
جرت العادة في كندا أن يحتفلوا يوم 11 نوفمبر من كل عام؟ وحين سألت ابنتي أروى وأنا أتناول الأفطار عندها ما المناسبة؟ قالت هو يوم التذكر (Remembering,s day)!.
قلت وماذا يتذكرون؟ قالت هذا اليوم فيه انتهت الحرب العالمية الأولى. وهكذا على الساعة 11 صباحا في يوم 11 من الشهر 11 نوفمبر من العام 1918 توقفت ماكينة القتل وأغلقت بوابات الموت حتى إشعار آخر.
جاء في صفحة الوكيبيديا عنها التالي: الْحَرْبُ الْعَالَمِيَّةُ الْأُولَى، عُرفَتْ حينئذٍ بالْحَرِبِ الْعُظْمَى، هي حرب عالمية نشبت بدايةً في أوروبا من 28 يوليو 1914 وانتهت في 11 نوفمبر 1918.
وُصِفتْ وقت حدوثها بـ«الحرب التي ستنهي كل الحروب». جُمِعَ لها أكثر من سبعين مليون فرد عسكري، 60 مليون منهم أوربِّيين، للمشاركة في واحدة من أكبر الحروب في التاريخ، لقي أكثر من تسعة ملايين مقاتل وسبعة ملايين مدني مصرعهم نتيجة الحرب، وتعتبر أيضًا عاملا مساهما في عدد من جرائم الإبادة الجماعية والإنفلونزا الإسبانية عام 1918، والتي تسببت في ما بين 50 و100 مليون حالة وفاة في جميع أنحاء العالم.
تفاقم معدل الخسائر العسكرية بسبب التطور التقني والصناعي للمتحاربين، والركود التكتيكي الناجم عن حرب الخنادق القاسية. تعد هذه الحرب أحد أعنف الصراعات في التاريخ، وتسببت في التمهيد لتغييرات سياسية كبيرة تضمنت ثورات 1917–1923 في العديد من الدول المشتركة. ساهمت الصراعات غير المحلولة في نهاية النزاع في بداية الحرب العالمية الثانية بعد عشرين سنة.
ولكن لماذا اندلعت الحروب، وشبت النزاعات الدموية، وانفجرت الحروب الأهلية ومازالت؟ بل لماذا تحدث النزاعات المسلحة أصلاً، ليس فقط بين الدول بل حتى على مستوى الأفراد؟ حقاً إنه سرٌ عجيب، ولغزٌ غامض، يستحق التنقيب عن منابعه، والكشف عن جذوره، لإنه أفظع من وباء الكوليرا والحمى الصفراء والجذام والجمرة الخبيثة مجتمعةً!!
فالحرب أودت بحياة زهرة شباب المجتمع ومازالت!! ومن الغريب أنها لاتعتبر حتى الآن مرضاً رهيباً وجنونا وإفلاسا أخلاقيا وارتكاباً لجرائمَ حمقاء، بل (بطولة) خارقة، وسياسة متقنة! لقد حان الوقت لوضع هذه الظاهرة المكربة تحت عدسة مجهر الدراسة النفسية الاجتماعية، من أجل بناء ثقافة (سلمية) وتوديع ثقافة (البطولة) ، بعد أن أدرك العالم أن طريقَ القوة مسدود، وأن الحربَ عبثيةٌ وانتحار.
مازلت أتذكرني في خريف عام 1993 م وأنا في زيارة للعاصمة الكندية مدينة (أوتاوا)، وفي رحلة التعرف على البرلمان الكندي والكومنولث البريطاني والمكتبة الرائعة التابعة للكومنولث والتي تحوي 600 ألف كتاب من ذخائر المعرفة الإنسانية، ثم المجلس الذي تدار فيه مناقشات الأحزاب، وحيث يهيء وفي مكان مرتفع منه للراغبين من الجمهور في حضور هذه المناقشات الساخنة، وفي نهاية الرحلة وقفت السيدة التي كانت تقوم بدور المرشد السياحي أمام لوحة تذكارية لتقولَ بخشوع: هذه اللوحة هي ذكرى للخسائر التي مُنيت بها كندا في الحرب العالمية الأولى، حيث اشتركت الوحدات الكندية في ساحات القتال الأوربية، مع مجموعات دول الكمنولث من اوستراليا والهند ونيوزيلندا وبالطبع بريطانيا، حيث سيق 600 ألف جندي كندي يمثلون زهرة شباب المجتمع الكندي و(عُشر) (1 \10) مجموع الأمة الكندية في ذلك الوقت، وقتل منهم أيضاً العُشر (قُتل 60 ألفاً).
وقفت أتأمل اللوحة التذكارية والشعر الحزين المسطَّر عليها، تساعدني ابنتي التي كانت تدرس في جامعة (مك جيل) في فك معاني بعض الكلمات، ذلك أن الأسطر كتبت بلغةٍ فخمةٍ: (عندما ترسل الشمس أشعتها الدافئة، وتمتلىء حقول الربيع بورود الزنبق والياسمين، وتشعرُ بالسلام يظلل الوطن الذي تعيش فيه، فلا تنسى البؤساء في حشرجة الموت، تنزف جراحاتهم في ساحات القتال) وتمنيت أن تُختم الأبياتُ بالاستفادة من هذا الدرس المريع كي لايتكرر الخطأ، بكل أسف خُتمت الأبيات بــ (ثقافة البطولة) مرةً أخرى: (لا تنسى دماء القتلى وآهات الجرحى وعذاب المشوهين من أجل الثأر لهم والانتقام لتضحيتهم!!) ولم يختموها بجملة (كفى بالحرب واعظاً !!) في الختام قلت لمرشدتنا الكندية : إنني جداً متألم لما ذكرتَ ، وأرجو أن لاتتكرر هذه المأساة بتقديم المزيد من القرابين البشرية على مذبح الحروب البئيسة، فهزت رأسها متأثرةً بالإيجاب.
في يوم (28) يونيو من عام 1914 م، اختبأ شاب (صربي) عمره (19) عاماً فقط، في أحد أزقة مدينة (سراييفو) هو جافريلو برنسيب (GAVRILO PRINCIP) وبيده مسدس محشو بما يكفي من الطلقات، قد أكلَ الحقد قلبه، يصرُّ على أسنانه، ويشدُّ من قبضته على الغدَّارة التي في يده، وهو ينتظر قدوم ضيوف هامين إلى مدينته لتصفية الحساب معهم!
في هذه الأثناء كان ولي عهد امبراطورية (النمسا وهنغاريا) الأرشيدوق (فرانتس فيرديناند) (FRANTZ FERDINAND) يركب عربةً مكشوفة، وقد اصطحب زوجته الكونتيسة صوفي شوتيك (SOPHIE CHOTEK) التي محَّضها حبَه وإخلاصه يحاول أن يُدخلَ على قلبها شيئاً من البهجة بمناسبة مرور 14 عاماً على زواجهما، فهي من عائلة عادية وهو من عائلة الدم الملكي (آل هابسبورغ) العريقة، فلايُسمح لها بالظهور في الاحتفالات النمساوية العريقة في البلاط الملكي، وكان من سوء الطالع (لاندري) أن الحبَ جمع بينهما ليتزوجا في 28 حزيران من عام 1900 ميلادي، وليفارقا الحياة في نفس هذه المناسبة بعد أربعة عشر عاماً!! فأرادَ أن يمضيَ معها وقتاً للاستجمام والراحة بعيداً عن فيينا، في هدوء مدينة (سراييفو) عاصمة البوسنة التي كانت قد ضمت إلى الامبراطورية النمساوية عام 1908 م.
أثناء اختراق الشارع الرئيسي في مدينة (سراييفو) تنقل لنا أسرار التاريخ أن منظمةً سرية صربية إرهابية، تدعى منظمة (الكف الأسود) كانت على موعد مع القدر في تلك الأيام ، فقد جنَّد رئيس تلك الجمعية وكان رجلاً غامضاً اسمه آبيس (APIS) مجموعةً من الشباب المتحمسين لاغتيال الضيف المهم القادم للاستجمام في المدينة مع زوجته !!
كانت مجموعة الاغتيال الرئيسية مكونة من ثلاث أشخاص، وهي غير صاحبنا (جافريلو) الذي كان يتربص في مكان آخر، فأما الأول فأشفق من قتل الكونتيسة فتراجع، وأما الثاني فمد يده إلى المسدس، إلا أنه ارتجف وخانته شجاعته، وأما الثالث فتحامل على نفسه وطوح بالقنبلة اليدوية بعد مرور الموكب فأخطأت هدفها.وبذلك نجا ولي العهد النمساوي وقرينته المحبوبة، وتنفس التاريخُ الصعداءَ!! ولكن هذه الاستراحة التاريخية لم تدم أكثر من ساعة، فالحريق الشيطاني الذي سيغلف الكرة الأرضية مازال على موعد مع رصاصات (جافريلو برنسيب) الذي لم يدرك ماذا فعل، وماهي النتائج المروعة والرهيبة التي ستتلو هذه الرصاصات الغادرة؟! وطوفان الدماء الذي سيغرق جنبات المعمورة.
كان (جافريلو) تحت ضباب الحقد لايرى سوى شيئاً واحداً: أن يسفك الدم النمساوي، ولم يعلم أن (الصرب) سوف تُسفك دماؤهم أيضاً، وأن الدم يقود إلى الدم، والحقد يثير الحقد، والكراهية تولد الكراهية، والدمار ينتج الدمار المتبادل، فهي عملة متبادلة، وردود فعل كونية رُكِّبت النفوس عليها، وأن الذي يدفع بالتي هي أحسن يولد التي هي أحسن، وأن هذه الطريقة تجعل (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) !!.
غضب الأرشيدوق من حادثة الاعتداء هذه، وألغى برنامج زيارته، وأمر الحوذي بسلوك طريق مخالف، في إحدى أزقة المدينة، إلا أنه هذه المرة لم يفلت؛ حيث عاجلته وزوجته الرصاصات محكمة التسديد من يد جافريلو، فرقد الزوجان متكئين إلى بعضهما، غارقين في الدم، فاقدين الحياة والأنفاس.
وحتى الآن لم نفهم كيف سيفقد ملايين الجنود حياتهم في ساحات الوغى بعد طلقات سراييفو، وتندلع أفظع حربٍ عرفها الجنس البشري حتى ذلك الوقت؟! وهي التي عرفت بالحرب العظمى أو الحرب العالمية الأولى، أو ماروته لنا جداتنا ونحن صغار نسمع مشدوهين فاغري الأفواه للمجاعة والفقر والتشرد والمذابح الجماعية وكيف طرد (العصملية) الانكليز من (جنا قلعة وغاليبولي) وهو ماعرف واشتهر بحرب (السَفَر برلك).
مع هذا تبقى هذه القصة غير ذات معنى، ولاتفسر تماماً الكارثة الكونية المروعة التي حدثت بعد ذلك؟ لذا كان لابد من أجل فهمٍ أدقَ وأعمق، أن يُنظر إلى هذه الحادثة من خلال الاقتراب إلى جو الحدث، فنحن بعقليتنا الحالية يصعب أن نفهم سببية الحدث وعلاقته بنتائجه الكارثية، لابد إذن من محاولة فهم، بل وتفكيك الحدث التاريخي لمعرفة محتوياته، لابد من معرفة (الجيوبوليتيك) أي الوضع الجغرافي السياسي، لابد من معرفة الوضع النفسي الاجتماعي التاريخي، بل والتطور التكنولوجي وماكينة الحرب لفهم عملية (الذبح البشري الكبرى) التي تمت في مدى أربع سنوات ونيف!!
لعل أقرب تفسير لهذا الحريق هو نظرية عود الثقاب أو العمل الذي تجاوز نية صاحبه، بمعنى أن إلقاء عود ثقاب على برميل ماء لايؤدي إلى أي حريق، خلافاً لرميه فوق برميل بارود، كما أن ضرب رجلٍ بكف لايؤدي لموته، لولا أن صاحبه قريب من الموت بأقل من ضربة الكف؟! وهذا ماقاله المثل العربي القديم (القشة التي قصمت ظهر البعير) وإلا فإن آلاف القشات لاتفعل شيئاً للقط فكيف بالبعير!! هذا الجو في أوربا بشكل أو آخر هو الذي فجَّر برميل البارود في العالم، مع أن أوربا عاشت لفترة نصف قرن في سلام ممتع، ومعها العالم حتى جاءت هذه النكبة الجائحة.
لعل الفيلسوف والمؤرخ الألماني (أوسفالد شبينجلر) انتبه بشكل دقيق لجو القرن من خلال البانوراما التاريخية فكتب يقول: (لقد اقترحت على نفسي أن اضع دراسة واسعة عن الظاهرة السياسية آنذاك، وعن تطوراتها المحتملة ويومذاك كانت الحرب العالمية تبدو لي أنها وشيكة الوقوع، ومظاهرة خارجية محتومة للأزمة التاريخية التي كانت تجتاحنا حينذاك). وماهي الأزمة التاريخية حسب شبينجلر ياترى؟ إنه يحددها: (إنني أقرر هنا أن الاستعمار الذي كان الأساس الذي ارتكزت عليه الامبراطوريات بين مصرية ورومانية وصينية وهندية، وقامت على أشلاء الضحايا وإذلال الجماهير، أقول إن الاستعمار هو الرمز المميز لاحتضار المدنية الغربية وموتها، وفي هذا الشكل الظاهري – الاستعمار – قد بت الآن بمصير الغرب بتاً لاعودة عنه ولا تعديل)