
ترد في وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الاخيرة منشورات يسعى أصحابها للأسف الى تشويه أعراض التونسيين ووصم المرأة التونسية بالقذارة وذلك لغاية في نفس يعقوب، للعلم:
– اليوم نساء تونس في المرتبة الثانية عالميا من بين 114 دولة شملها الترتيب من خلال التقرير الصادر عن الأمم المتحدة في الآونة الأخيرة, وبذلك سبقن نساء سويسرا، وفرنسا وايطاليا وألمانيا واسبانيا… في الاختصاصات العلمية.
– من بين حاملي شهادة الدكتوراه في تونس, تبلغ نسبة النساء69%
– تبلغ نسبة الباحثات التونسيات حوالي 57%، في حين لا تتجاوز نسبة الباحثات في ألمانيا 28% وفرنسا27% والسويد 34%…وهن من يقدن بكل فخر عديد المراكز البحثية فى تونس والخارج.
وللتذكير فان هذا التميز يعود الى تاريخ تونس في مجال ما يعتبر “الاستثناء التونسي”.هذا الاستثناء هو مجلة الأحوال الشخصية التي صدرت في العام نفسه الذي حصلت فيه تونس على الاستقلال, أي في 1956 ومنحت االمرأة ثيرا من الحقوق واعتبرت ثورة حقيقية في العالم العربي آنذاك.
ولا تزال المجلة تحمل كل سنة حقا جديدا حتى تجاوزت العديد من الدول الغربية العريقة في المسائل الحقوقية مثل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا. ولم تبق سوى مسألة المساواة في الميراث التي يدور حولها جدل كبير منع مناقشة مشروع قانون في هذا الاتجاه, وكان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي قد أودعه البرلمان قبل وفاته وللتذكير فقد نصت مجلة الأحوال الشخصية من بين ما نصت عليه الحق للإناث كما للذكور في التعليم. المجاني والإلغاء الكامل لتعدد الزوجات ومنح المراة الحق في طلب الطلاق وتحريم الزواج القسري, وكانت إتاحة وسائل منع الحمل جزءاً من سياسة تحديد النسل.
وقبل صدور مجلة الأحوال الشخصية, كان الزواج عرفيا ولم يكن العقد المكتوب شرط صحته, كما لم يكن للمراة التونسية حق طلب الطلاق وكان يتم تطليقها بدون اللجوء إلى المحكمة, ولا حق لها في طلب التعويض عن الطلاق القسري كما لم يكن لها الحق في الحضانة. وكان للزوج الحق في التزوج بثانية وثالثة ورابعة دون حاجة لموافقة الزوجة الأولى.
ورغم ان الثقافة الذكورية كانت سائدة في المجتمع, فان ذلك لم يمنع ظهور الفكر التنويري حتى في تلك الفترة. وكان أحد ابرز رموزه المرحوم الطاهر الحداد الذي نادى بضرورة مراجعة وضع المراة من خلال مؤلفه” إمراتنا في الشريعة والمجتمع” الذي صدر قبل مجلة الأحوال الشخصية بثلاثين عاما على الأقل ولاقى إمتعاضا كبيرا من الشيوخ المحافظين الذين نعتوا الحداد بالزنديق والمجنون حتى ان الأطفال كانوا يقذفونه بالحجارة، وأدى السخط على الكتاب الى الموت المبكر لصاحبه.
إذن كان لا بد من قرار سياسي فوقي يقطع مع الوضع الذي كان سائدا وتعامل فيه المرأة على إنها وعاء جنسي وخادمة للرجل ليس الا. هنا كانت قوة الزعيم الحبيب بورقيبة الذي قرر بمجرد تسلمه مقاليد الحكم أن يحرر المراة التونسية من القيود التي كانوا يكبلونها بها ويمنحها حقوقها, لايمانه بأن حرية المرأة ليست منحة أو هدية لأنه لا تقدم لبلد نصف مجتمعه مشلول يحتاج لوصاية النصف الآخر.
لم يكن الأمر سهلا بالمرة, لكن الزعيم لم يتراجع وواصل برنامجه في تغيير النمط الاجتماعي بشكل جذري.
فأصبح بإمكان المرأة طلب الطلاق في حالات معينة, ولم يعد بإمكان الزوج فك العصمة دون اللجوء إلى المحكمة والتعويض لها, كما لم يعد بامكانه الجمع بين اكثر من زوجة. ومن باب تحصين حقوق المراة أصبح عقد الزواج المكتوب شرط صحة ولم يعد الزوج وصيا على أموال زوجته وبذلك تحققت للمرأة التونسية الاستقلالية الاقتصادية.
ثم جاء عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الذي واصل هذا المسار ودعمه واستكمال وتطوير الرؤية نفسها بسن قانون جديد يضاف الى مجلة الأحوال الشخصية يمكن التونسية من نقل الجنسية الى ابنائها في حال الزواج من غير تونسي.
ومما ساعد على الحفاظ على هذه الحقوق للمرأة التونسية هي أن الأغلبية المطلقة للنخب التونسية نساءا ورجالا ليبرالية, وان لم تتمكن من التوافق سياسيا, إلا أنها تنهض كفرد واحد في وجه إدخال أي تغيير على المسائل الاجتماعية وعلى راسها حقوق المرأة, إضافة إلى كل ذلك وجود الجمعيات النسائية القوية المعروفة بدورها التاريخي في مقاومة المستعمر الفرنسي، التي ظلت صامدة في وجه أي محاولات للعودة بها الى الوراء.
وإن شاب المجتمع التونسي بعض التغيير الظاهري في السنوات الأخيرة, إلا انه يظل مجتمعا داعما للمرأة في الأساس, اذ لتونس تاريخ طويل ومشهود له في السياسات الإيجابية في مجال المساواة بين الجنسين.
وبالإضافة تلك الحقوق، فإن “الاستثناء التونسي” لطالما حاز على الإشادة لكون تونس:
– أول دولة عربية صاغت دستوراً وكان ذلك في 814 قبل الميلاد.
– وأول بلد في العالم يلغي الرق , وكان ذلك في عام 1846
– وأول دولة عربية أسست نقابات، فقد تأسس الإتحاد العام التونسي للشغل عام 1946.
– وأول دولة عربية وافريقية تنشا منظمات لحقوق الإنسان إذ تأسست الرابطة التونسية لحقوق الإنسان عام 1977.
ومع ذلك، لا يزال الوضع بعيداً عن المثالية ولازالت الطريق طويلة بالنظر الى الظواهر والممارسات والعقليات التي يجب إعادة النظر فيها:
إذ ما زالت أسر كثيرة تنجب بنتا تلو الأخرى بحثا عن الذكر المفقود وما زالت البنت ترث نصف نصيب الولد، وما زال الزوج هو الذي يراس الأسرة لا في مجلة الأحوال الشخصية لكن في واقع إرتباط الابناء به في أكثر من مجال.
وما زال من البديهي في المخيال الجمعي أن المرأة تطبخ وتغسل المواعين وتنظف البيت إضافة الى عملها خارج البيت، وما زالت النساء يتعرضن للتحرش في صمت خانق في الجامعة والشارع ووسائل النقل وفضاءات العمل.
وما زال جل التونسيين ينظرون إلى المرأة التي لم تتزوج وكأنها في وضع غريب مثير للشفقة أو للتنديد، وينظرون إلى المطلقة والأرملة بعين الشك.
وما زال جل التونسيين يثنون المرأة التي تريد أن تفترق عن زوج عنيف أو متسلط بأنها ستتحول الى مطلقة مزعجة إجتماعيا.
وهو ما جعل الاتحاد الوطني للمرأة التونسية في بيان له بمناسبة اليوم العالمي للمرأة الموافق ليوم 8 مارس من كل سنة، يدعو إلى تطوير العقليات لمقاومة النزعة الذكورية السائدة في مختلف أوساط المجتمع والقضاء عليها باعتبارها العائق الحقيقي والتحدي الأكبر، منبها أيضا إلى ضرورة تكثيف أساليب مقاومة العنف ضد النساء والبنات صغيرات السن في تونس مقاومة قانونية وسوسيولوجية وثقافية وبصفة خاصة جرائم العنف السيبرني ضد المرأة.
ورغم أشادة الاتحاد بما قطعته المرأة التونسية من أشواط كبيرة في مسيرة فرض قوانين تحرريّة وتشريعات تتماشى ومواثيق حقوق الانسان, الا انه لفت الى انها لا تزال تعاني من الممارسات التمييزية خاصة على مستوى الأجر والتغطية الاجتماعية في القطاعين الفلاحي والصناعي واستغلالها اقتصاديا وتشغيلها في ظروف مهينة ومضرة بصحتها وسلامتها وكرامتها, مؤكدا على ضرورة وضع حد للتهميش،الذي تعاني منه المرأة الريفية بشكل خاص رغم الأعباء التي تتحملها.
ودعا الى زيادة تدعيم حقوق المرأة على جميع المستويات, وأكد على ضرورة إزالة جميع أشكال التمييز ضدها في القانون وعلى أرض الواقع.
وكما قال شاعر تونس الراحل الصغير أولاد أحمد في قصيدته الشهيرة:
وصفت، وصفت فلم يبق وصف
كتبت، كتبت فلم يبق حرف
أقول إذن باختصار وأمضي
نساء بلادي نساء
ونصف.”