بقلم: أحمد القاسمي
المجتمع الأمريكي مخلوط، اِمتزجت فيه عناصر عرقية شتى، واتخذ ماهية ذلك الذي تستخلصه المختبرات الكيماوية، أو حجر مشحوذ ومصقول؛ اِتخذ شكلا متناسق الوجوه، وتُرك صانع التماثيل يُشكل الصخر على سجيته؛ دون أن يقتحم عليه أحد محراب إبداعه؛ فقد انصهرت في تلك القارة الجديدة ذهنيات صدرت بموروثات متنوعة عن حضارات العالم القديم؛ التي يحكمها المحرم والمحظور، وصوفية الشرق المتوسط، والشرق الأدنى الدينية.
فما الذي أنتجه ذلك المخلوط، أو تلك الصُّهارة، أو ذلك الشكل المشحوذ؟
لقد تفتق عقل الأمريكان؛ عن أفكار كانت حُلما يراود شعوب العالم القديم منذ الأزل، وأثمرت ما خرج إلى حيز التنفيذ.
أليست (نوتيلوس؛ Nautilus)؛ غواصة الجليد؛ إحدى إنجازات عبقرية الإنسان الأمريكي؛ تكون قد ضاهت نزول الإنسان على سطح القمر، ووطآت خطواته الأولى، التي خلفها قالب حذائه المدرّع في أتربة كوكب القمر، وقد تعقبها خطوات أخرى وهذه المرة بأمان مخطط له؟
لماذا أعطاها القلم الذي حاول أن يُدبّج هذه النادرة إسم (غواصة الجليد)، ومتى بُني هيكلها وأين، وما هو وقود محركاتها الذي ميزها عن باقي الغواصات الأخرى، والذي كان ثورة في طاقات دفع المحركات، وفي أي مياه من بحار العالم غاصت، وفي غطسها رحلة؛ فكم دامت، وما هو خط إبحارها في الأعماق ولأي غرض؟
حدث ذلك في سنة 1958م؛ أي منذ ذلك التاريخ وإلى حين كتابة هذا النص أكثر من ستين سنة؛ أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بثلاثة عشرة سنة؛ أي بعد أكثر من عقد من الزمن، وكثيرا ما نبهنا المؤرخون إلى أن فترة العشر السنوات تستحق قراءة كرونولوجية لأحداث تقع، وأن تطورا يحدث؛ فلم يُنتهى من توظيف التكنولوجية النووية من طرف الولايات المتحدة؛ بتركيب القنبلة الذرية، وتفجيرها على رؤوس اليابانيين؛ بل تكون قد دشنت بها بداية عصر؛ تلهث فيه الدول التي لها من الإمكانيات؛ ما يُؤهلها إلى امتلاك هذه التكنولوجية القاهرة والرادعة، وتسخيرها في ميادين عدة، ونذكر على سبيل المثال أن فرنسا لم تلحق، وبعد خطوات حثيثة بذلك العصر إلا في ستينيات القرن العشرين، عندما فجرت قنبلتها الأولى بالصحراء الكبرى؛ على بعد 1000 كلم من مدينة الدارالبيضاء، و1200 من مدينة الجزائر. فلم يتأخر كل من السوفيات البلاشفة والأمريكيون في استعمال الطاقة النووية كوقود لمحركات الغواصات.
لماذا وكيف؟
وقبل الإجابة على هذين السؤالين؛ لابأس من أن نستحضر صورة ؛كثيرا ما تناقلتها وسائل الإعلام؛ تُظهر فيها غواصات نووية موروثة عن العهد السوفياتي؛ رابضة بفوضوية وبإهمال بإحدى موانئ بحر البلطيق؛ كأنها سرب منهك من الحيتان ذوات الظهور المحدبة؛ قدم عائما من بعيد، ثم الحدث الآخر المأساوي وهو غرق إحدى الغواصات النووية، واسمها كورسك (Kursk) في مياه بحر بارينتس (Barents)؛ في المحيط الأركتيكي والواقع في شمال (النورفيج) وغرب روسيا؛ في الثاني عشر من شهر غشت سنة 2000م، وعلى متنها مائة وثمانية عشر بحارا روسيا، وقد رأينا كيف وقف الثّكالى والأرامل يبكين بوجوه بائسة؛ عليها آثار أزمة نهاية العهد السوفياتي.
فالدافع إلى ابتكار الغواصات الذرية، هو ذلك العيب التقني الذي اتسمت به الغواصات التقليدية، وحَدَّ من أدائها، وأنهى زمن صناعتها؛ وهو أنها كانت تعتمد في غوصها على محركات كهربائية؛ تُشغّل ببطاريات مشحونة، وحين تُستهلك طاقتها بالكامل؛ فإن الغواصة تطفو لتُشغل محركات الدّيزل؛ التي تُعبِّئ البطاريات من جديد، وهكذا من حين لآخر، وطاقم الغواصة وهو في إحدى المهمات السرية؛ لا يريد أن يظهر على سطح الماء من وقت لآخر، فتلتقطه أقمار التجسس، وقد تطور أداء الصواريخ العابرة للقارات المصيبة للهدف بدقة متناهية.
فكان الحل في الطاقة النووية، وذلك بتخصيص إحدى حجرات الغواصة لمفاعل نووي يمد الغواصة بالطاقة، وتُبحر في الأعماق دون حاجة إلى مولد آخر ميكانيكي للوقود الكهربائي، فهذا إذن ما دفع الأمريكيين إلى أن يبتكروا أول غواصة نووية من هذا النوع أسموها نوتيلوس (Nautilus).
وللقيام بأول رحلة يُمتحن فيها أداء الغواصة، فإنهم لم يكتفوا بالغطس بها في مياه اِرتادوها سابقا، وأصبحت مألوفة لديهم؛ بل رسموا مسار رحلتها في عمق المياه؛ في الدائرة القطبية للكرة الأرضية؛ أي الإبحار بها تحت القشرة الجليدية، فلا ثُقب بها تحاول الغواصة الإفلات منه إذا طرأ حادث، فكانت بحق أشبه برحلة في قناة مائية تحت الأرض؛ تمتد على مسافة مئات الكيلومترات؛ لا منفذ لها إلا ذلك الذي يُنهي تلك الرحلة.
أيستطيع أحد أن يتكهن بنتائج رحلة غواصة (نوتيلوس)؟ أستُكلل بالنجاح أم تفشل؟ لا أحد إذن يقطع على نفسه جوابا على أحد السؤالين؛ إذن فذلك من علم الغيب، ولذلك فالسرية خير ما يُلجأ إليه في مثل هذه المهمات؛ فأُحيطت الرحلة به، ولم يكن يعلم من طاقمها ذو المائة وستة عشر بحارا إلا قائد الغواصة وليام. ر. أندرسون (William. R. Anderson; 1921-2007)، ولم يُبلِغ الآخرين بالهدف الذي من أجلها تُبحر الغواصة؛ إلا بعد أن غادرت خليج بوجيت ساوند ( Puget Sond)، وهو امتداد لمياه الشمال الشرقي للمحيط الهادئ داخل غرب قارة أمريكا الشمالية. إن ما حفّز الأمريكيين على صنع غواصة نوتيلوس هو ذلك النجاح الذي لقيه مخطط تطوير استعمال الطاقة النووية في الدفع؛ والذي أُنجز من طرف علماء ومهندسين بفرْع المفاعلات البحرية التابع للجنة الطاقة الذرية؛ بقيادة أب طاقة الدفع النووية الكابتان هيمان. ج. ريكوفر (Hyman George Rickover, 1900-1986)، وبالطبع وفي يونيو من عام 1951م؛ سمح مجلس الشيوخ الأمريكي ببناء أول غواصة نووية، وفي الثاني عشر من شهر دجنبر من نفس السنة؛ أعلن قطاع البحرية على أن الغواصة السادسة في البحرية الأمريكية ستحمل إسم (نوتيلوس)، وتم الشروع وفي عهد الرئيس هاري. س. ترومان (Harry.s.Truman)؛ في بناءها بمدينة كروتون (Groton)؛ بولاية كونيكتيكوت Connecticut؛ في 14 يونيو 1952م.
وبعد ثمانية عشرة شهرا، وفي يناير 1954م؛ والغواصة شامخة بكامل تجهيزاتها؛ تتمدد على بطنها على دعامات منصة الإطلاق؛ بطول ثمانية وتسعين مترا، وبعرض ثمانية أمتار وخمسة سنتمترات، وبوزن أربعة آلاف وخمسمائة طن؛ إذ تقدمت زوجة الرئيس الأمريكي السيدة (مامي إيزنهاور)، كما كان يناديها الأمريكيون تدلّلا، وقبضت بيديها على قارورة الشمبانيا؛ ثم كسرتها إلى شظايا على جانب الغواصة المعدني – كتقليد مُتبع في دول الغرب- والذي اِنساب عليه بعض سائل الجِعة؛ والذي أسال لعاب الآلاف من الأمريكيين؛ الذين وقفوا ينظرون بفرح وبسعادة إلى ما أنجزوه؛ ثم حرروا الغواصة من حبال الشدّ؛ فضربت بمقدمتها المكعبة في مياه مرسى نيولندن (Newlondon) على ساحل المحيط الأطلنتي؛ إلى الشمال الغربي من مدينة نيويورك؛ لتتقدم بعد ذلك في نهر التايمز (Thames River).
ويجدر بنا أن نذكر أنه في 20 يناير من سنة 1955م؛ تكون قد غطست هذه الغواصة في عمق البحر من المسافات ستين ألف ميل بحري؛ مُحققة ما تخيله علميا الكاتب الفرنسي جول فيرن (Jule Verne) من عشرين الألف فرسخا؛ التي قطعتها غواصة روايته نوتيلوس التي تحمل عنوان (عشرون ألف فرسخا تحت الماء، Vingt mille lieues sous les mers)، فكان ما أنجزته الغواصة الأمريكية هو الداعي إلى إعطائها نفس الاسم؛ وتقديرا أيضا لذلك الكاتب الفرنسي، الذي كان أول من ألف في أدب الخيال العلمي.
ولن نشعر أو نحس بمدى جسامة المهمة التي أٌنيطت بها غواصة نوتيلوس، والتهيُّب من المغامرة التي إذا ما نتجت عنها كارثة؛ فهي تضحية من أجل الوطن – وكثيرا ما ذاق الأمريكيون الويلات في اندفاعاتهم إلى مثل هذه التجربة- إلا إذا رافقنا الغواصة في رحلتها في أعماق مياه القطب الشمالي؛ تحت قشرة الجليد الصلبة التي يتراوح سمكها ما بين ثلاثة وخمسة عشر مترا..
غادرت نوتيلوس الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية، ولا يحسب أفراد طاقمها البالغ عددهم مائة وستة عشر رجلا؛ إلا أنهم في إحدى الخرجات البحرية الروتينية، وبعد أن اجتازت قناة بناما بوسط القارة الأمريكية؛ اِتجهت إلى ميناء بيرل (Pearl Harbor) بجزر هاواي، ومن هناك وفي يوليوز 1958م أبحرت مرة أخرى الغواصة صوب مدينة سياتل الأمريكية (Seatl)؛ الواقعة ما بين خليج بوجيت سوند (Puget Sound)، وبحيرة واشنطون على الساحل الغربي لأمريكا، وربضت بهذا المكان بعض الوقت؛ ففي الحادية عشرة وأربعة عشر دقائق في صباح يوم 3 غشت 1958م نادى قائد الغواصة الضابط البحري وليام. ر. أندرسون William .R.Anderson في بحارته قائلا: »من أجل العالم والوطن والبحرية…الشمال القطبي«؛ إذاك علم أفراد الطاقم ما هم مُطالبون به، والوجهة التي يمضون إليها، فانكفأوا يجُسون نبضات الآلات الميكانيكية والإلكترونية؛ بثقة أن الهواء الذي يُعاد تعبئته بواسطة جهاز خاص داخل الحجرات الفولاذية سيجعلهم يتحملون، وهم يعلمون أنه ما تزال في طريقهم محطة أخرى أُستنفد لها صبرهم؛ وهي رأس ليسبورن Lisburne))؛ في الشمال الغربي لشبه جزيرة ليسبورن؛ على شاطئ ساحل بحر شوكشي (Chukchi) بألاسكا، بعد أن اجتازته بهم الغواصة؛ ولا ندري هل وقفت به لكبت رعشات الخوف التي دبت إلى قلوبهم أم لا؛ غاصت في غياهب بحر القطب الشمالي؛ لا ينفعهم في تحديد الموقع والاتجاه إلا أجهزة الملاحة الأوتوماتيكية التي كانت من طراز آخر ما ابتكر إلى حدود ذلك التاريخ.
وقد أعاقت رحلة نوتيلوس الباطنية في أول المراحل جبال الجليد.
ولايزال القائد يراوغ هذه التضاريس الجليدية الخطرة حتى وصل إلى واد يسمى (بارو)، ولم يكن الإنطلاق في هذه الرحلة بمخاطرة عمياء؛ فلها وقت مخطط لها؛ ليُتابع خط الرحلة في عمق مياه القطب الشمالي، وفي صباح يوم 5 غشت 1958م تطفو الغواصة في بحر كَرينلاند (Greenland)؛ إلى الشمال الغربي من جزيرة انجلترا؛ لتهتز أغشية جهاز الصوت الحساسة مُعلنة الكلمات التالية:» نوتيلوس؛ تسعون درجة إلى الشمال« ؛ أي ما معناه أن من شاهد قبل يومين الغواصة نوتيلوس وهي في بحر شوكشي بألاسكا؛ فإنها الآن في مياه بحر كرينلاند؛ عند خط عرض تسعين درجة؛ الذي يرسم الدائرة القطبية، وبهذا تكون الغواصة النووية الأمريكية قد أنجزت ما لم يكن قد أنجز في تاريخ الغطس البحري.
فما المآل الأخير لهذه الغواصة؛ التي تلمست دفء جلدها الفولاذي في مقاومة برودة مياه ذات أدنى درجة حرارة تسجل على الكوكب الأزرق ؟
لقد أنهى الأمريكيون أمرها في 3 مارس من سنة 1980م؛ بعد أن أدت من سنوات الخدمة خمسة وعشرين سنة، وأُعلنت إرثا تاريخيا في 20 ماي من عام 1982م، وفي 6 يوليوز 1985م تم قَطْرها إلى مدينة مهدها كروتون بولاية كونيكتيكوت، ورُكّنت في إحدى جوانب قاعدة نيولندن البحرية متحفا عائما؛ يجذب أكثر من مائتي وخمسين ألف من الزوار سنويا.
وما أريد أن أنتهي إليه كذلك؛ هو في صيغة سؤال كثيرا ما يُؤرقني هو: لماذا يُنجز الغرب تكنولوجية المستقبل، ويتقدم في ذلك حثيثا؛ وماذا يُقعدنا نحن شعوب بلدان الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط؛ عن التهيؤ لمثل تلك الابتكارات؟
فما زالت إذن أرضنا كما كانت منذ ستة قرون قاعا صفصفا؟