آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات: إشكالية المقاربة (10)

التبشير المُراجعاتي

لم نكن إزاء ثورة على الذّات بقدر ما كنّا أمام التفاف تكتيكي، سيتحوّل إلى حالة تبشير وخداع أيديولوجي ومزايدة تنتهي بالمُراجعاتي إلى تنصيب نفسه معلّم البشرية في مجال قيم الأنسنة والتسامح والحداثة. في هذا المنعطف الذي يلعب فيه التدليس دورا كبيرا، لأنّ من لم يعش محنة التفكير وبناء المفاهيم سيجد في هذا الطواف المزيّف نزهة فكرية بلا قلق فكري، وهنا حصل شكل جديد من النكوص، العودة إلى “الإرهاب والكباب” وأحمد مرة أخرى يندس في الجماهير ويختفي داخل الحشود، ولن نعرف من أي كهف أتى هذا التّطرف ومن هي ذئابه المنفردة.

تبدو هنا المراجعات كخطاب تبشيري جديد، كغواية، كهروب من المسؤولية الجنائية وباب فتح للإفلات من العقاب، بدأ كصفقة وانتهى كموضة راقصة، حينما نفشل في التّدمير نراجع، ويبقى السّؤال: هل توجد أسس فلسفية ولاهوتية لهذه المراجعات؟

مراجعات ممسرحة، منقولة، متكلّفة، شكل من التجهيل عبر مفاهيم مهرّبة، يكفي في تشخيص الحالة أن المراجعات تكتسب سلطة الخطاب، وشروطها ليست معرفية خالصة أو قلق فكري له مقدماته وتراكماته واختماراته، يكفي: أن تكون صاحب سوابق+ وقاحة التحلّل من الذّاكرة + ميل انتهازي + الاغتراف من الإنشاء “الشحروري” وما شابه + وجود بيئة للطّنز الأيديولوجي + تراجع بيئة الإستقامة الأيديولوجية + نقر ميديائي لصناعة نجوم وفق نظام التّفاهة الذي نقرؤه جميعا كأنّه لا يعنينا وربما استعملناه من موقع رداءتنا ضدّ صنّاع المعنى أنفسهم.

في اللّغة نتحدّث عن شرط أساسي يتعلّق بالمراد الجدّي، من يا ترى يحاسب التبشير المراجعاتي حول القدر من الجدّية الذي يُشترط في الخطاب؟ سيصبح نقاش حول النّوايا، لقد توارى أحمد داخل الحشود، من يا ترى يحاكم من؟ أليس هذا هو معضلة فتنة الفكر وظاهرة الإيبوكريزيا، حتى لو عرفت أحمد بين الجموع لن تستطيع أن تفرزه: لكي لا يقال أنّ محمدا يقتل أصحابه.

سنجد أنّ الفتنة والنّفاق من كبرى قضايا التّاريخ الإسلامي التي تعدّت الحدث السياسي لتصبح قضية نسق في التفكير وقضية الضمير.

ويظهر عند الفحص السّريري لخطاب ميت يقوم عليه التبشير المراجعاتي بأننا لسنا أمام ما هو جدير بقيام حركة إصلاح كتلك التي نهض بها رواد الإصلاح بشروطه الموضوعية ومهاراته الشخصية، إنها الثرثرة المراجعاتية، بتعبير آخر لسنا أمام ثورة كلفانية بالمعنى الذي يوحي به خطاب المُراجعة الذي أصبح طريقا انتهازيا للكسب والمزايدة.

لا يكفي كما ذكرنا استحضار التحشيد “الشحروري” للأفكار المنحولة، لأنّها ملهمة بل مغرية للخطاب الإلتفافي، فهو محاولة تلفيقية تقوم على فوضى في الأسس وتضارب في قواعد المعقول، خليط من المعقول واللاّمعقول يصلح للّجاج لا لبناء أسس تجديد حقيقي في المباني لا في الأفكار التي وجدت قبل شحرور وبنى مذهبه على تحشيدها وفصلها عن مبانيها المتضاربة من دون أن يكلّف نفسه الإحالة على مصادرها، كم من شحرور ستنتجه بيئتنا بعد سنوات قليلة انطلاقا من هذه التمارين الهزيلة؟ لنا مع هذا الإنشاء وقفات أخرى ولكن تظل حرية التعبير ليست حقّا للكاتب بل هي حقّ لنا كي نستطيع أن ننشئ علاقة نقدية حقيقية معه، ثمة خطاب يكتسب سلطته ليس من قوة المباني وجدّة الفكرة بل من قدرته وقدرة خطابه على الإثارة والمناكفة، هذا سيعقّد المقاربة.

كنت في المشرق وليس بعيدا عن البيئة الشحرورية، كان في بداية تمعقلاته الأولى، من سوء حظّه أو حظّي أن أقرأ بضع صفحات من باكورة عمله لأُصاب بالفطام، الترنّح والإلتفاف والعمى المفاهيمي والإستهتار بالأسس والمباني والسّرقات الأدبية، لو حضرت الهندسة على أقل تقدير هنا لأنقذت الموقف، المشكلة ليست في صور التّخلّف التي يناهضها كل خطاب يستمد سلطته من التبشير المراجعاتي أو المناكفة التي تجعله ضربا من الكلام ضدّ الكلام.

بل المشكلة في مباني الأفكار كما سنرى عيّنات منها، جاء شحرور مرة لزيارة السيد حسين فضل الله ليكسر العزلة والطوق التكفيري حول تصريحاته، وفي غيبته قال لي السيد بأنه ضدّ حملات تكفير الرّجل أو تكفير زائر آخر له هو نصر حامد أبو زيد، هم يعالجون قضايا داخل الفكر الإسلامي، كانت حينئذ سلطة الخطاب تتشكّل على حافّة التكفير، أي أنّ التطرّف يمنح سلطة للخطاب النقيض، كان الإشكال حول الحق في التعبير لا في الحقيقة، لكن لا أحد وقف على الجديد في خطاب ما فتئ يحشّد الموجود ذاته بلغة الإثارة؟

ويؤسفني أن نخرم منطق التّاريخ حين نتحدث عن العروي والجابري وأركون ثم نتحدّث عن شحرور في طول هذه التجربة، أتساءل عن المباني هل نحن نعيش نكسة ومفارقة الأجيال؟ وحين كان شحرور ملتهيا ومنشغلا بمظاهر سلوك حرافيش السلفية ويبني من خلال مناكفته لها خطابا يشبه الخطاب اليومي، كنت مهتمّا بهذه المقارنة التي يجب أن يخوضها الفكر الإسلامي في ما يتعلّق بالمنعطف الكالفاني، بالقبض على مباني وقواعد تفكير الإنتاج وأنماطه، الفقه -وشحرور جاهل بالفقه – شرط في استيعاب المتطلّب الحقيقي في التجديد، يترك المباني وينشغل بالأحكام بينما الأحكام تتبع الموضوعات والعناوين المتحوّلة، لا تنقصه الفلسفة فحسب بل الفقهين الأكبر والأصغر أيضا، يبني على مناهضة كلام الدّعاة، هل سيكون قدرنا يدور بين التبشير المراجعاتي وخطاب الإثارة التحشيدي؟ دعاة في مواجهة دعاة، ولع بأفكار لكن لا تملك مقومات مشروع بمباني ونسق متكامل الأطراف.

وحين كان شحرور ملتهيا بالمناكفة ضد التعبيرات السّلفية، كانت المباني تلفتنا أكثر من المظاهر العرضية، هذا فضلا عن خلو هذا الخطاب من فكرة غير مسبوقة يخفيها ضعف الأمانة العلمية وتراجع قيمة الإحالة على المصادر، داء عضال تفشّى في زمن الرداءة وخراب الأسس، سأكتب حينها دراسة حول: من المدينة الكالفانية إلى المدينة الإسلامية: في نقد الوظيفة السوسيولوجية الويبيرية، سأحاول تسليط الضوء على ما يميز الاقتصاد السياسي الحديث عن اقتصاد الكسب التقليدي، في مقارنة بين ماركس في الرأسمال والشيخ الأنصاري في المكاسب، لننتهي إلى دور السياق ونمط الإنتاج في إنشاء الخطاب الإقتصادي نفسه.

كان الموضوع يتجاوز العقلانية بالمعنى الساذج للمفهوم بل يتعلّق بنسق وسياق وشروط تاريخية، تساءلت عن أي رؤية يحملها الفكر الإسلامي عن فنّ تدبير المعاش؟ كيف نفكك فرادة دور البروتستانيتية في ظهور الرأسمالية؟ كيف نخرج من ربقة الإدانة الويبيرية وقصة(le désenchantement du monde)، كان التحّدي أبعد مدى(انظر: حوار الحضارات بين أنشودة المثاقفة وصرخة الهامش /2002).

هذه التساؤلات لا تغري بالقدر الذي تفعل المناكفات، حتى أنّ كثيرا منهم طلب التخفيض من المعاقرات المفاهيمية طمعا في الجمهور، وها نحن وصلنا إلى غلبة النمط الذي يراهن على الجمهور، وهنا نعلن أنّ الجمهور ليس هو من يحدّد قيمة الفكر وإن كان معنيا بنتائجه. مرة أخرى نذكّر أنّنا مضطرون لهذا النوع من الإحالات نظرا للبيئة المتعسّفة، لعمليات التهريب الكبرى لحقائق التّاريخ، إنّنا مطالبون باستحضار تاريخ الأفكار- وإن كانت تزعج من لا تاريخ له – وبأنّنا لن نستسلم لتحكّم مراكز الأبحاث الرجعية التي تسعى لتزييف المشهد والتمكين من الإلتفاف على التساؤلات المبنائية الكبرى.

القفز على السكولاستيكية من دون بدائل غير المناكفة والمزايدة، لا شيء ينشأ في بيئة الرجعية ببراءة، هناك محاولات لتطويق الفكر وخنقه في أطر مستحدثة تفرض عليه الإلتفاف بدل المباشرة، انتهى زمن الحبابي والعروي والجابري وحسن حنفي وأركون – على ما له وما عليه – ليبدأ زمن شحرور وما شابه، هل نحن في نكوص أم في تقدّم على طريق المُطارحة؟ هل سترسم لنا الرّجعية خريطة طريق جديدة للتفكير، هل شحرور هو حقبة ما بعد الجابري والعروي وحسن حنفي؟ إنّ المهام التي تنتظرنا في مقاربة ظاهرة التطرفات والفهم الدّيني أكبر من هذا المتاح الذي ترعاه مراكز الإلتفاف على التّطرّفات ويعزّزه التبشير المُراجعاتي، وكما ذكرنا سابقا: إنّ الفكر الذي يحدد نفسه كنفي اعتباطي ومناكفة محض ليس فكرا..

https://anbaaexpress.ma/hkgtp

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى