التي لا يمكنها التعايش مع هذا النوع، وبل تؤسس إلى خلافات عميقة قد تصل إلى مستويات غير مُتخيلة كما هو الحال مع الصراع الحاصل في المجتمع البحريني حول موضوع ما عُرف في ” السفارة وجمعية التجديد ” هذا الصراع بكل تفاصيله التي خرجت على سطح منصة تويتر تؤكد لنا الهشاشة الاجتماعية وحقيقة ان المطالبات في الإصلاحات أو التغيير السياسي الجذري ماهي سوى خطأ كارثي باهض الثمن للغاية.

لست هنا لتبني موقف مع أعضاء جمعية التجديد أو خصومهم بالرغم أنني كان لي موقف ولا زلت وهو رفض كل خطابات الازدراء والكراهية من أي جهة كانت تصدر، وهذا ما لم يفهمه الخصوم لا سيما رجال الدين المسلمين الشيعة وبعض الأصدقاء ممن يقرأ بصمت.

يبدوا الأمر أشبه بالمستحيل على المدى القريب أن يتم قبول تعدد الآراء داخل الانتماء الواحد بوصفها حالة فلسفلية ضرورية. إن مفهوم الحوار القائم على الآراء المتعددة كوسيلة بناء حضارية تم تشويه معناه وتغييبه ابتداء من داخل الأسرة الواحدة، وفي مختلف المؤسسات الأهلية والحكومية وصولاً إلى صناع القرار في مختلف المناصب.

إن المجتمعات التي تحترم الآراء المختلفة وأصحابها وتسمح في عبور الاختلاف بصورة طبيعية، حتماً إنها بلغت مرحلة النضج الاجتماعي والذي يُشير إلى ضعف أو غياب لكل خطاب يزدري ويُلغي الرأي الآخر كان سياسياً، أو اجتماعياً، أو دينياً، لكن واقع المجتمعات لا سيما العربية والإسلامية لا تزال بعيدة جداً عن هذه المرحلة. الصحفي عادل مرزوق في برنامج يقدمه بعنوان ” تو النهار ” وهذا البودكاست من إنتاج رابطة الصحافة البحرينية بتمويل من المعهد الديمقراطي الوطني (NDI) – الولايات المتحدة.

في حلقة بعنوان ” مُنذ متى أصبحت المجتمعات الخليجية متسامحة ” يطرح سؤالاً بالغ الأهمية عن حقيقة التحولات الاجتماعية في المجتمع الخليجي: ” معقولة مجتمع متشدد دينياً يصير منفتح بضغطة زر؟” إن هذا السؤال جاء في سياق التحولات الاجتماعية في المملكة العربية السعودية بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان حيث تم السماح إلى المرأة بقيادة السيارة في 24 يونيو 2018.

وبالرغم أنها أي المملكة العربية السعودية وصفت لعقود من الزمن أنها أكثر المجتمعات بين هلاليين ” المُحافظة ” على صعيد الاجتماعي والديني، وذلك باعتبار عدم وجود تنوع ديني كما كانت تقدم الصحافة والإعلام عبر مختلف برامجها وكتابها، فضلاً عن الموقف الرسمي السابق الذي برز فيه بشكل واضح الأمير الراحل نايف بن عبد العزيز حيث نقلت صحيفة الرياض في الاربعاء 3 صفر 1433 هـ – 28 ديسمبر 2011م – العدد 15892 ” نايف: المملكة ستظل متبعة للمنهج السلفي ولن تحيد عنه ولن تتنازل فهو مصدر عزها وتوفيقها ورفعتها” وبالعودة إلى السؤال الذي طرحه الصحفي عادل مرزوق ، كيف لنا كصحفيين أن نقيس حقيقة التحولات الاجتماعية بين زمنيين متناقضين تماماً، وفي فترة تُعد قصيرة من أجل اختبار حجم التسامح كقيمة اجتماعية ضرورية؟

وهل التسامح مطلوب فقط في القضايا الدينية وحرية الاعتقاد؟ أم أن التسامح يشمل كافة مجالات الحياة من نواة المجتمع إلى صُناع القرارات؟ هذه الأسئلة وغيرها لم تجد طريق لها إلى الأضواء ولم تكن تحت مجهر التأمل الاجتماعي بما يكفي، ولعلى ما أحدثه من ضجيج عابر للحدود المذهبية والجغرافية عبر تداول فيدو عبر منصة التك توك والذي لم يكن في حقيقته إعلان عن تحول في المعتقد ( من الإسلام إلى المسيحية ) و الذي هو أمر خاص يعود إلى كاتب هذه المقالة، وما رافقه من لُغة البذاءة وأحيان التهديد بالموت، فيما البعض أصبح الوكيل الحصري للمحاسبة بعد الممات.

يقول الفنان السوري دريد لحام في أحد أعماله الفنية :” عمرنا ما كانت مشكلة مع الله ، مشكلتنا مع اللي يعتبروا حالهم من بعد الله ” هذه الجملة تُلخص أزمة في العمق الأخلاقي أن تكون حاكماً على حياة الآخرين بعد رحيلهم وكأن هؤلاء تمكنوا من معرفة حياتهم قبل توقف قلبهم عن النبض ولسانهم عن المحاكمات المُعلبة المليئة بالكراهية.

وبالأخذ بعين الاعتبار أنني أتحدث عن مجتمع (المجتمع المسلم الشيعي في الخليج) طالما تغنى بالاعتدال والانفتاح والتسامح، بينما الواقع يُثبت مما لا يدع مجال للشك أننا لا زلنا بعيدين جداً عن صفة المجتمعات المتسامحة في مختلف المجالات الفكرية ومجمل المعتقدات دينية كانت أو غيرها.

الموقف من العقل الجمعي

ثمة كارثة في المجتمعات العربية و الإسلامية أنها تنطلق في نظرتها إلى ذاتها والآخر من خلال الاحتكام إلى العقل الجمعي داخل كل صور الانتماءات وهذا ما يُفسر ظاهرة العنف ضد الآخر سواء كان سياسياً، اجتماعياُ، وحتى جندرياً ، فما أن يكون لك موقف ورأي سياسي حول قضية تًصبح في دائرة الاتهام والمواجهة المفتوحة، أم في البعد الاجتماعي ما أن تخرج عن العادات والتقاليد الاجتماعية وإن كانت خاطئة تًصبح منبوذ مما يحتم عليك البحث عن مجتمع آخر، وأكثرها وضوحاً قضايا المرأة بكل تفاصيلها حيث لا مجال لها إلا الهروب أين كان صورته أو الخضوع إلى العقل الجمعي وربما إنهاء الحياة.

الملفت في الأمر أن العقل الجمعي عابر للحدود الجغرافيه وكأنه إله. غوستاف لو بون (1841-1931) الطبيب وعالم الاجتماع الفرنسي يقول في كتابه سيكولوجية الجماهير صفحة 64: “إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير يمكنها أن تكون كريمة أو مجرمة، بطولية أو جبانة وذلك بحسب نوعية المحرضات، ولكنها سوف تكون دائماً قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير إلى درجة أن غريزة حب البقاء نفسها تزول أمامها.

(بمعنى أنها مستعدة للموت من أجلها) إنها أزمة العقل الجمعي الذي يؤثر في تكوين الجماهير مما يجعلها تتماهى تماماً مع أي خطاب تحريضي مهما كان محتواه ورسالته وهذا ما يُفسر ما حصل في العالم العربي قبل سنوات حينما انطلاق قطار الثورات من تونس في 17 ديسمبر 2010 والتي تعد أول ثورات ” الربيع العربي ” المطالبة بالحريات السياسية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية.

الدور الأخلاقي

لنأخذ صورة بانورامية سريعة على ما جرى في مختلف البلاد العربية والإسلامية والتي لا تزال آثارها تُلقي بظلالها الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية لتُرسخ في قناعتي أن كل المطالب المشروعة لا يمكنها أن تجد طريق لها إلا من خلال الإصلاح الأخلاقي وهو لُب الأزمات.

لنا مثال العراق مُنذ سقوط حكم الدكتاتور صدام وحزب البعث معه والعراق لم يتعافى سياسياً واقتصادياً واجتماعيا، بل إن العراق لسنوات طوال أصبح ساحة تصفيات سياسية إقليمية ودولية، بل إن من كانوا في المعارضة بكل انتماءاتها ووصل بعضهم للحكم والمناصب السياسية ما الذي فعلوه؟ نظرة خاطفة سوف تكون كفيلة لمعرفة الحاجة الحقيقة والملحة إلى إصلاح المنظومة الأخلاقية. بكل تأكيد حتى الموضوع الأخلاقي محل بحث ونقاش موسع فما هو أخلاقي عندك قد يكون عند الآخر العكس تماماً. يتناول الكاتب نذير ماجد في كتابه ضلال بروكرست: النص، المثقف، الطائفة، في صفحة 180 موضوع الميثولوجيا اليونانية وقدم نقداً حول صورة المثقفون الواقعون تحت تأثير التبعية مما يفقدهم حقيقة المثقف الذي ينبغي أن يُقدم قراءات معرفية أو ذاتية تكون رافداً في الحركة الثقافية والاجتماعية، إلا أنه قد يًصبح مهرج أخرق وفق تعبيره ” لا أظنني بحاجة إلى التأكيد أنا صاحبنا الثرثار يتبع كل شيء إلا المعرفة وذاته – حتى لا نقول ضميره.

تبعية المفكر الثرثار طبعاً- تأخذ أشكالاً متعددة وألواناً قزحية، كلها تحيله إلى مهرج. يمكننا تعداد ألف شكل وألف صورة من التبعية، لكننا سنلاحظ على الفور أنها تتلاقى في بؤر محورية: التبعية للظاهرة نفسها، التبعية للسياسي، والتبعية لأهواء الجماعة. ”

المعرفة صيرورة

لم نصل بعد إلى نهاية رحلة القلق المعرفي، ولا زلنا على قيد السؤال طالما أنه طاقة عقلية ضرورية لدفعنا كمجتمعات عربية وإسلامية نحو فهم أكثر وضوحاً وعمقاً لكل هذه التحولات على مستوى الذات والمجتمع.

لست ممن يتبنى الخطاب التصادمي، بل أشجع في الانشغال في الأسئلة الكُبرى سواء كانت ذات طابع وجودي أو خلافها. في الجزء الثاني من المقال سوف أحاول تناول جوانب أخرى تتحدث عن بعض المفاهيم ومحاولة فهمها وفق سياقاتها الاجتماعية والتاريخية والعلمية.

https://anbaaexpress.ma/ylg47

هاني العبندي

كاتب صحفي سعودي مقيم في أمريكا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى