آراءسياسة

الإختفاء القسري في العراق.. جريمة في قطار الأمم المتحدة السريع

المنظمات الأممية التي تُعنى بانتهاكات حقوق الإنسان في بُلدان العالم، تمتلِكُ عيون امرأة، خاصَّةً، في تقييم ما يتعرِّضُ له ابنُ آدم في العالم الثالث. رموش هذهِ الأُمميات، تعتمِدُ في درجة تسبيلِها – تقييم خطورة الانتهاكات – على شبكية عين المصالح (الجيو- استراتيجية) للخمس الكِبار في مجلس الأمن.

اللطيف، إنَّ البريطانيين اكتشفوا إنَّ عدسة عين المرأة.. و لحُسنِ حظِّ الرِجال، تحتوي مادة مالكينيا، التي تجعلهم أحلى و أكثر وسامة بخمسِ مرَّات، من حقيقتهم. تحتلُ هذه العيون، الرموش، و آلية التسبيل، أهمَّية كبيرة في دُنيا أنظمة العالم الثالث، خاصَّةً تلك التي أُجبِرت على “التَمَقْرُط”، مع بدايات القرن الحادي و العشرين، بواسطة تلقين حامِلات الطائرات، و بجنودٍ معولمين، يحمِلون جنسيات البُلدان الهدف لمشروع “التَمَقْرُط”.

المنظمات الأممية، هذه، أعطتنا عيونها، كي نرى – والمثال هنا العراق– الفواعل اللاتاريخيين الذي سيطروا على العملية السياسية، بعد 2003م، كأنظمة سمينة محليَّاً (لديها شرعيَّة)، و رشيقة القد (تعوُّلِم اقتصاد بلادِها و تربِطُ سياساتِه بجنازير المحاور).

لجنة الاختفاء القسري، التابعة للأمم المتحدة، و في تقريرها الأخير عن العراق، و الذي صدر بعد أربعة أشهر تقريباً (صدر في 4 أبريل 2023) من زيارتها للعراق في نوفمبر 2022، قد يُشبه للوهلة الأولى، تبني سيناريو رواية (جريمة في قطار الشرق السريع)، للكاتبة أجاثا كريستي، لقتل مسؤولية الطائفيين و العرقيين الذين يقودون البلاد، بخصوص جريمة الاختفاء القسري؛ التي تُعاني منها البلاد منذُ عقود، لكن رغم ذلك، فإنَّ تقاريرها ومتابعتِها الحقيقية – تقييمي الشخصي – فضحت تفوَّق النِظام العراقي، المولود أمريكياً بعد 2003، على ما سبقه، و فضحت الشروط اللاإنسانية التي تعيشُها البلاد.

حبكة السيناريو 

اللجنة الأممية أقرَّت في عدَّةِ تقاريرٍ لها – ملاحظات ختامية و توصيات – بأنَّ جريمة الاختفاء القسري، و التي تُمارس منذُ عقودٍ في العراق، بلغ العدد التقديري لضحاياها ما بين (250.000- 1.000.000)، تحديداً، من 1968-2023م، حيثُ شهدت خمسة موجات من الاختفاء القسري.

هذا التقدير ذو الفرق الشاسع، مُثير للجدل – ألطف تعبير – و يشبهُ مونولوج شخصية (المحقق بوارو)، الشهيرة، في رواية (جريمة في قطار الشرق السريع)، قبل اكتشافِه أن جميع الراكبين (اثنا عشر شخصاً)، اقدموا على قتل الرجل الثالث عشر قتلة واحدة!

لن نثمل بالحيرة طويلاً، إذا ما علمنا إنَّ الأحزاب الإسلامية (الشيعية متمثلة بحزب الدعوة) و الأحزاب العرقية (الكردية متمثلة بحزب الاتحاد و الديموقراطي الكردستانيين)، استخدمت الضحايا السياسيين.. مثلاً المنتمين للحزب الشيوعي العراقي – لم تُذكر أعدادهم في تقارير اللجنة الأممية – كي تحصل على حصَّة (290 ألف) ضحيَّة من عدد (المليون).

المفارقة – العراقيون الأكراد كمثال – رضوا بحصَّة عشرة في المائة، من موازنة ضحايا جريمة الاختفاء القسري في العراق (المليون)! رغم إنَّ الجميع يعرف بأن النُخبة العراقية الكردية – السياسية تحديداً – كانت في قتالٍ مستمر مع الدولة العراقية، منذُ ستينيات القرن الماضي! و بالتالي فنحنُ أمام أرقام تُنقل من يمين الماضي إلى شِمال الحاضر السياسي.

الهدف الأساس للعراق الأطلسي، هو تعويم جريمة الاختفاء القسري، و التي هي جريمة ضد الإنسانية، في بلادٍ، يُجرى تزوير تاريخها و فبركة حقائقها بكثافة بعد 2003م. أمّا حزب الدعوة و الذي ربط نفسه بالحزب الشيوعي، فقد حصل على ( 190 ألفاً) من الضحايا(المليون)، و هذا لا يتناسب مُطلقاً مع طبيعة الحزب الانتقائية، ولا مع عدد كوادره العاملة لا الحالِمة في تلك الفترة الزمنية!

ذكر هذه الأحزاب الثلاث؛ التي تقع ضمن النِطاق (الشيعي – الكردي) ليس اعتباطياً، فهذا الثلاثي، يمتلِكُ جماعات ضغط في عاصمة القرار العراقي (واشنطن)، و من أهم ركائز العراق الأمريكي ذو القرنين الإيرانيين، بعد 2003.

العراق الأطلسي رغم كُلِّ ما تقدَّم، ما زالت في رقبته (750 ألفاً)، مطروحاً منها ضحايا “داعش” الإرهابي.. اقصد تحديداً أولئك الذين وقعوا تحت مقصلة جريمة الاختفاء القسري، أغلبُهُم عراقيون من الديانة: الإيزيدية، المسيحية، لكن النسبة الأكبر كانت لأتباع الديانة الإسلامية و مذاهبها، خاصَّةً العرب.

الأمريكان و البريطانيون كانت حصَّتهم من جرائم الاختفاء القسري (96 ألفاً)، رغم إنَّ تقرير اللجنة بيَّن بأنَّ هذه الجرائم كانت مؤقتة! إذ حوِّلت ملفات المعتقلين في النهاية، من قوَّات الاحتلال إلى الجهات العراقية.

بقيةُ ضحايا الـ (750 ألفاً)، تعرضوا لجريمة الاختفاء القسري، على يدِ الميليشيات العراقية (المؤمنة بعقيدة ولاية الفقيه الإيرانية)، و التي هرَّبت نفسها إلى مؤسسات الجيش، الأمن، و الشرطة، تحت يافطة “الحشد الشعبي”. اللجنة اعترفت بأن سيطرة القائد العام للقوات المُسلَّحة على هذه اليافِطة شكلية، و هي تتبع رؤساء، رجال دين، و شخصيات أُخرى، صعب جدّاً حصرُ انتماءاتِها، العابِرة للفضاء العراقي.

اللجنة الأُممية، أشَّرت بشاعة استمرار عمل النظام السياسي، بعد 2003م، بالمادة (40) من قانون العقوبات العراقي. لا تُحمِّلُ هذه المادة، مسؤولية جنائية على الرؤساء؛ الذين قد يكونوا هم من أعطوا الأوامر لمرؤوسيهم، بارتكاب جريمة الاختفاء القسري، رغم إنَّ ذلك طُبِّق عند محاكمة رئيس النظام العراقي السابق و مسؤوليه الكِبار!

اللطيف المبكي، إنَّ الأُممية أفصحت، و في معظم ملاحظاتها و توصياتها، إنَّ المسؤولين الحكوميين و الميليشيات، كانت لهم حصَّة الأسد، من جرائم الاختفاء القسري في عراق ما بعد 2003! و هذا الأسد وجد في العراقيين العرب “السنة” منهم وجبةً شهية!

عقدة السيناريو: ليلى والذئب 

الإتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، دخلت حيَّز التنفيذ الأممي بتاريخ 23 ديسمبر 2010 – أرجو التفكير ملياً بما قبل هذا التاريخ وما بعده بفترة قصيرة من أحداث – تألَّفت من (45) خمسة وأربعين فقرة. النظام العراقي، صادق على الاتفاقية بتاريخ 12 ديسمبر 2010.

مصادقة النظام العراقي وفي عهد حكومة السيد المالكي، لم يكُن اعتباطياً. في سنة 2011 و بعد انسحاب القوات الأمريكية، بدأت تصفية القيادات العراقية “السنية”، ذات الرنين العالي. طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية الأسبق، كان أبرزهم. أيضاً لم يبدأ النظام العراقي بتقديم تقاريره، للجنة الأممية المعنية بالاختفاء القسري، إلَّا سنة 2014م، و كان من المفترض أن يُقدِّم تقريره الأول سنة 2012م.

 كُل التقارير التي صدرت من اللجنة الأُممية( ملاحظات ختامية، توصيات، مراجعات) بعد ذلك، بُنيت على تقرير 2014 و 2019 اللذين قدَّمها الجانب العراقي. لم يقبل النظام، طلب زيارة اللجنة (طالبت بالزيارة في نوفمبر 2015) للبلاد، إلَّا في 15 نوفمبر 2021، و قامت اللجنة بالزيارة بين 12-25 نوفمبر 2022.

قبول طلب اللجنة بزيارة البلاد، جاء بعد مرور سنتين من التنكيل بثورة تشرين؛ التي بدأت في أكتوبر 2019، و قامت اللجنة بالزيارة، بعد استلام محمد شياع السوداني، رئاسة الحكومة العراقية، المدعوم من “الإطار التنسيقي”؛ الذي تجيد أغلب مكوِّناته التغريد الإيراني. اللجنة بيَّنت بأنها لم تستطع الوصول، إلَّا إلى المناطق التي وفِّر لها الأمن عراقياً.

لم يكُن مفاجئاً أن تحتل الانتهاكات، التي قامت بها الحكومات العراقية السابقة، و الميلشيات التي دعمت حكومة السيد السوداني، فيما يخص ثورة تشرين 2019، سوى جزء صغير، يبدو مكتوباً على عُجالة؛ فالمنظمات العراقية التي تصِل إلى الأمم المتحدة، و التي تُعنى بشأن حقوق الإنسان في العراق، كثيرٌ منها مستقطب طائفياً، و ثورة تشرين لم تكُن نقيَّة طائفياً بما فيه الكفاية، بل عراقيَّة جدّاً!

 اللجنة اعترفت بأنَّ العراق يحتل المرتبة الأولى في الإجراءات العاجلة؛ التي تطلبها اللجنة، من أي بلدٍ منضم إلى الاتفاقية الدولية بخصوص الاختفاء القسري. العراق لم يُجِب إلَّا على 275 طلباً عاجلاً من مجموع 492.

الأُممية، مرَّت مرور الكرام أيضاً، على الانتهاكات التي تقوم بها حكومة كردستان العراق. لم تتطرق لا من بعيد ولا من قريب مثلاً إلى: اعتقالات الصحافيين، قتل الصحافيين، و تهجير العرب من المناطق المحيطة بكركوك، و محاولتها تكريد المناطق المختلف عليها إدارياً، و التي تُسميها الأدبيات العراقية الكردية، ذات الطابع السياسي بـ “المناطق المُتنازع عليها”.

حل السيناريو: أنت الخصم والحكم

 اعترف أعضاء اللجنة الأُممية، بأنهم لا يمتلِكون أي قوَّة لفرض أيَّة إجراءات على الحكومة العراقية، و أن كُل ما يستطيعون القيام به هو تقديم التوصيات، و تقديم التقارير إلى الأمم المتحدة. أمّا بالنسبة إلى نشر الثقافة حول كيفية مكافحة الاختفاء القسري؛ فقد رأى بعض أعضاء اللجنة، إنَّ هذه المسؤولية تقع على الجانب العراقي.. المثقفون، الصحافيون، منظمات المجتمع المدني المُختصَّة و غيرهم، بشكلٍ خاص.

ما لا تعلمهُ تلك اللجنة، إنَّ بعضاً ليس بالقليل من تلك الكيانات لا توجد إحصاءات دقيقة – التي تُعنى بهكذا مسائل، هم أقارب من الدرجة الأولى، لأفراد الطبقة السياسية التي تحكم البلاد.. أي أودع القطة شحما! كما إن بعضاً غيرهم – شخصيات و كيانات – يستخدمون الحديث عن جريمة الاختفاء القسري، لأغراض الوجاهة، و لتسمين أنفسهم قبل بيعها، إلى السُلطات الرسمية للفواعل اللاتاريخيين؛ الذين يحكمون البلاد الآن، و لبعض الدول الإقليمية و العالمية، و الحمد لله لا توجد دولة في العالم لا تمتلك بيادق عراقية!

اللجنة أقرَّت في تقريرها 2023م، بأن العراق ما زال يُماطل لحدِّ هذه اللحظة، في إدخال تعريف صريح لجريمة الاختفاء القسري، في تشريعاته. الأُممية، و كشفت في 2023، و حتّى في تقاريرها السابقة، فضيحة مدوَّية: إنَّ الكثير من بنود الاتفاقية الدولية بخصوص الاختفاء القسري، مُعطَّل تطبيقها في العراق، وأن الكثير من قوانينه لا تتماشى مع الاتفاقية.

باختصار، اللجنة الأممية، أرضت الجميع في تقاريرها: النظام السياسي، النظام الدولي، الطوائف لا الشعب العراقي. كُل هؤلاء سيجدون تبريراً لتبادل الكره بينهم، و نسيان النظام!

اللجنة الأُممية، انجزت الكثير رغم ما تقدم. مثلاً، أجبرت الحكومة العراقية على الاعتراف، بوجود أماكن احتجاز سرية في مناطق مثل مدينة “جرف الصخر”، و التي بيَّنت الحكومة العراقية إنّها لم تعُد كذلك! و المساهمة بتحفيز العراق، لتخصيص تعويضات لعوائل ضحايا الاختفاء القسري، بدءً من ميزانية 2021. مخصصات التعويض في ميزانية (2023، 2024، 2025)، يُجرى التقاتُل السياسي عليها الآن.

الأهم مما تقدم إنَّ اللجنة الأممية، نزعت ورقة التين عن القوانين العراقية: “خلقت نظاماً شديد التجزئة و التشتت مع تفويضات و إجراءات متداخلة ولا ينص أي من هذه القوانين أو التعليمات على تعريف للاختفاء القسري. وهنا نتحدث عن ثلاثين تشريعاً عراقياً من الدستور إلى القوانين والتعليمات، تعاطى مع مسألة الخطف و التعذيب والاحتجاز”.

أدانت أيضاً ما وصفته بـ “الصمت المعياري” للقوانين العراقية الذي: “يغذي الخلط بين المفاهيم وبالتالي يمنع التحديد الواضح لنطاق الجريمة و مسؤولية الدولة. و بذلك فإن العمل على مكافحة جريمة غير موجودة في الإطار القانوني الوطني هو في الواقع وهم”.

https://anbaaexpress.ma/suivu

مسار عبد المحسن راضي

كاتب صحافي وباحث عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى