حاورها أبو سرين
تعد الكاتبة الفلسطينية هناء عبيد مبدعة في تناولها للقضايا الكبرى كقاصة وروائية حيث استطاعت أن تنقل القارئ إلى عالمها كمهاجرة مقيمة بالولايات المتحدة الأمريكية و استطاعت أن تنخرط ببراعة في أجواء الجاليات التي تضمها مدينة شيكاكو فرسمت لنفسها عالما ممزوج بتعدد الثقافات الشئ الذي جعل من ضيفتنا في هذا الحوار شخصية متميزة تشعرنا بقوة عطائها الفكري والإبداعي كما هو مبين في ها اللقاء الذي أتشرف بإجرائه مع كاتبة ومبدعة من طينة هناء عبيد التي تقتحم مجال الكتابة باقتدار كبير وصفاء ذهني ونقاء فكري وأنا أحمل إليها بكل شغف هذه الأسئلة:
الأستاذة هناء أنتم مهاجرة فلسطينية تقيمون بالولايات المتحدة الأمريكية كيف تعيشون الهجرة في كتاباتكم؟
الكتابة مرآة الروح، لا بد أنها تعكس أرواحنا وظروفنا المعاشة، والهجرة هي إحدى العتبات المهمة في بوح الكاتب المهاجر، لهذا كان لها النصيب الأكبر في كتاباتي، فمثلًا روايتي “هناك في شيكاغو” تتحدث بالتفصيل عن دور الهجرة في مسيرة حياتي ومدى تأثيرها النفسي عليّ، فنسيرين بطلة الرواية الّتي هجّرت عائلتها من القدس قسرًا، تجد نفسها في مدينة شيكاغو، وحيدة بعيدًا عن أهلها وأرضها وعاداتها وتقاليدها، وهذا هو حال كل مهاجر، لكنها ربما كانت أكثر حظًّا من غيرها، فقد وجدت عمها هناك وزوجة عمها الذي كان لهما الأثر في تخفيف وطأة الهجرة والغربة عليها في بلد يختلف في الثقافة والعادات والتقاليد، كما وأن الهجرة تتيح للشخص أن يتعرف على أراضي الله الواسعة ليدرك فيما بعد أن الأرض تفتح ذراعيها لكل مجتهد وأن كل بقعة في الأرض ترحب بالإنسان إذا ما وجد الخير فيها. كذلك الهجرة تمكن الكاتب من رسم جمال المدن عن قرب، وهذا ما قمت به في العديد من كتاباتي، فقد وصفت مدينة شيكاغو وسلطت الضوء على جمالها وعظمة التعرف على ثقافة الآخرين.
وقد تناولت في قصصي القصيرة أيضا الحنين إلى الوطن، والشوق إلى الأهل والأرض.
وبهذا تكون الهجرة قد فتحت آفاقا كبيرة للقلم، حيث الحنين والشوق إلى الوطن والأهل والأحبة، ثم مدى تفاعلنا كأبناء الشرق الأوسط مع الجاليات المختلفة وثقافاتها المتنوعة، وكنقل صورتنا وكيف يراها الغرب، كما أتاحت للقلم الخوض في مجالات متعددة من خلال التعرف عن قرب على الآراء المسبقة عن بلادنا وشعوبنا، أيضا كان للهجرة دورها في الكتابة عن أدب الرحلات حيث استطاع القلم أن يرسم المدن بجمالها وألوانها عن قرب، وأتاحت الهجرة لنا التقرب من الآخر وعرض وجهات نظرنا وتعريفه على الشرق بما لم يعرفه من قبل.
لاشك أنكم متشبعون بوعي سياسي تقاربون به القضية
الفلسطينية. هل هذا يبدو واضحا في إبداعاتكم الأدبية؟
البعد عن الوطن قسرًا يخلق في أرواحنا جينات تحمل ذراته بين ثناياها، فإن شئنا أو أبينا سنجد أن القلم يوغل في قضيتنا الأم دون وعي، فتكون كتاباتنا مشبعة بأزماته، وأزعم بأن معظم أعمالي الأدبية تتحدث عن القضية الفلسطينية الأم، وكيف لا يكون ذلك وكل ذرة تحيط بي تذكرني بأرض الأجداد، فمثلا روايتي هناك في شيكاغو تتحدث عن القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى، وعن مدى الصعوبات التي يواجهها الفلسطيني المشرد من أرضه، كذلك مقالاتي؛ فمعظمها تتحدث عن المدن التي التصقت بنا منذ طفولتنا وذكرياتنا فيها ولعل أبرز هذه المقالات مقالتي المعنونة برحلة إلى القدس والتي جاءت في ثلاثة أجزاء، حيث تحدثت في الجزء الأول منها والمعنون بمعاناة عند جسر العبور عن الصعوبات التي يواجهها الفلسطيني حينما ينوي زيارة وطنه الأم الذي يحمل جذور أجداده، وكيف عليه أن يحصل على تصريح من الاحتلال ليسمح له بعبور وطنه الذي هجر عنه قسرًا، ويتعرض الى المضايقات المتعددة عند الجسر حيث المعاملة المهينة والتفتيش المزعج من قبل الاحتلال، وهكذا تستمر أجزاء المقالة في عرض التصاقنا بقضيتنا التي لن نتخلى عنها مهما طال الزمن.
كذلك مجموعتي القصصية تحمل في ثناياها الحنين والشوق للأرض، والتحديات التي يواجهها الفلسطيني سواء داخل الوطن أو خارجه، حتّى روايتي منارة الموت، التي لم تتطرق إلى القضية الفلسطينية بشكل مباشر، طرحت من خلالها قضية المعاناة والتصحر الّذَين يلمان بالنفس حينما تسرق الأرض من أهلها وأصحابها الأصليين.
أنتم كقاصة وروائية تلامسون العديد من القضايا ماهي أولوياتكم الفكرية التي تصوغونها في أعمالكم ؟
بداية تكمن أهمية القص والسرد في تسليط الضوء على كل ما يمس الإنسان من قضايا هامة وما يلامس نفسيته وأحاسيسه ومشاعره، وأي إنسان في أي بقعة على الأرض يشترك في هذه القضايا، قد تتغير قليلاً لكنها تصب في جوهر واحد، ونظرًا لأن القدر حتم علي الهجرة، كان من البديهي أن أطلع على تجارب أوسع، خاصة أنني عشت في شيكاغو التي تعتبر نموذجًا مصغرًا لهذه الأرض، حيث الثقافات المتعددة والجاليات المختلفة التي تبلغ أكثر من 180 جالية. وقد كان لهذا التنوع أثره في توسيع دائرة الضوء للتسليط على قضايا كثيرة منها مثلًا الاختلافات في الجنسية والتعددية والثقافية التي يكمن فيها جمال العيش ومتعته والنجاح المنفرد، وهذا ما لا نجده في بلادنا العربية الذي كان الاختلاف فيها سببا للخلافات والمطاحنات والحروب ونشر الفساد والفتنة، فمدينة مثل شيكاغو تبين أن الاختلاف حينما يوجه في الطريق الصحيح يمكن أن يخلق لوحات رائعة الجمال ونجاحات مختلفة منقطعة النظير، وربما هذا هو أحد أسباب اختيار مدينة شيكاغو كأفضل بلدان العالم فهي تتميز بتضامن أفراد سكانها، هذه القضايا المهمة يمكن أن تكون في أولويات الافكار المطروحة.
أيضا كوني قد عشت في أمريكا البلد التي تعتبر لها دورها الكبير في صنع السياسة العالمية والأنظمة التي تتحكم في كل قضايا البشريّة، وسع أيضا من بقعة الضوء المسلطة على أحداث كثيرة جعلت منها مادة يمكن أن ندخلها في أوليات تفكيرنا،إضافة طبعا إلى القضية الفلسطينية التي تأتي في مقدمة هذه الأوليات، كذلك الهجرة وتداعياتها.
إن وجودكم في مجتمع أمريكي قد أكسبكم ثقافة جديدةهل بالإمكان ملاحظة ذلك في كتاباتكم ؟
كما أشرت سابقًا، إن الكتابة هي مرآة واقعنا، إذن بكل تأكيد لا بد أن تتأثر بالمكان والمحيط الذي نعيشه والمجتمع الّذي نتشارك معه العيش، وكما أسلفت المجتمع الأمريكي ذو ثقافات متعددة إذ تجد فيه كل جنسيات العالم، مما يطفي لونا مميزًا للقلم، ويضيف له ألوان متعددة، وهذا ما يمكن ملاحظته في أعمالي التي سلطت الضوء من خلالها على قضايا متعددة لها ارتباطها بالمجتمع الأمريكي وثقافاته المتعددة، فمن خلال هذه الكتابة عرفت على الشعب الأمريكي وعلى وتيرة العلاقات وسير الأعمال فيه، كما سلطت الضوء على مكامن الجمال في هذا المجتمع، وكيفية تأثر الجاليات ببعض الأحداث السياسية الطارئة على الساحة والتي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر حادثة 11 سبتمبر، التي اتضح من خلالها كيفية سلوك الجاليات المختلفة تجاه نفس الحدث والتي بلا شك له علاقة بثقافتها التي تشربتها من الإعلام في أمريكا أو في بلدها الأم.
أنتم كروائية لابد أنكم تركزون أحيانا على التفاصيل الدقيقة ألا يدفعكم ذلك مستقبلا إلى خوض غمار كتابة السيناريوهات للتلفزيون والسينما ؟
أرى روايتي منارة الموت وكأنها عمل درامي، وقد أشار إلى ذلك بعض القراء الأكارم الذين كانوا يتنقلون مع الأشخاص من مشهد إلى آخر ويشاركونهم في كل تفاصيل حياتهم بل ويتعرفون على كل شخصية بحذافيرها، لكن يبقى للعمل الدرامي دراساته الخاصة التي تتطلب إتقان هذا الفن، وقد يكون لي في المستقبل إن ساعدني الوقت أن أدرس فن الدراما لأحول بعض أعمالي وأعمال روائية أخرى إلى أعمال درامية، مع استبعادي للأمر على المدى القصير، أو قد أتواصل لاحقًا مع بعض من يقدمون هذا اللون من الفن.
إن أغلب الأدباء الفلسطينيين يحظون بتقدير كبير من القارئ المغربي ألا تفكرون في نشر أعمالكم في المملكة المغربية ؟
الشعب المغربي الشقيق شعب نكن له كل الاحترام، ومن دواعي سروري أن تصل أعمالنا إلى هذا الشعب العريق، وكما تعلم نحن مقيدون بدور النشر التي تقرر إلى أي البلاد سيتم عرض أعمالنا، وقد تم مشاركة روايتاي “هناك في شيكاغو و”منارة الموت” في المعارض المغربية، لكن لم أتعامل مع دار مغربية للنشر بعد، أتمنى أن يكون لي تجربتي في ذلك في أقرب وقت إن شاء الله وأن يكون لي أيضًا مشاركات في مهرجانات أدبيّة فيها.
ارتبط المغاربة وجدانيا عاطفيا نضاليا بالأرض الفلسطينية ويتجسد ذلك في وجود حي المغاربة بالقدس ألا يشكل ذلك حافزا لعمل أدبي يميط اللثام إبداعيا عن هذه العلاقة ؟
الارتباط الوجداني والعاطفي بين شعوب أمتنا من أجمل الروابط التي يمكن أن تتناولها الأعمال الأدبية فهي روابط إنسانية بالدرجة الأولى، ولا يخفى على أحد دور المغاربة في نصرة القضية الفلسطينية منذ نشأة أزمتها، حيث موقفهم المناصر لأهل فلسطين ضد المحتل وقد ظهر ذلك جليًّا عند انخراط مجموعة من المغاربة في الجيش الذي شارك في حرب الاحتلال عام 1948، والذي تخضبت الأرض بدماء بعض أبطاله بعد أن ارتقت أرواحهم إلى بارئها شهداء بإذن الله.
وقد سكن المغاربة في القدس منذ زمن طويل فكان لهم التكريم بإطلاق “حي المغاربة” على أحد الأحياء الملاصقة للحرم الشريف في بيت المقدس. فالعلاقة علاقة أرض وكرامة وحب. هذه العلاقة الوطيدة للمغاربة مع أهل فلسطين تحتم أن يكون لها مكانتها الكبيرة في أعمال إبداعية متعددة تكشف عن ثرائها ودفئها، وإن شاء الله ستكون هناك أعمال أدبية تبرز هذا الجانب القيّم.