آراءثقافة

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات: إشكالية المقاربة (9)

ثمّة أمثلة كثيرة جديرة بأن تعطينا صورة عن هذا الابتذال المفاهيمي، إنّ جانبا من الأزمة هو مرتهن أيضا للطريقة التي ننظر بها إلى الأزمة، فالمفاهيم مفاتيح، ولكن المفاتيح من دون صيانة تصدأ.

لقد تناولت جانبا من هذه المُعضلة من خلال بعض التطبيقات في كتابي:”ما وراء المفاهيم”، موضّحا منذ البداية بأنّ النخبة نفسها اعتزلت المفاهيم ردحا من الزمن، وحين عاقرتها عاقرتها بنوع من الفوضى لا يتجاوز التنزيل الساذج، تنزيلا لا يرفعها فوق مستوى التطبيقات البيداغوجية في جو موسوم بشحّة الإبداع، لا يوجد تداول ناجع للمفاهيم، فالقضية هنا تتعلق باستغلال النخب أيضا لبساطة المتلقّي ولعنة الأمية بمستوياتها المختلفة في استسهال المفاهيم وسوء التسلط عليها، إنّ المفاهيم تحتاج إلى متلقّي حذر وصُلب، تحتاج إلى طبقة وسطى، إنّ نخبنا المتعلّمة – ومن هنا الجهل التّعلّمي- تفكر تفكيرا عاميا لكن باستغلال خاطئ للمفاهيم وليس باستعمال بنّاء لها، لقد استغلوا سلطة المفاهيم لتمرير أفكار لا ترقى إلى مستوى تلك المفاهيم، كمن يستعمل بيلدوزير ليبني كوخا من طين وتبن، وبهذا فسدت الحياة الثقافية، المفهوم لا يأتي من فراغ بل هو صناعة تزدهر في بيئة تنتج المعرفة (ما وراء المفاهيم /2009).

ويبقى السّؤال: هل نحن في الموقع الذي يجعلنا نتحدّث عن المشروع الحضاري من داخل الخطاب الدّيني؟

لا أخفي وجود نكسة حقيقية ما عدا النكسة التي أعادت سؤال النهضة إلى أسئلة متشظّية ومنتهكة للمضمون الحضاري لمشروع النهضة والإصلاح، هناك ارتدادات حتى في راهننا حيث غاب سؤال التنهيض وحلّت إشكالية اليومي، ولكنّني أعتقد أنّه بات من السّابق لأوانه أن نتحدّث اليوم عن مشاريع النهضة والتّحضّر وذلك لسبب بسيط هو أنّنا لسنا مؤهّلين -أقصد الخطاب الدّيني بوضعيته الرّاهنة في بلادنا – إبستيمولوجيا ولا أنطولوجيا لإبراز الأبعاد الحضارية لهذا الدّين للأسباب التي ذكرنا وأهمها لأننا لم نتجاوز المدرسية في التنزيل إلى المدرسانية في الاختمار المعرفي وانتهاء بما بعد المدرسانية للقيام بهذه المهمّة النهضوية. هناك مهّام تنتظرنا بإلحاح وتشكل أولوية لا تقبل التأخير، هو استلهام قيم الفرسان، مكافحة الرداءة، الحقد، الكراهية، تفجير الحدّ الممكن من القيم، التسامح في حدود القيم الإنساني، فخطاب النهضة والتحضّر لا يولد داخل بيئة تضمحلّ فيها قيم الفرسان ويسود فيها مكر الإنسان ضدّ الإنسان، وقيم العبيد التي تشجّع على العدوان.

التركيز على البعد القيمي هنا ليس تراجعا عن خطاب النهضة والحضارة بل هو تعزيز الأرضية الضرورية لذلك: قوّة القيم والقدرة على الإبداع. أقول هذا ولازلت معنيّا بالأبعاد الحضارية لمقاربة الخطاب الدّيني، شيء قمنا به في أزمنة سابقة وساهمنا في شيوع هذه المفاهيم بما لا يخفى، كان يومها خطاب معظم التنظيمات الإسلامية هائما في موضوعات وشواغل لا ترقى إلى الخطاب النهضوي والحضاري، دعونا له منذ الثمانينيات كخطاب وبححنا من ذلك وقدمناه كمشاريع وبرامج تفكير بداية التسعينيات وفي مقارعات حضارية مشهودة، وساهمنا في أوراش ومختبرات لتطوير الرؤية الحضارية وآليات المشروع النهضوي الذي سيجد زبدته في الإطار المفاهيمي الذي تمّ التعبير عنه بعد ذلك بسنوات في “مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري” مشروع ثورة ضدّ الانتقاء، ضدّ التلفيق، ضدّ الإلتباس، ضدّ التجزيئ، كان هذا هو الهمّ الذي سكن وجداننا وربما كانت فرصة -هكذا كان الظّن – لنثر بعض من هذا الهمّ النهضوي في مشروع أرضية حزبية انطلاقا من ضرورة مساهمة الأحزاب في التأطير بناء على رؤية وتصوّر ولكن كل شيء يضمحلّ حين تكون البيئة غير جاهزة لاحتواء المشاريع الحضارية الكبرى، حين تنقلب الظواهر وتتموضع وتُصبح مُتّهما، يكفي أن أذكّر ببعض العبارات التي تضمنتها نصوص كتبتها منذ ما يقرب من ثلاثين عاما تهدف إلى التحريض على القيام بالتجديد وتفجير الأبعاد الحضارية من داخل الخطاب الدّيني في سياق مثقل بالتّخلف الفكري، أنظر مثلا في مقالة قديمة تحت عنوان: (مشكلة الحداثة وبؤس الإنتقاء: أزمة في أزمة) – نشر فيما بعد في كتاب:العرب والغرب، أية علاقة أي رهان – وفيه سنجد هذا الهاجس معبّرا عنه كالتّالي:
– ” إنّ الغرب يملك فكرا وتفكيرا، ويمنع بسلطة خطابه الإمبريالي عملية تشكّل الفكر في عالمنا العربي”.

– ” ومادام هذا الفكر (الفكر الإسلامي) هو أكبر مما يتصوره رواد الانتقاء في عالمنا فإنّه مطلوب منه استيعاب الآخر كسبيل للتخاطب معه وطريقة للتخلص من غزوه”.

– “إنّ الفكر الإسلامي بصيغته ووضعه الراهنين ليس فكرا يجدر نسبته إلى الإسلام، لأنّ الفكر الذي يقوم على قاعدة نفي الآخر وتحديد أوالياته ومناهجه من خلال حركة “النفي” ليس فكرا”.

– “إنّ هاجس الخوف من المنهج ومن التجديد في النظر إلى التراث يجب أن يزول كما يجب أن يزول هاجس الاغتراب، فنحن في حاجة إلى انبعاث ونهضة جديدة”.

حصلت هذه الدعوة قبل انطلاق مراجعات الجماعات الإسلامية الأولى بمصر بسنوات، وإنّنا نذكّر بذلك لأسباب موضوعية، يفرضها السّياق والقهر والتّعسّف والتجهيل، لأنّ حالة التنميط التي كرسها خطاب الإستئصال تخفي كل هذه الملحمة من المحاولات الموثّقة والسابقة في الزمان عن كل أشكال المراجعات وقلب البدلات، وهو ما حجب الوجه الآخر والأساسي لمطارحاتنا، وبأنّ ما يبدو اليوم خطابا جديدا هو وصول متأخر إلى محطّة دشّناها منذ عقود، يحتفظ التّاريخ بذلك في خزائنه، ولأنّ خطاب النهضة والتّقدم لا يمكن أن يقوم على الإستبعاد والتّنكّر للنصوص السّابقة في دحر التخلف الفكري وهشاشة الخطاب، وهي دعوة لا تقتصر على التلويح بالعناوين بل هي مكابدة ومجاهدة شمولية لإرساء أرضية علمية متكاملة لقيام مشروع حضاري، لكن حين نقول أنّه بات اليوم من السابق لأوانه أن نتحدّث عن خطاب حضاري فإننا نقصد أننا لا نملك آلياته ولا أسسه في الخطاب الديني المتاح في بلادنا، لأنّ خطاب الحركات الإسلامية هنا لازال غير واعي بأزمته وهو يعيش على نوع من الخداع الذّاتي واستعمال تمثيلي للمفاهيم على أساس وعد بالبيع، وهو يتحايل عليها بكثرة الإلتفاف والمناورة ليس إلاّ، ولأنّه خطاب يعاني من أزمة قيم ويواجه نكسة حقيقية حتى وهو يكتسب مواقع متقدمة في ألاعيب السياسة، فذلك مكسب محدود ويعمّق الأزمة ويؤجّلها الحلّ قدر المستطاع ويخفي أزمته خلف هذه الأنماط من التمعقلات الخادعة.

كانت هناك محاولات متفرقة في المنطقة العربية، اختلط فيها النزوع النهضوي بنقيضه، كانت أزمة أسس، من هنا الدعوة إلى التجديد الجذري، فالاجتهاد مفتوح ولا بدّ من ملامسة الأسس وتهذيب الأصول وصقل المفاتيح، وسنبيّن كيف أنّها محاولات تلفيقية بينما ما نشاهده من فذلكات الخطاب المراجعاتي أو التجديدي في إنشاء بعض الجماعات هو إصرار على الإلتفاف على منبع التّطرّفات واجترار مزاعم خارج سياقاتها وأرضيتها وشروطها وقلب الطاولة في وجه المقاربة، إنّها في جانب كبير منها تبقى أزمة أسس.

https://anbaaexpress.ma/den74

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى