آراءثقافة

الاجتهاد والتجديد.. في فهم الدين وفلسفة الأحكام (2)

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات (1)

مقدّمة

نظّم المكتب الوطني لشبيبة حزب التّقدّم والإشتراكية قبل ثلاث سنوات، بمقرّه بالرباط، ندوة وطنية حول الخطاب الديني المعاصر والشباب، تخللتها مداخلات ونقاشات حيويّة. وفي هذا السّياق جاءت مساهمتي حول جدل الفهم الديني والتّطرّفات، وهو تيمة أساسية في مجال معالجة إشكالية الخطاب الديني والفهم الدّيني وعلاقته بالواقع.

مداخلة إرتأت أن تتوسّل بكل المفاهيم الممكنة لتقريب واحدة من أهم الإشكاليات التي تشغل الرأي العام والنخب على السّواء. وبما أنّنا في سائر اللّقاءات لا نستطيع أن نتحدّث إلاّ بالمختصر المفيد والتلميحات، وحيث أنّ مقتضى التقيد بالزّمن وإكراهات التنظيم وتوزيع الكلمات فإنّ كثيرا من الأشياء تظلّ غير مكتملة وغير واضحة. فالفكر حين يشتغل تحت ضغط الكرونولوجيا، لن يكون دائما في صالح المفكّر، وإذا لم تكتمل الفكرة فلربما سيقت في دروب من الفهم الخاطئ، وهذا نتيجة خطورة الخطاب، فهو ليس بالضرورة يحمل جزء من أزمته معه فقط، بل إنّ طريقة استيعابنا لأي خطاب، يضيف إلى أزمته الخاصة أزمة التّلقّي أيضا. إنّ التقيّد بضغط الكرونولوجيا وبروتوكولات التنظيم والتوزيع – وهو أمر ضروري في كل لقاء علمي أو سياسي – إن هو إلاّ فرصة تمكّننا من المتابعة، وهذه المحاولة إنما تهدف إلى إنجاز قراءة معمّقة وموسّعة لمحتوى المداخلة، وأيضا سأجعلها تستوعب كل ما ذكرته حينئذ أو لم أذكره للاعتبارات المذكورة وما بقي في النفس لم يسمح به المقام، وأيضا جواباتي على كلّ الإشكاليات التي سمحنا لبعضها بالمرور أو لم يسعفنا المقام لذلك، لتعمّ الفائدة، وهذا هو معنى العبارة التي استعملتها حول تفويت بعض الأمور للنّقاش وما بعد النّقاش.

أدرك مسبقا بأنّ تواجدي في أي محفل فكري، لا سيما المحلّي، لا يكون طبيعيا، لأنّ البيئة غير طبيعية، وهو وجود على كلّ حال يثلج صدر الكثيرين ممن ألهموا حسّ وأخلاقيات الاعتراف. لكنه يزعج الكثيرين، لسبب بسيط، وهو أنّه يضعك على واجهة الإحتكاك المباشر خارج لعبة التنميط التي بلغت حدّ الإسفاف والهمجية وضيّعت علينا أوقاتا لمعالجة قضايا أرقى في الذّوق وأرقى في المعرفة، وهنا أحبّ أن أشكر الشبيبة الإشتراكية على هذه الدعوة الشجاعة والتي أظهرت مزاجا مختلفا وتحرّرا من أمراض المسبقات المؤسسة للهمجية التواصلية التي مردت عليها بيئة متخلّفة وهيئات متطرّفة ومؤسسات أصولانية مغلقة، غير معنيّة بتطلّبات المجتمع الحديث ولا بالمعاني الراقية للتسامح والتعاقلية التي سبق واعتبرناها من حيث ما تفيده المقايسة على الوزن والتفعيلة وكذا المضمون: التّعاقل كتدبير للتّعاقد الاجتماعي، فلا تعاقد من دون تعاقل، ولكنها بيئة تستأنس بتخلّفها وتركن لأعطابها البنيوية، غالبا ما تساهم في إعادة إنتاج الوضعية نفسها، والبنية التناقضية المغشوشة التي لا يتحقق معها ميلاد التركيب، ذلك لأن الجدل يتطلب تناقضات حقيقيا، بينما نلاحظ أن وضعيتنا تنتج طرفي جدل مغشوش، تطرفات تتكامل مع بعضها، وتمتاح من المعينين، مفاهيم يتم تمثلها وادارتها وفق مقاصد ايديولوجية ملتبسة.

لكن من جهتي كنت ولازلت مخلصا للفكر، وأصلا إن كنت سأتنازل لاستعمال مفهوم الموضوعية بالطريقة المتداولة التي لا تخلو من ابتذال، فإنني أكثرهم موضوعية، لأنّني لا أستحضر المسبقات، وربما لو فكّر حرّاس الهمجية التواصلية جيدا، لأدركوا أنّني أختلف عنهم في الموقف من الآخر، أي أنّ مبتدأ مشكلتي معهم هو اختلافي عن موقفهم من الآخر، أليس من الغباء أن نقلب الطاولة على من دفع الثمن غاليا، فقط لأنه أنصت يوما للآخر من دون مسبقات ومن دون حسابات جبانة – من هنا ضرورة استحضار قيم الفرسان – وتقاسم الحقيقة مع القريب والغريب من دون حدود ومن دون منخوليا، من يا ترى المتّهم؟ ألست في الموقف الذي يسمح بأن أعطي درسا كبيرا في التواصل واحترام الآخر والتسامح، لأولئك الذين يمررون غرابتهم الوحشية حيال المختلف بمفاهيم يسيؤون إدارتها؟

إنّني أذكّر بأنّ الديمقراطية كما عرّفها المتقدّمون الذين تجاوزا معضلة الصندوق الانتخابي بأنّها إدارة الحكم بالنّقاش (government by discussion) بتعبير جون ستيوارت ميل، وتمام يمكننا القول الشيء نفسه بخصوص الفكر، حيث بالأحرى أن يدار الفكر بالنّقاش، وللأسف لا زلنا غير قادرين أن ننصت مع أنّنا غير قادرين أن نقول دائما شيئا مقنعا، وأعتقد أنّ البنية المغلقة والأبواب الضخمة الموصدة بقوة يصعب فتحها بمفاتيح صغيرة، فلا زال بيننا وبين الفضاء العمومي مسافة فلكية، فمن هنا يبدأ التّخلّف، في استراتيجيا التخاطب وأساليب التواصل والسقوف الظاهرة والخفية التي توضع فوق الرؤوس والتي تفضحها فذلكات النّقاش وتفاصيل الحوار.

ألا نخجل من أنفسنا ونعبّر عن ضعفنا ونحن نتواهم فيما بيننا وننصت لأنفسنا ونمعن في أساليب الإستبعاد والإستئصال الذي هو ضرب من التّكفير: الكفر بالآخر لا يقل خطورة عن الكفر بالله إن لم يكن من جنسه، لأنه كفر بالواقع والحقيقة.

وفي هذا السّياق ما أحوجنا إلى قيم الفرسان كأرضية لقيام نقاش جدّي من دون التباس أو أحكام قيمة أو أو “إيبوكريزيا” أو سوء تدبير للمفاهيم والتفاف على المعقول بالتمعقلات المزيّفة. إنّ تاريخا من معاقرة الأفكار منحني حدسا لإلتقاط الإشارة وأظلّة المعاني، نحن بصدد تدبير مخرجات التفكير الحقيقي وليس بصدد تدوير الجهل وتقليبه في أفران المغالطة وإعادة تقديمه كوجبة فاسدة ومهلكة للصحة العقلية العامة، كما أنّ الشجاعة تفرض أن نباشر التفكير بحدّ أقصى من إرادة الاجتهاد، وأطالب القارئ بأن يحاسبني إن كنت لن أعاقر الموضوع بمفاهيم متجددة أو أعيد تقليب وتدوير الإنشاء نفسه حول القضايا المعنية بالدرس والمدارسة، إنّ التفكير عمل ثوري يقتضي أقصى الشجاعة.

وفي هذا التصدير، أحبّ أن أبدأ من حيث وجب الانقلاب على ما تفرضه المؤانسة بأشكال التمعقلات انطلاقا من العقل نفسه، نعم، إنّنا لا نقيم العقل هنا مقابل الخيال والأساطير، فمشكلتنا مع الخيال هي نفسها مشكلتنا مع العقل: هناك عقل قديم، هو مخرج من مخرجات سياق تاريخي معيّن كما أن هناك خيال قديم، فالتجديد ليس تجديدا في الخطاب فحسب، بل ما أسسنا له منذ حديثنا – قبل سنوات – عن مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري يقتضي تجديدا جذريا على قاعدة التكييفانية الخلاّقة حيث واحدة من آثارها: التجديد الشمولي للعقل والخيال نفسه، ومؤدّى هذا الكلام أنّنا دائما في حاجة إلى أساطير، فلئن كانت هناك أساطير مؤسسة للعقل المنتظم -بتعبير لالاند – فإنّنا في حاجة إلى أساطير جديدة مؤسسة لرهاناتنا ولثوراتنا العقلية، وسوف أعود في المتن إلى هذه الحيثية، حيث مقتضى دعوتي للرُّشد “اللّوغو_ميتيوسي” هو خرم قانون الحالات الثلاث، وفتح المجال لثورة إبستيمولجية على هياكل المعرفة ونماذج التفكير.

وأحيانا أكتشف بأنّ مشكلتنا باتت مشكلة خيال مستقيل أكثر مما هي مشكلة عقل مستقيل، ليس لأنّ الخيال بطبيعته مستقل في منح الصّور بل لأنّه يحتفظ دائما بنحو علاقة ما مع الواقع، فالخيال الذي لا يستدعيه الواقع ولا يشكل محفّزا للواقع – أعني الخيال الميت – هو حقّا خيال مستقيل…

https://anbaaexpress.ma/uu061

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى