الإلتفاف على التّطرّفات
تذكّرُنا مشاهد فيلم الإرهاب والكباب من بطولة عادل إمام وإخراج شريف عرفة والذي دارت أحداثه في مجمع التحرير، بدا وكأنّ أحمد(عادل إمام) سقط سهوا في سيناريو خطير، القصة بدأت من محاولة لنقل طفليه في المدرسة، سيدفعه قهر الروتين الإداري إلى أن يجد نفسه وقد حمل سلاحا ثم احتجز رهائن، ينظم إليه ناس كثير، يتفهمون مطالبه باعتبارها مطالب الجميع، أحمد ليس إرهابيا، يصلح هذا الفيلم من ناحية أخرى لتعزيز المقاربة الاجتماعية التي تشيطن الظروف الاجتماعية وليس الأشخاص باعتبارهم ضحايا اختيارات، يتفاوض ويطالبه وزير الداخلية بإطلاق الرهائن وإلاّ هاجم المبنى بمن فيه دون تمييز الإرهابيين عن الرهائن، يقبل أحمد بإطلاق الرهائن وهم بدورهم يطلبون منه الانضمام اليهم ليخرج معهم، دخلت القوات المحاصرة للمبنى فلم تجد أحدا من الإرهابيين، لا يوجد هناك أحمد الإرهابي، لقد اختفى داخل المارة.
لا شكّ أنّ العبرة واضحة تعكسها خلاصة المشهد، لكن ما أثارني حقّا هو تسلل أحمد الإرهابي -لنفترض أنّه كذلك – بين صفوف الجماهير، ما هي تبعات أن يصبح المتطرّف جزء من الجمهور والمارة، بل جزء من النّخب، بل ناشطا من داخل حقل المفاهيم التّقدّية. ما الفرق بين إرهابي متستّر بين النّاس وإرهابي متستّر بالمفاهيم؟
إنّ ما يبدو من ظواهر التّطرّفات هي بقيّة فاشلة أو مُمكّنة، وهي لا تشكّل سوى خطرا مباشرا محشورا في الزّاوية، لأنّ الأخطر من كل صور الإرهاب هنا هو الإلتفاف، والكمون. وسنحيل داخل هذه الفوضى والسّيلان على كل شيء وسنقارب الأشياء بذات المفاهيم، سنمارس السّيلان المفاهيمي ولكننا سنحتفل بباومان وكأنّه لا يعنينا -أكثر محتفل بباومان هم السلفية الذين يمارسون الإلتفاف على الحداثة وهم الأكثر استفادة منها في مشاريعهم النيوليبرالية، تعلموا من سوروس كيف تهجو الرأسمالية وتضارب في بورصاتها – وسنقرأ نظام التفاهة لآلان دونو وكأنّنا لسنا طرفا في التّفاهة، لا شيئ ممتنع، كل شيء مستباح لتدليس التّطرّفات، لا تستطيع أن تستقلّ بمفهوم دون أن تمتدّ إليه يد التّطرّفات، التدليس المُعاصر للسلفيات البراغماتية تستعمل المفاهيم بانتهازية لذا هي وحدها من يستفيد من عدم استقرار حقل الدّلالة وهي وحدها من يستفيد من الفوضى، ثمة ظواهر أخرى على طريق مُغالطة الذّات وسوف أحصرها في ثلاثة أمثلة:
– إلتفاف يتوسّل طريقة تهريب المفاهيم: خطاب النهضة والحضارة والحداثة والتسامح الخ
-التفاف يتوسّل خطاب التبشير المراجعاتي.
– إلتفاف يتوسّل لعبة التموضع المقارباتي وانتحال صفة قارئ ظاهرة.
1 – تهريب المفاهيم: خطاب المشروع الحضاري والحداثة نموذجا
تماما كما توارى عادل الإمام بين الجمهور هاربا بقضيته، هناك تكرار للمشهد في تجارب التطرفات، حيث أصبحنا أمام عملية تهريب كبرى للمفاهيم وتزاحم في استعمالها إلى حدّ بات من الصعوبة بمكان التمييز بين الحقول الدلالية التي اختفى داخلها التّطرّف نفسه ولتصبح تلك أدوات تدليس أكثر مما هي أدوات تحليل. يتوسّل المتطرّف في حالة هروب بالمفاهيم التّقدّمية.
وقد نضيف إلى هذا النوع من التهريب ما سبق وأشرنا إليه حول واقع الفوضى الذي يشهده حقل المفاهيم بسبب التمسرح المقارباتي القائم على تمثّلات “سكوليرية” لم تبلغ مراتب سكولاستيكية بله العبر-سكولاستيكية، الشيء الذي سهّل عملية تهريب المفاهيم وسيلانها. ولقد أكّدنا بأنّ ظاهرة التمثيل بدل التّمثّل طغت على معاقرة المفاهيم، وكنّا قد نادينا بمواجهة تحدّي هذا التمثيل السيلاني للمفاهيم باقتراح ما أسميناه بـ”concept jetable”، أي أننا مطالبون عند تحليل أي ظاهرة أن يتحمّل المُفكّر مسؤوليته الكاملة ويضع بين يدي البحث شرحا وافيا لأدواته ومفاهيمه وما أن ينهي البحث يرمي بها لتكون ككل المستهلكات فاقدة للجودة والاستعمال مرة أخرى، بتعبير آخر: لا نستحم في نهر المفهوم إلاّ مرة واحدة، فإذا كنت مفكّرا حقيقيا فعليك أن تصنع أو تعيد تصنيع مفاهيمك باستمرار، بهذه الطريقة فقط نستطيع إنجاز مقاربات جادة ونضع جهازا يؤشّر ويفرز المتسللين داخل الحقل المفاهيمي المشترك.
موضوع شيق ..تحية سيدي عبدالحي على هذا المولود الإعلامي المحترم وانا من المتابعين لكم منذ فترة .. انتم في الطريق الصحيح مواضيع الجريدة تدل على رقي طاقم اكسبريس
أخوكم من العراق ..عبدالله السامرائي