الأرض مسطحة وليست كروية، نزول الإنسان على سطح القمر كذبة كبرى، الغرب يُسيطر علينا، الغرب يتآمر على الإسلام ويخاف منه، الماسونية تحكمنا جميعًا، أحداث الحادي عشر من سبتمبر دبرتها CIN، داعش مؤامرة لتشويه الإسلام، إنقلاب تركيا خططه ونفذه أردوغان ضد نفسه، ثورات الريع العربي مخطط لها من قبل أمريكا، كورونا فيروس صناعي وهو مؤامرة كبرى للقضاء على ثلث أو نصف سكان الكرة الأرضية، والطوفان الكبير الذي ضرب باكستان ناجمًا عن تقنية عسكرية أمريكية سرية، وزلزال تركيا وسوريا سببه أمريكا و …
يُقال إنَّ كل ما يحدث على سطح الكرة الأرضية من أحداث جسام هو مؤامرة كبرى، يؤمن بذلك 30% من سكان أمريكا، حسب آخر الإحصائيات، أما الشعوب العربية فهي تؤمن بذلك إلا أفراد قليلة مما رحم ربي، فهذه النظرية تُدرس في المدارس والكليات والجامعات على أنها حقيقة ومسلمة من المسلمات، وتروج لها وسائل الإعلام ووسائل التواصل المختلفة، ويبقى السؤال الذي لأجله جاء المقال هل فعلًا هناك مؤامرة؟
أولًا: ما هي نظرية المؤامرة؟ هي الاقتناع الكامل بأن هناك مجموعة من الأشخاص أو جهة فاعلة ذات قوة ونفوذ كبيرين؛ تجتمع في اتفاق سري؛ لأجل تحقيق هدف خبيث يتعلق بأهل الأرض جميعًا.
ثانيًا: مبادئ المؤامرة: ظهر مصطلح المؤامرة لأول مرة في مقالة اقتصادية عام 1920م، ولكن جرى تداوله في عام 1960م، وتمت إضافته إلى قاموس أكسفورد عام 1997م، أي أنه مصطلح حديث جدًا، ويقوم على أربعة مبادئ: كل شيء مُدبر ومدروس، هناك مجموعة تُدبر وتُخطط بشكل خفي وفقًا لمصالحها، لا شيء يحدث مصادفة أو بشكل تلقائي، كل ما يظهر للعيان غير حقيقي فكل شيء مُفبرك؛ فالأحداث تُصنع صناعة.
ثالثًا: هل هذا صحيح؟ ينقسم الناس في هذه النظرية إلى ثلاثة أقسام: قسم مؤمن بها حتى درجة اليقين، ومتأكد أن كل ما يحدث على هذه الأرض مخطط ومُدبر له، ولا يمكن أن يكون صدفة أو عبث، وقسم مُنكر لها حتى درجة الرفض والاستهزاء والسخرية بمن يؤمن بها، وقسم معتدل، ما بين وبين، لا يقول بعدمها ولا يؤكد وجودها، وكل من هؤلاء يسوق أدلته التي تُثبت وجهة نظره من النصوص الدينية تارة، ومن الأحداث والوقائع تارة أخرى، ومن تصريحات كبار المسؤولين والقادة والعسكريين والاقتصاديين وغيرهم.
وللجواب على هذا السؤال نقول: تنتشر نظرية المؤامرة في كافة المجتمعات، ولكنها رائجة جدًا في المجتمعات التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، وتبقى المجتمعات العربية بمثابة السوق الأكثر رواجًا واستهلاكًا لها، لدرجة الهوس، بحيث تُفسر كل صغيرة أو كبيرة بأنها مؤامرة، مما أدى ذلك إلى تعطيل العقل والتحليل المنطقي والعلمي، ورفض أي قدرة أو محاولة للتغيير.
إذًا لا مؤامرة؟ طبعًا لا .. ولكن لنعود إلى بداية الخلق، فمنذ أن خلق الله آدم وإبليس يكيد له؛ فكان سببٌ في إخراجه من الجنة، والحسد والغيرة كانا سببين رئيسين في قتل قابيل لهابيل، ومنذ ذلك اليوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هناك خير وشر، هناك حق وباطل يتصارعان، وتلك سنة الله في خلقه، لحكمة نعلمها أو نجهلها، وبالنظر إلى واقعنا على مستوى الأفراد فهناك من يحبك ومن يكرهك، وهناك أيضًا عدو لك تعلمه أو تجهله، فربما هي نفسك التي بين جنيك، وربما هم أقرب الناس إليك، أبيك أو أمك أو إخوتك أو أقاربك أو أصدقائك، أو زملاء الدراسة أو العمل، أو … ويُنجيك الله من كل حسدهم ومكرهم بك بِ: أخلاقك وحُسن تربيتك، مخافتك من الله وتقواك له، وانشغالك بنفسك لتحقيق أهدافك وطموحاتك، وتحقيق ذاتك دون الالتفات إليهم، فتسمو وتكبر أنت، وهم في نار غيرتهم وغيظهم ومكرهم يتحرَّقون، ليقينك الكامل أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وأنه ما كان ليصيبك ما كان ليُخطئك، وأن قدر الله نافذٌ لا محالة، فتسير في دنياك هادئًا راضيًا مطمئنًا واثقًا بعناية الله ولطفه بك. وكذلك قس على المجتمعات، فالمجتمع ما هو إلا مجموعة من الأفراد تجمعهم عادات وثقافات وقيم وعلاقات و…
فالمجتمعات القوية تبني وتعتمد على نفسها وتنشغل بذاتها، لا تفكر إلا بمصالحها وتحقيق نجاحها، وأن تكون دومًا في مصاف الدول القوية التي لا تسمح أن تُنتهك حقوقها أو سيادتها، أو يُهان مواطنوها؛ فتُشرع القوانين التي تحمي مؤسساتها من أي فساد، وأفرادها من أي أذى، فتنشر العدل والمساواة بين مواطنيها فترقى وترتقي؛ فالعدل أساس الملك، أما المجتمعات والدول الضعيفة والهشة؛ فهي غارقة في مستنقع الفساد، يأكل القوي فيها الضعيف، تُنهب خيراتها من قِبلِ ثلة من الفاسدين والمرتشين والخونة، تغرق في بحر من الدماء، والفتن الطائفية والمذهبية، والحروب الأهلية، كما هو الحال اليوم في بلادنا العربية.
فتنظر لنا الأمم القوية على أننا أممٌ جاهلة متخلفة لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها، ولا أن تُدير شؤونها، ولا أن تستثمر مقدراتها وثرواتها؛ فهي بالتالي لا تستحقها؛ فتكون مطمعًا لكل قوي؛ فالثروات والكنوز التي حبى الله أممًا دون غيرها بنظر الدول القوية يجب أن تُستثمر وأن يأخذوها، ما دام أصحابها لا يعرفون قيمتها، ويهدرونها ويستغلونها لتحقيق مآرب بعيدة كل البعد عن مصالح الوطن الذي يعيشون فيه؛ فتلك طبيعة البشر التي جُبلوا عليها، فالدول إذا امتلكت العتاد والسلاح والرجال والمال سعت للسيطرة والتملك، وتوسيع بقعة الأرض التي تُسيطر عليها، فاليهود يريدون إقامة المملكة اليهودية العالمية، والنصارى يريدون أن يقيموا دولة المسيح الكبرى، والمسلمين يريدون أن يقيموا دولة الخلافة الراشدة، والعلمانية تظن أنها الأقدر على سياسة العالم كنظام سياسي ديمقراطي ناجح، والشيوعية ترى نفسها الوحيدة القادرة على المساواة بين جميع البشر، وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، وقس على ذلك بقية أمم وديانات ومذاهب الأرض؛ كل يرى أنه أحق بالأرض من غيره، وكلهم يظن أنه على الحق، وأنه مالك الحقيقة؛ فهي خالصة له من دون غيره.
نعم، الكل يخطط ويُدبر ويُنفذ، فأمريكا تعتبر نفسها الشرطي الحارس الأمين على الأرض وتربي جنودها ومواطنوها على ذلك، فليس هناك أقوى منها ولا أعدل ولا أنقى، وروسيا تحاول أن تستعيد مجدها وقوتها بأنها أعظم دولة لا تقل أهمية وخطورة عن أمريكا، والصين تظن أنه أن الأوان لتعيد تاريخها القديم، وأن لها حضارة ووجود لا يُستهان به، وتركيا تريد استعادة أمجاد الدولة الفارسية، أو الخلافة العثمانية السابقة، والعرب يريدون استعادة ملكهم وأمجادهم، وإعادة الحضارة الإسلامية للصدارة لتملك الهند والسند كما حدث في غابر الزمان، ونسي الجميع أن التاريخ يسير للأمام ولا يعود للوراء، وأن الماضي مُحال أن يعود، وأن الله خلقنا وجعلنا مستخلفين في الأرض لنعمرها، ونعيش الحاضر والمستقبل، وانه جعلنا شعوبًا وقبائل لنتعارف، وأن أكرمنا عنده أتقانا، وأنه خلقنا مختلفين لا متشابهين ولا متجانسين؛ فلكل فرد منا تفرده وعظمته وإبداعه، ولو شاء لجعلنا ملة واحدة، ولهدانا أجمعين، ولكنها عظمة الخالق جل جلاله بهذا التفرد العجيب المذهل لكل فرد من مخلوقاته على وجه هذه الأرض، وما خلقنا إلا لننشر الحب والعدل والسلام؛ فلما غفلنا عن سنة الخلق، شاع وانتشر الظلم والفساد.
وإستحللنا دماء بعضنا البعض، فقتلنا دون رحمة، ودمرنا دون أن يرفَّ لنا طرف، وأفسدنا دون أن يؤنبنا ضمير. وعندما نعود إلى تلك القيم الإنسانية الأخلاقية العظمى التي خلقنا الله لأجلها سنعيش بسلام، وما زال الحق والباطل، والخير والشر يتصارعان حتى ينتصر الحق والخير ويُزهق الباطل والشر، فتلك سنة الله في خلقه، وبالتضاد تُعرف قيمة الأشياء، وكلما قرأنا أكثر علمنا أكثر، فهمنا أكثر، وعلمنا أن لا مؤامرة حقيقية علينا، بل هي سنة التدافع في الأرض، ولن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلًا.