آراءثقافة

كهوف الفلسفة

يعتبر المجتمع الإنساني مغايراً لمجتمع النمل والنحل فهو مجتمع تتراكم فيه التغيرات وتدفعه للتطور بدون توقف

الثلاثي الفلسفي في اليونان ابتدأ من سقراط وتابع طريقه عبر أفلاطون وأكمل الرحلة مع أرسطو الذي أسس مدرسة في التاريخ الفلسفي مازال يطلع عليها كل من سار في درب الفلسفة وفهم كيف يعمل العقل عندنا لفهم الوجود الموضوعي. ولعل من أبرز أفكار أفلاطون (الذي يعتبر مسجل أفكار سقراط) فكرتان الأولى عن الكهف الفكري والثاني قانون التناسب.

وفي هذا الصدد قام عالم الاجتماع الفرنسي (أوجست كومت) بدراسة الظاهرة الاجتماعية لفهم ما هو المجتمع؟ وماهو القانون الذي يخضع له أثناء حركة تغيره؟

يعتبر المجتمع الإنساني مغايراً لمجتمع النمل والنحل؛ فهو مجتمع تتراكم فيه التغيرات، وتدفعه للتطور بدون توقف، ويعتبر فيه الأفراد المبدعون شرارة التغيير الأولى، ولكن أفكارهم لا تعني شيئاً مطلقاً، ما لم تتبناها وتتفاعل معها شريحة من القيادة تزداد قاعدتها مع الأيام. ويرى مالك بن نبي المفكر الجزائري أن مابين ولادة الأفكار وانتشارها فترة (حضانة INCUBATION – PERIOD) تماما مثل بداية الأمراض قبل اندلاعها، ونحن نعرف في الطب أن الحضانة تتراوح بين ساعات في اجتياح الفيروسات الخطيرة أو التيتانوس لمدة اسبوع أما التهاب الكبد فقد يأخذ وقتا يمتد إلى مائة يوم.

أنا شخصيا تعرضت لجرح ملوث وأنا أنظف القبو عندي (الكاف) وعلى الرغم من تنظيفه بسرعة ووضع اليود على الجرح ولكن لأنها منطقة الأطراف السفلية فهي أخطر وأمضى في سقوط البدن وهكذا كان علي أخذ الصادات الحيوية ورفع ساقي للأعلى لمدة أيام ووضع الثلج على المنطقة لتهدئة فوعة الجراثيم، وفي يقيني لو أنني رأجعت المشافي العادة خرجت جثة إلى المقبرة كما حصل مع قريب أعرفه مات بسبب بسيط لقلة العناية وضآلة العلاج!.

وحسب مالك بن نبي فإن قانون الحضانة أي مابين دخول الجرثوم إلى الجسم وتمركزه في مكان ما كما هو الحال مع فيروسات شلل الأطفال (البوليو) الذي أصيب به أخي البكر أكبر مني سنا فكانت الواقعة بين ليلة وضحاها لأن هذا الفيروس المسخوط يحب المناطق الأمامية من النخاع ويسمونها القرون الأمامية فيما لو نظرنا بصورة مقطع عرضاني للحبل الشوكي.

مالك بعبقرية ينقل مفاهيم البيولوجيا إلى علم الاجتماع فهو يرى أن الحضارة الإسلامية ذات فترة حضانة قصيرة للغاية، فلم يكن بين الفكرة وهيمنتها الاجتماعية فاصلاً طويلاً، خلافاً للأفكار المسيحية التي ضربت في عمق الزمن قروناً طويلة، قبل أن تنبثق حضارتها. ولكل ثمن مابين الحفاظ على النصوص وتحريفها.

إن قانون التغيير اجتماعي يقوم على تغيير نظام الأفكار قبل كل شيء، فإذا غير فرد ما بنفسه لا يتغير مابه على وجه الضرورة، ولنقل بكلمة أدق لا يتغير ماله علاقة بالتركيب الاجتماعي، بل قد يحصل العكس على المستوى الفردي، فالتصريح بالآراء الخطيرة تكون أحيانا حماقة وقاتلة، والمجاهرة بمخالفة ما اعتاده المجتمع مع كل انحرافه؛ يجعل المجتمع يصب العذاب على هذا الفرد النشاز صبا. ومحمد ص اعتبر منحرفا (حنيفا أي مائلا عن الصراط المستقيم؟) فعلى سقراط تجرع السم ولو كان فيلسوفاً حكيما، ويجب أن يحرق برونو حيا على نار هادئة فيشوى مثل أي فروج لأنه سمح لعقله بهامش حركة تخالف رأي القطيع، وعلى (جان لوك) أن يفر من بريطانيا الى هولندا ويختفي من الوجه، وعلى (رينيه ديكارت) أن يكرر قولته المشهورة عاش سعيداً من بقي في الظل، وأن يخرّ غاليلو على ركبتيه أمام رجال الدين الكهنوتي فيعترف أنه أحمق مأفون.

ولكن يبدو أن قدر التغيير لا يبدأ إلا من الأفكار ومن الأفراد المبدعين المتميزين (الانفجاريين) مثل اليورانيوم الاجتماعي المشع، الذين غيروا عندهم الخرائط الذهنية الاجتماعية، وقاموا بممارسة (نقد) الفكر السائد وخرجوا من رحم التقليد، وكهف الظلام العقلي الى هواء الحقيقة الصحي، وشمس المعرفة المتألق؛ فإذا حملت نخبة هذا الفكر، ونمت من خلال قانون محنة تصهرها وتخرج الخبث من تضاعيفها وتلحم أطرافها، تتحول مع الوقت الى (كتلة حرجة) تغير طبيعة المجتمع، بعد مكثها في وسط الحضانة الى حين.

وسقراط الذي دفع حياته ثمناً لأفكاره، تبعه شاب أخذ اسمه في التاريخ بجانب سقراط مؤرخاً وشارحاً لأفكاره هو أفلاطون؛ فسقراط لم يكتب عشرة أسطر، ولكنه ترك خلفه أكثر من عشرة مدارس فكرية، ليس آخرها (أكاديمية) أفلاطون و(مدرسة) أرسطو والكلبيين والرواقيين والابيقوريين.

كان سقراط فلتة عقلية مدهشة، ونبتت أفكاره بعد موته في تيار عقلاني إنساني لم يتوقف عن التأثير، حتى وأنا أكتب عنه بعد مرور 2400 عاماً على موته، وأقوم بتأسيس أكاديمية العلم والسلم على ثبج البحر الأخضر الإلكتروني. يقول أفلاطون تلميذ سقراط : أعجب ما يحصل لمن يمارس القطيعة المعرفية، ويخرج من ظلام كهف التقليد الى شمس المعرفة، ويتحرر من وهم امتلاك الحقيقة الحقيقية النهائية، يشبه رجلاً مر في ثلاث حالات:
من هو داخل الكهف لا يبصر إلا من خلال حركة الظلال، ويرى سجين هذا الكهف أن ما يراه هو الحقيقة النهائية وسواها ليس بحقيقة.

فإذا أنعتق ورأى الكون بمنظار جديد، يعرف الفرق بين الظلام والنور، وهو حس وتألق خاص لا يعرفه إلا من خاضه وعاناه وانبهر منه البصر، وشهدت له العاقبة، ولكن المأساة أن من يعود ليشرح لهم ما رأى وعاين؛ يفاجئ بالظلام الدامس يعمي عينيه فيتهم بالجنون، ويطالب بقفل فمه، ويصبح أحمقاً أشد من قبل؟‍! لذا يردد الحكماء في مجتمعات المصحات العقلية هذه؛ أنه يجب أن يقولوا قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا أويحرض مخبرا سريا على كتابة تقرير سري سمي حتى يستمر المجتمع في سيمفونية الشخير العام.

لنرجع الآن إلى أفلاطون مجددا فقد جاء عنده ماعرف بقانون التناسب وجاء هذا في كتاب القوانين لأفلاطون ص 691 قانون التناسب ونصه أن من :” ارتكب إثماً ضد قوانين التناسب فأعطى شيئا كبيرا للغاية إلى شيء صغير للغاية ليتولى حمله مثل تزويد سفينة صغيرة للغاية بشراع كبير للغاية.

وإعطاء وجبات ضخمة للغاية لجسم صغير للغاية. وإضفاء سلطات واسعة للغاية على نفس صغيرة للغاية. لو تم ذلك لكانت النتيجة وبالا تاما. ففي صورة الحمق يسرع الجسم البّطِن صوب المرض. في حين يندفع المتغطرس صوب الفجور الذي يغذيه الحمق” ؟!.

وهذا القانون يذكر بمبدأ الكاريكاتير فهو لا يزيد عن خلل في علاقة النسب، كما في تضخيم الأنف أو الذقن واللحية؛ فيظهر الوجه كما هو معروف، ولكن مع التشوه الذي يدفع إلى الابتسامة. وهو أسلوب تعتمده المجلات، بل هو باب لا يمكن لأي مجلة أو جريدة، إلا أن يظهر بين صفحاتها كتعبير بسيط موحي مباشر بدون كلمات كثيرة.

ويستخدم الكاريكاتير عادة للهجوم على أخطاء السياسيين بروح من الفكاهة والتضخيم. أما في عالم الغابة السياسة، حين ينتفخ الحاكم إلى القدر الأعظم، يتحول المجتمع إلى عالم من الكاريكاتير، كما رأينا في كيم ايل أون الصغير حاكم كوريا الشمالية. وبالمناسبة فهو مرض لا يخص كوريا بل يمكن أن يتعرض له أي مجتمع وليس هناك أحد محصن ضده بمصل خاص.

ويعرف في علم النفس بالنرجسية. وأي نظام يمكن أن يقع في مخالبه، ولو تظاهر بأنه شعبي؛ فالحياة تتعامل مع الحقائق وليس الشعارات. ومن أدعى أنه سيد الحكماء وأعظم الأطباء والجراحين، لن يشهد له بالجدارة في الفن سوى العمليات الرائدة التي ينجزها بنجاح.

وأذكر في هذا كيف تجرأ مدير تحرير مجلة الحوادث اللبنانية (سليم اللوزي) على رسم كاريكاتور لحافظ الأسد (الرئيس السوري يومها) وتحت الصورة جملة لماذا يكذب النظام فكلفته هذه الجملة حياته، وهذا تناذر خطير عن تكاليف الكلمة، وفي الحديث أن أحدنا يقول الكلمة لايلقي لها بالا تهوي في وديان جهنم.

ويحضرني في هذا قصة الروسي الذي حكم بالإعدام بسبب اشتراكه في مؤامرة للإطاحة بالقيصر الروسي ولأنه ثقيل الوزن فقد انقطع حبل المشنقة حين علق عليه؛ وجرت العادة أن القيصر كان يصدر عفوا بالحياة في مثل هذه الحالات النادرة، ولكن صاحبنا حين وقع على الأرض صرخ: تبا لهذا البلد فهم لاينفعون في شيء ولايصلحون أي عمل حتى الحبال لاتنفع في الشنق! كان القيصر في طريقه لتوقيع العفو لكن فكرة لمعت في ذهنه قال ماذا قال صاحبنا حين نجا من الموت؟ ذكروا له ماقال! استشاط القيصر غضبا وقال هذه المرة اجدلوا له حبلا بعناية خاصة فلا تنقطع ولو كان ثقل المشنوق جبلا، وهذا الذي كان فقد كلفته تلك الجملة حياته، والآن كل من القيصر وصاحبنا المشنوق عند الله يختصمون. فلا شانق ولا مشنوق بل عباد يطلبون الرحمة.

والمؤرخ توينبي يذكر هذا القانون في كتابه مختصر دراسة التاريخ كدليل لأسباب إخفاق تقرير المصير في سلم الحضارات، والرجل يختصر انقضاء الأجل عند الحضارات في سبع أسباب رئيسية هي:

1 ـ عبادة الذات الفانية كما حدث مع صدام حينما هوى.
2 ـ أو التوكل على نظام أكل عليه الدهر وشرب كما في إيديولوجيا البعث القومية.
3 ـ أو تكنولوجيا فات وقتها كما في علاقة الانترنيت بصناديق البريد القديمة، التي ما زال رجال المخابرات في الدول الثورية يعتمدونها للتجسس على المواطنين، ما يذكرنا بساحرات العصور الوسطى، تحاول صيد الأطباق الطائرة بالمكانس ؟؟ ألا ساء ما يزرون؟
4 ـ أو التورط في آلية المحاكاة وانطفاء روح الإبداع كما في الحديث عن الديمقراطية بدون معرفة أنها وعي الناس قبل صناديق الانتخابات، وفي الدول الثورية تجرى الانتخابات زورا وبهتانا على شكل كاريكاتير لا يضحك له أحد. وصدام انتُخب في خريف 2002م بنسبة 100%.
5 ـ ومن أسباب الانهيار اعتماد أساليب جديدة تحمل أفكارا قديمة.
6 ـ أو الوقوع في أسر خمر النصر ونشوة تحقيق الإنجازات العظمى.
7 ـ ولكن توينبي يرى أن النزعة الحربية تبقى من أعظم الجوائح التي تقضي على الحضارات، وهو مصير يهدد أمريكا الحالية. وعندما يمرض الإنسان لا يستوعب ولايعترف أنه مريض حتى يقع أسير الفراش. وهناك من شرحنا له عملية الفستولا في الفشل الكلوي فلم يستوعب وهرب ومات.

وحين يقع المرض سريريا عندها تكون الحالة متأخرة والإنذار خطيرا. ودرهم وقاية خير من قنطار علاج. وهكذا فلب الحكمة هي التناسب، والمدير السيء هو من يقرب المنافقين ويبعد المخلصين الناصحين. ويروى عن جحا كيف وقع في هذا الخطأ القاتل من الخلل في النسب؛ فأصبح مهزلة بين أصدقائه فقد كان حريصا على لفت نظر الناس فيبالغ في أمثاله فنصحه صديقه أن ينتبه وإلا أعطاه إشارة من سعال أو نحنحة.

وفي يوم قال للناس أنه بنى مسجدا طوله 25 كم فلما تنحنح صديقه بشدة، سأله الناس وكم كان عرضه قال جحا وهو ينظر إلى صديقه كان: مترا واحدا!! قالوا ضيقته كثيرا ياجحا فالتفت بعين حولاء إلى صديقه قائلا الله يضيّق على من ضيّق علي.

https://anbaaexpress.ma/ezc84

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى