
أثارت زيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي طهران في الأول من آذار (مارس) الجاري لغطاً وأسئلة لا تُطمئن القلقين من خطط البرنامج النووي الإيراني. تحدث الرجل عن ودّ وتعاون وعن موافقة السلطات الإيرانية على ترتيبات تتعلق بالمراقبة والرصد داخل بعض المفاعلات، لكن طهران نفت ذلك. ورغم ما قيل عن استعداد مجلس المحافظين في الوكالة لتوجيه لوم إلى طهران يهوّل بنقل الملف إلى مجلس الأمن، لكن الأمر تأجّل إلى اجتماع حزيران (يونيو) المقبل.
بموازاة الأمر، ورغم تكرار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان تصريحاته بشأن العودة إلى المفاوضات في فيينا وقرب التوصل إلى اتفاق نهائي، بقيت واشنطن تشكّك في ذلك وتنفي رياح التفاؤل التي تنفخها طهران، وتستبعد العودة القريبة إلى المفاوضات مستلهمة ما سبق أن تحدّث به الرئيس الأميركي جو بايدن في 20 كانون الأول (ديسمبر) الماضي عن “موت الاتفاق”.
وفق هذا الغموض غير البناء في المواقف المرتبكة لغروسي وتلك المتناقضة الصادرة عن طهران وواشنطن، زار واشنطن وفد أمني إسرائيلي في 8 آذار لـ”مزيد من التشاور”. وفي خلفية هذا التشاور بدء مناورات عسكرية جوية أميركية إسرائيلية في نيفادا في 12 آذار، توحي بالاستعداد لأمر ما في وقت ما، فيما ما برحت منابر إسرائيل، بدءاً برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وانتهاءً بجنرالات الأمن والعسكر، تلوّح بالدفع باتجاه الخيار العسكري ضد إيران بصفته الحلّ الذي عجزت عنه الدبلوماسية لإبعاد الخطر النووي عن إسرائيل.
وسط ما يشبه الفوضى في المعلومات بشأن المستوى الذي وصل إليه البرنامج النووي، تدفقت تقارير جديدة تتحدث عن قدرة إيران على إنتاج قنبلة نووية خلال أسابيع أو خلال أيام. قبل ذلك كانت جُلّ التقديرات المتشائمة تتحدث عن أشهر أو حتى سنوات. ولئن تحتاج إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 في المئة لإنتاج قنبلة نووية، فإن إيران التي رفعت نسب التخصيب من مستوى 3.67 في المئة وفق ما يسمح به اتفاق فيينا لعام 2015 إلى مستوى 20 ثم 60 في المئة منذ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب بلاده من الاتفاق عام 2018، اعترفت بحقيقة العيّنة التي عثر عليها مفتشو الوكالة في منشأة فوردو في 21 كانون الثاني (يناير) والتي تكشف عن نسبة تخصيب وصلت إلى 83.7 في المئة.
وبغضّ النظر عما ساقته إيران من أعذار تتعلق بخطأ تقني ارتكبته أجهزة التخصيب لم يكن مقصوداً، ورغم احتمال أن تكون سلطات طهران قد تقصّدت ترك المفتشين يكتشفون هذا “الإثم” للاستثمار به سياسيا، فإن الثابت أن إيران التي تمتلك التكنولوجيا النووية واكتسبت معرفة وراكمت خبرة تتيح لها الذهاب بعيداً في تخصيب اليورانيوم، باتت جاهزة لإنتاج القنبلة وفق توقيتها، وأن العالم قد يستفيق يوماً على أخبار التجربة النووية الإيرانية كما استفاق على أنباء تلك التي نفّذتها كوريا الشمالية عام 2006.
لا يمكن إغفال هذا الواقع عن ظروف رعاية الصين للاتفاق الذي أبرمته السعودية وإيران في 10 آذار. لا نعرف عن هذا الاتفاق حتى الآن إلا السطور المقتضبة التي حددت العناوين الكبرى التي تؤسّس لمرحلة جديدة واعدة في علاقات طهران والرياض، لكن أيضاً في علاقات إيران والعالم العربي. وما الجولة التي قام بها علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، والذي رأس وفد بلاده في بكين، إلى أبوظبي وبغداد والزيارات التي قد يقوم بها وزير الخارجية الإيراني لهذه العاصمة أو تلك، إلا تأسيس للبنى التحتية الدبلوماسية والاقتصادية وربما الأمنية التي ستتحول وفقها سياسة إيران الإقليمية.
وإذا ما فاجأ الاتفاق العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة، لا سيما لجهة رعاية الصين له وما يعنيه ذلك من عصر صيني في الشرق الأوسط، إلا أن الجانب المتعلّق ببرنامج إيران النووي وقنبلتها النووية المفترضة غاب تماماً عن النقاش العام. ولا ندري ما إذا كان أُثير هذا الملف بين المتفاوضين في بكين ما بين 6 و10 آذار قبل خروج النصّ المعلن للاتفاق. ثم إن تداعيات الاتفاق الإيجابية والجدية لدى طرفي الاتفاق والتزامهما تهدئة مدروسة وصلت إلى حدّ دعوة الرياض الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى زيارة السعودية، تغفل، وربما عن قصد، إثارة موضوع خطير وحرج من هذا النوع يحدد جدياً طبيعة العلاقة التي ستقيمها إيران مع السعودية والخليج والعرب.
وإذا ما استثنينا إسرائيل التي ما برحت تتوعد بضربة عسكرية تدمّر برنامج إيران النووي، فإن الصمت الدولي الذي يحيط بالمفاوضات في فيينا، وغياب تقارير دولية ذات صدقية عن حقيقة أخطار البرنامج النووي وشقّه العسكري، في وقت باتت فيه إيران، وفق اتهامات غربية، شريكة في حرب أوكرانيا داعمة لروسيا، يطرح كثير من الأسئلة بشأن دقّة اقتراب إيران من تفجيرها النووي الأول. ثم إن جسامة هذا الملف تطرح أسئلة أخرى على الصين، عرابة “اتفاق بكين” وضامنة أطرافه، بشأن ما تعرفه عن خطط إيران النووية وما وصل إليه برنامجها وعما سيكون عليه “اتفاقها” إذا دخلت إيران النادي النووي.
وكأن انخراط المجتمع الدولي في فرض اتفاق جديد على إيران في فيينا بات حاجة لصيانة الاتفاق السعودي الإيراني في بكين. وكأن إيران أيضاً، في إبرامها الاتفاق مع الرياض ومباشرة سياسة انفتاح مع دول الجوار تمضي نحو مرحلة استراتيجية جديدة، فيما برنامجها النووي متخلّص من أي قيود لا يلجمه اتفاق ولا شيء يمنعه من الذهاب إلى مبتغاه الأقصى. وإذا ما كانت دول خليجية قد طالبت في السابق بأن تكون شريكة في المفاوضات النووية وتلك المتعلقة بملفات أخرى، فإنه حريّ بإيران نفسها إذا ما كانت حريصة فعلاً على فتح صفحة جديدة مع المنطقة، أن تشترط أن تكون دول المنطقة جزءاً وشريكاً في أي اتفاق دولي في فيينا سيحدد مسار المنطقة وأمنها في المستقبل.