آراءثقافة

الاجتهاد والتجديد.. في الفهم الديني وفلسفة الأحكام (6)

جدل الفهم الدّيني والتّطرّفات (5)

جدل التّمثّل والتمثيل

لكي نباشر موضوعا أيّا كان نوعه ومستواه، وجب أن نميّز بين التمثّل والتمثيل، بين تمرين مدرسي لتنزيل مفاهيم وصبّها صبّا (صوبّة) على الموضوع، فهذا في حدود التمرين المدرسي (سكولير) يكون مقبولا ما لم يبرح إطار التمرين، لكن حين يصبح حكما وتنظيرا ومقاربة، نصبح أمام الفوضى، وهذا ما يميّز سياقنا الجيوسياسي والجيو-معرفي.

إن كنّا معنيين بأن نجعل من مقارباتنا شكلا من الخطاب الميتا-ديني لا يقف عند دراسة الظاهرة بل أيضا دراسة التموقع من الظاهرة علينا أن نشير إلى واحدة من أزمات عصرنا المحلّي تحديدا، تلك التي تتعلّق بتدبير المفاهيم في معارك التأويل.

لن أقف أكثر عند الموضوعية التي ذكّرنا مرارا بأزمتها وإشكاليتها والتدبير اللاّموضوعي للموضوعية نفسها، فنحن في قعر معارك التأويل ولسنا إزاء تمدرسات موضوعاتية، وكما قلنا: نحن دائما طرف في معارك وعلينا أن نتحدّث عن الموضوعية في قلب وتفاصيل الصراع وليس خارج الصراع نفسه، فدعوى التموضع خارج الصراع – أو حتى ذلك الشكل من المتاجرة في الصراع – هو موقف تمثيلي وليس تمثّلي، وأمّا المعايير الحاكمة فوجب أن تتمتّع بالتّعالي الممكن، فهي خارج مقارباتنا، وهذا هو العدل في توزيع التموضع الموضوعي، لا يوجد في معارك التأويل من يحكم بل فقط هناك من يبرهن ويحتج.

نسمع مرارا في بيئتنا ضرورة القطيعة مع الشّرق، وبأنّ كل ما أتانا من مشاكل يتعلق بالشرق، ولازالت دعوى القطيعة مع الشرق كما لو أنّ ما لدينا يأتي من الشّمال، وسبق وقلنا أنّها دعوى زائفة، لأنّنا دائما كنّا نشكّل تنويعة سياسية ومعرفية من داخل الشّرق، وحتى اليوم يكفي قليل من تاريخ الأفكار لندرك بأنّ ما بين أيدينا هو مشرقيّ ممشرق، وليس لنا من الشّمال سوى تمثيل وليس ثمثّلا ، لأننا سنصل إلى النقطة التي سنثير فيها سلطة المركز في توزيع الوظائف والمهام وغواية الهامش في التمثيل لأنّ التمثّل يشكل خطرا على مصالح الإمبريالية.

أعتقد أنّ الحلّ يكمن فيما سبق وعبّرت عنه قبل سنوات عديدة: لا مجال للفصل والقطيعة، هذه القطيعة بالمعنى الباشلاري الذي أسيئ استعمالها وماعت حتى فقدت صلابتها بل تحوّلت إلى شيء سائل كما يصف زيجمونت بومان عناصر ومزاعم الحداثة -ليته أدرك القدر المائع من تمثيلها في الهامش – قارعته منذ أكثر من ثلاثين عاما، وكنت ولا زلت أرى أنّ ثمة شيئا بديلا عن القطيعة – اللاّعقلانية واللاّواقعية – وهو التحرر والانخراط في الإنتاج والتأثير والتأثر أي خلق جدلية مع الشّرق، وهذا هو ما وقع بالفعل، اليوم نقع في خطأ تبسيطي يجعل المخرج من الأزمة هو غلق الحدود عن الأفكار والحديث بنزعة شوفينية وفاشيستية تقوم على نزعة شيطنة الشّرق، لكن ما العمل؟

ليست التّطرّفات وحدها تأتي من الشرق بل حتى نقدها المتطرف يأتي من الشرق، نحن شركاء في كل شيء حتى في التّطرّفات، فمن يريد أن يتمثّل خطاب التطرف الدّيني يستطيع أن يستورده من الشرق: سرور، العريفي، القرضاوي، العرعور الخ، ومن يريد تمثّل الخطاب المضاد يستورده أيضا من الشرق: شحرور، القيمني..الخ، فالإقتباس من المشرق جاري على قدم وساق، والحلّ هو: ماذا تملك من بدائل، وهل استطعنا إنجاز خطاب يؤثّر أو قابل أن يصدّر للمشرق؟ دعوى قديمة رفعناها، ولعله من المفارقة أنّ وزيرا من حزب سلفي العقيدة براغامتيّ السياسات تمثّل هذه الدعوى وشرق بها وغرّب من دون أن يملك قواما للنهوض بها وأسسا للتحرر وحسّا نقديّا شجاعا ناسبا الدعوى إياها لحزبه(=انظر كتابي سرّاق الله، مقدمة الطبعة الثانية)، وهذا ما أسمّيه تمييع المفاهيم بالتمثّلات التمثيلية.

ستكون لهذه الظاهرة تجلّيات، لأنّنا لم ننزّه الفكر عن هذا الوباء، لم نعصم الفكر من خطر الانتهازية والاستعمالات المزيّفة ومن إرادة النّصب والاحتيال التي تستغلّ الرّداءة في محاولة لخلق سكولاستيكية مزيّفة تقوم على التحشيد والحشو المناهيجي بدل العبر-مناهجية، إغراق المجال في تمرين مدرسي (سكوليري) يتحوّل إلى معيار للجودة، نزعة ميكانيكية، بينما لا تقوم النهضة إلاّ بكسر أصنام المفاهيم الجامدة وتحريك المفاهيم والمقولات وبالتمثّلات لا بالتمثيل.

https://anbaaexpress.ma/a5lq2

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى