الأمانة معناها في اللغة العربية : من مصدر أَمِنَ؛ أماناً وأمْنَا فهو آمِن ؛ عكس كلمة المخافة التي هي من مصدر خاف؛ أخاف خوفاً فهو خائف؛ أي فزع وصار في حالة خوف ومهابة وترقب وترصد بلا وعي من طامة غائبة عنه من حالة الأمن والأمان التي كان فيها؛ قال تعالى : { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } سورة قريش؛ واصطلاحاً تعني : أمر محسوس وليس ملموساً ؛ من ضمن ذاتية الأمر أو الشيء المراد المخاطب وتكوينه وتكليفه وهكذا.
وردت كلمة : “الأمانة” في القرآن في أكثر من موضع ( بين عشرة لعشرين موضعاً دون التدقيق) ويختلف معناها حسب موقعها من الجملة؛ مثلاً : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } سورة النساء؛ هنا تعني وتفيد الأمانة المتعارف عليها وضدها الخيانة؛ كالوديعة ووجوب المحافظة عليها لحين وقت أداءها لصاحبها لأمر كان ملموساً وليس محسوساً وربما يكون محسوساً ككتمان السر مثلاً في مواضع أخرى ؛ وكقوله تعالى : { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } سورة المؤمنون؛ فتعني هنا : المحافظة على العهد ويتكنفه بالرعاية والعناية والمحافظة والسلامة والأداء كأحسن ما يكون الإيفاء بالعهد وصونه؛ وضدها التسيب والإهمال واللامبالاة والاستخفاف بقيمتها المعنوية وهكذا.
الأمانة؛ يختلف المعنى من موضع لآخر حسب السياق والصياغ النصي المحوري لموضوع الآية وغرضها المغروض ولا تنحصر في معني واحد فقط أو ثابت لا يتعداه لغيره ولا علاقة لما ورد في الكتب الموروثة الفقهية والتفاسير بما قلناه هنا من معاني لا من قريب ولا من بعيد.
أبت السموات والأرض والجبال أن تتحملها من ذاتها فتؤمن ديمومتها بنفسها من الهلاك والفناء والسحق ودفع البلاء دون أي تدخل خارجي عليها وأقصد نوازل الله عليهما كيفما كان وأينما شاء ؛ أضف إلى ذلك أنهم غير عاقلين ولا مكلفين ولا ذات لهم ولا عقل ولا فكر ولا إرادة فكأنما الإيحاء بالعرض أن يتحملوها مقصود بالحوالة لأصالة البشر من الخطاب والعرض لأنهم عاقلين وواعين ومدركين بموجب العقل المنفوخ فيهم وما ينتجونه من تفكير وتدبر وحماية وأمان وعمل وخلافه؛ مثلاً : أمَّنَ الإنسان نفسه من البرد والقِر بصناعة النار والتدفئة ومن القيظ بصناعة المكيفات والمراوح والريش لتخفيف الحرارة؛ وأمَّن نفسه من الحروب بصناعة الواقي الدرعي الحديدي ومن المرض بصناعة الدواء ومن الفقر بالمال والعمل ومن الجوع بالزراعة ومن الشراب بحفر الآبار وورود الأنهار وهكذا؛ لكنه لم يؤمِّن نفسه من الكوارث والابتلاءات والزلازل والإزالة من الوجود بالخلود على ظهر هذا الكوكب بقدر ما فكَّر ودبَّر وصنع وأبدع وعمل وأجاد؛ وهنا يدخل مفهوم معنى كلمة ” ظلوماً جهولاً” دلالة؛ فهو لم ولن يقدر أن يحمي نفسه من سقوط السماء على رأسه ولا خسف الأرض من تحته ولا دفع الضرر بين جنبيه كالمرض والرهق والنصب فكان حمله أمانة نفسه من أكبر تجليات ضعفه وهوانه وجهله وعدم تقديره التقدير السليم لما خفي عليه في مجاهيل الوجود ما عساه يصيبه أو يتعرض له ولا حيلة له بدفعه ومنعه أن يقع أو يكون .
“ظلوم” من معانيها في القاموس العربي : أمْرٌ مُظلم : لا يُدْرَى من أين يُؤْتى؛ وليس معناها من الظلم الذي هو الجور والحيف ضد العدل ؛ كذلك معنى كلمة ” جهولاً” : من المجاهيل والغيبيات التي لا يعرفها البشر مهما بلغ من عقل وحكمة وتدبير وليست من الجهل الذي هو عكس العلم؛ قال المتنبي :
ودون سميساط المطامير والملا * وأودية مجهولة وهجول
يريد أن يقول : هذه الأماكن من الخطورة بمكان الدخول إليها والبقاء فيها لأن عاقبة التيه والضياع فيها ليس مأمونة العواقب ولا يأمن الإنسان علي حياته لشدة خطورتها وصعوبة الخروج منها؛ ومثالها : دخول المرء غابة كثيفة الشجر كغابات الأمازون مثلاً لا يعرف أولها من آخرها وليس معه من فكرة كيفية الخروج إذا دخلها؛ وأيضاً عندنا المثل السوداني القائل : ( الزول ده رايح ليه الدرب في الموية) ؛ ويضرب المثل لمن غاب عنه وعيه وادراكه وحسه وحكمته وعقله وتفكيره السليم في معضلة دخل فيها ولم يعرف كيفية الخروج منها؛ كذلك ابخال بالنسبة للممثل يضرب لغياب الاتجاهات في عرض البحر كما هو الحال قديماً قبل صناعة البوصلات والتكنولوجيا الحديثة وربط السفينة بالأقمار الاصطناعية لحصر خط سيرها فلا تضيع وسط البحار العظيمة مجهولة الاتجاهات الجغرافية وعدم وضوح الرؤية فيها لمخرج أو طريق آمن.
“ظلوماً جهولاً” ؛ إصطلاحاً تعني : غياب العقل وقتامة الفكر وضبابية التفكير والتدبير وحسن المأمن لمجاهيل معرفة كينونة الخطر الذي يحدق به حال أقحم نفسه فيه وتحمله المغامرة والمجازفة والحماية بوهم العقل في ذاك أن يتحمل عاقبة ومصير ما يؤول إليه فكره ومراده من فعله وعمله إذا دخل الغابة وعليها قس .
هنا الله يخاطب الإنسان بفرضية أن يجعله يحميه ويمنعه ويذود عنه المخاوف في مجاهيل الحياة الدنيا والآخرة لكنه بحكم وهمه واعتماده على عقله وحركته ونفوذه لم يقبل تلك الفرضية في الخطاب العرضي فوقع في شر أعماله وأفكاره ولم يجد له نصير من ذاته ولا من جنسه حين ألمَّ به الشر وطوَّقه من كل جانب وما لم يتوجه إلى الله تعالى الذي له القدرة المطلقة في تأمينه وحمايته والحفاظ عليه من مجاهيل ما خلقه ولا يدريه البشر عنه فلات مخرج له ؛ فوسمه حينها؛ حين لم يوجه قناعاته وتسليمه لما يفوق تصوره لخالقه بالظلوم الجهول؛ لذلك تجد آخر الآية القرينة المتممة لمعني ما قد سبق : { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً } سورة الأحزاب؛ تؤكد ما ذهبنا إليه .
المنافقون هنا هم الوسطيون بين القناعة والإيمان والتسليم وبين الاعتداد بالذات وتوهم القدرة على تأمين أنفسهم حال نزول النوازل؛ والمشركين والمشركات هم الذين يعتمدون على الغير كالأفكار مثلاً وغرور الذات وتوهم القدرة علي الحماية والأمانة من المخافة والاكتفاء بذواتهم من غيره بالصناعة والفلاحة وما أمكن عمله والعكس صحيح بالمغفرة والتوبة للمؤمنين والمؤمنات فهم الذين يدركون مراده من فعله امتثالاً لأمر الله تعالى لهم فجعلوا حماية أنفسهم عليه إيماناً وتسليماً؛ ولا يخفى المدح والرضا عليهم منه جلا وعلا.
هذا هو معنى كلمة : ” الأمانة” كما وردت في الآية الكريمة وتراها بعيدة كل البعد عن المعاني التي قال بها المفسرون والفقهاء قديماً وحديثاً وما أثبتناه أصوب وأجود إن شاء الله.
شكراً لك على النشر والمتابعة والإهتمام..
محبتي لكم