الرمال المتحركة في الكون الجيوبوليتيكي، وحدها تفسّر جدل التصعيد والتخفيض في النزاعات الإقليمية والدولية. ليست لعبة الورق عربية، ولا حتى الدومينو.
لكنهم يتقنون ألاعيب أخرى، أهمها اللعب بالألفاظ. كلّ شيء ماع في المشهد العربي حتى أعتى المفاهيم التي يُفترض أن تنقلنا إلى برّ التعقيد في رؤية الأشياء، خارج مأزق التبسيط الذي كرّسته الشعبوية.
عادت أزمة السودان إلى عادتها القديمة، وما يخيفنا أكثر، ليس هو ما يجري من اقتتال بين الجيش وقوى الدّعم، فهذا مظهر يخفي جوهر المعضلة، أنّ السودان كما ذكرت مرارا، هو بلد يمتلك رصيدا من العراقة، ولكن خانته الجغرافيا السياسية.
المخيف هنا هو الإعلام الذي يفضل إضفاء الارتعاب والأبدية على الحدث. في تاريخ السودان ومنذ الخمسينات، جرب هذا المجتمع الصدامات العسكرية ذات النمطية الموسمية. لكن خلف كل هذا يوجد ميل متفرد للحوار، حيث خلف صوت البنادق، توجد الرغبة في حلّ المشاكل الداخلية من دون تدخّل.
اليوم هناك أشكال من التدخّل في المشهد السوداني. وحتى الآن لا زال الشعب السوداني يميل ميلا إجماعيا على أهمية حماية مؤسسة الجيش، وحدها المؤسسة الضامنة لاستعادة الحياة السياسية المدنية.
يوجد من الوعي السياسي ما يكفي هنا لحلّ سوداني-سوداني ، خارج القراءات المتضاربة التي تأتي من الخارج وتشوّش على المشهد، عبر أنماط التحليل التبسيطي، والاستعمال الفاحش لنظرية المؤامرة بشكل جامد، يتجاهل التفاصيل والحركة الدائبة للمشهد، وتعاقب الأجيال الفاعلة في السودان.
ليس الحقل الفني وحده الذي يفتقد إلى ملكة الإبداع، بل حتى السياسة إن شئنا أن نستثنيها من الفن، فقدت الإبداع، وفتحت المجال للغوغائية.
فُرض الحصار، كما استلّ سيف ديموقليس على رأس السودان، وتراكمت الضغوط في غياب تضامن عربي حقيقي، ليدفع السودان ضريبة الاستفراد به في غابة لعبة الأمم، فكانت النتيجة هي اقتطاع جزء من ترابه دون أن يظفر بأي امتياز جديد، سوى مسلسل من الأزمات.
وكان السودان قد حاول أن يناور ليحفظ الحدّ الأدنى من وجوده، لكن الفوز بمكاسب جيوسياسية حقيقية لم يكن دائما حليفه، بل ازداد الضغط والابتزاز. لا توجد مبادرات إقليمية أو دولية تجاه السودان سوى الابتزاز واستغلال وضعية هذا البلد لمزيد من التّأزيم، وهو ما يفسر تضارب الخيارات السياسية.
يحتاج السودان اليوم إلى تعزيز مؤسساته الكبرى، ويحتاج أن يترك لحوار داخلي بين فرقائه، لتعزيز الانتقال السياسي والعدالة الانتقالية في مناخ متصالح مع التقاليد السودانية نفسها في احتواء تناقضاتها الداخلية.
فالتدخل الخارجي هو الخطر الداهم، والعصف الإعلامي الخارجي يلعب دورا في تعقيد الأزمة. هناك ما هو غائب، أي مبادرة عربية نزيهة، تساعد الأطراف على نبذ التصعيد وحماية المؤسسات الاستراتيجية، وأهمها وما تبقّى منها، مؤسسة الجيش. فالسودان اليوم من دون مؤسسة الجيش هو في اتجاه المجهول.
وجود نخب وتجارب وتراكم في الخيارات، يكفي للدفع بالعجلة السودانية إلى الأمام. والعمل على تعزيز قوة الحكومات المدنية بضمانة من الجيش، قضية لا بديل عنها. في حمأة هذا الصراع يكون المطلوب هو فنّ الممكن، وليس القراءات الطوباوية في إقليم مأزوم.
وأمام تعقيد المشهد السودان وجب العمل على مساعدته بدل منح دروس مجّانية لشعب مثقف سياسيا حتى النّخاع. هل يا ترى يوجد فاعل خير عربي بعيدا عن سُعار الابتزاز والاستغلال؟ كل قضايانا العربية يجب أن تُقارب داخل نسق إقليمي هشّ ومأزوم.
لا شيء غير هذا سيظل قارّا، بما فيها السياسات، التي أضعفت الإرادة، واستغلت الوضعية الحرجة للسودان، وإقحامه في قضايا لن تنفعه في بناء مستقبله. ما يحصل اليوم في السودان، يتعلق بتعثر الحوار الداخلي.
ولكي يمضي هذا الحوار يجب أن تعود السياسة إلى السودان، وخفض خطاب الشيطنة، لأنّ قوة السودان تكمن في الحوار بين أطيافه، مهما بدا من حرارة الخطاب وصدام التوجهات، هناك قيم التعايش كثابت في التقاليد السودانية، هو ما تحتاجه السودان اليوم، في أفق تحريك المساعي الحميدة لاحتواء الأزمة.