تسرّع المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما في الإعلان، في مقال له عام 1989 طوّره إلى مؤلفه الشهير عام 1992، عن “نهاية التاريخ” عقب اندثار الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين. لا يُلام الرجل فكل ظروف تلك الحقبة حتى ما تلاها بعد ذلك أسّست للتسليم بانتصار ساحق للفكر الليبرالي الغربي القائم على رأسمالية أيديولوجية ضد ماركسية شيوعية ثبت فشلها في كل النسخ التي راجت منذ بدايات القرن الماضي.
وتسرّع لاحقاً مفكر أميركي آخر هو صموئيل هنتنغتون في نظريته عن “صراع الحضارات” في مؤلفه عام 1996 في التسليم أيضاً بسيطرة الليبرالية على العالم وسقوط النظريات النقيضة وهياكلها الحاكمة، مستشرفاً صراعاً ثقافياً مع نقائض حضارية سيأخذ أشكالاً مدمّرة. ولئن أدرج العالم الإسلامي وذلك الآسيوي الذي تبرز به الصين كمثال للحضارات المرشحة للصدام مع الحضارة الغربية، غير أنه أفتى بصراع بين الثابت الذي تنبأ به فوكوياما ولم ينفه والأعراض الجانبية المقاومة له.
قدمت حرب يوغوسلافيا عام 1999 وتدخل الآلة العسكرية الغربية (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة مثالاً صارخاً على التفوّق الليبرالي ونهائيته. ساهم الأمر في رواج ملحقات على نظرية فوكوياما تدعم هذا النزوع وتُسقط عليه المصائر الحتمية.
ومثّل بزوغ عصر تنظيم “القاعدة” في أوائل هذا القرن من خلال أوج أخطاره في “غزوة نيويورك” عام 2001 ثم عصر تنظيم “داعش” عام 2014 واجهات تزعم تغذية “صدام الحضارات” الذي أثاره هنتنغتون مبكراً. مع العلم أن الظواهر الإرهابية تلك لا تمثل حضارات وتركّزت كوارثها في العالم الإسلامي وضد المسلمين. وما الحرب الدولية التي شُنت ضد التنظيمين الإرهابيين وتوابعهما في العالم، إلا تأكيد لحقّ القوة الليبرالية الضاربة وشرعيتها في السهر الدائم على سحق أي ظواهر من شأنها التشكيك بما خلص إليه مفكرو النصر الغربي الكبير.
غير أن حرب أوكرانيا منذ 24 (فبراير) 2022 أعادت تعويم مشهد دولي جديد يختلف بحدّة عن ذلك الذي كان عليه بعد اندثار الحرب الباردة. فبينما أزال الغياب السوفياتي كثيراً من الخطوط عن خرائط التقسيم الدولي وأضعف الباقي منها، فإن الحدث الأوكراني أخرج إلى العلن انقساماً دولياً وتصدّعاً في خطوط التحالفات بما أعاد الحدود وربما الأسوار بين غرب وشرق وبين شمال وجنوب.
وفيما تبرز تباينات حقيقية داخل المعسكر الغربي بين ضفتي الأطلسي (وحتى داخل أوروبا نفسها) بحكم تنافس المصالح وتناقض الأجندات وتطوّر الكتل الاجتماعية الناخبة، فإن مروحة من التجمعات والدول أظهرت تآلفاً منسجماً في الموقف من حرب أوكرانيا وأجادت الحفاظ على موقف مبتعد من الغرب من دون أن يكون متماهياً مع الرواية الروسية.
أما البروز الفجّ للصين نقيضاً لهذا الغرب فمثال آخر على نهاية الحقبة التي بنى عليها فلاسفة تقرير مصير التاريخ وتحولاته الصدامية نظرياتهم وكان فوكوياما وهنتغنتون من روادهم الأوائل. ولئن استشرفت النخب الحاكمة في الولايات المتحدة منذ عقود الصعود الصيني وخطورة تحدياته، غير أن انتقال واشنطن إلى مرحلة خوض حملة مباشرة ضد الصين، لا سيما في حدائقها الجيوستراتيجية في منطقة الاندوباسفيك، دفع الصين بقيادة شي جينبينغ إلى الانتقال من حقبة القوة الناعمة والصعود الصامت إلى مرحلة تستخدم فيها الصين قواها الخشنة، سواء بما يتعلق بتايوان عسكرياً مثالاً، أم بما أفرجت عنه ظروف رعاية الاتفاق السعودي – الإيراني دبلوماسياً وسياسياً وجيوسياسياً مثالاً آخر.
وتبتعد الصراعات الجديدة من أي زاد أيديولوجي عقائدي كالذي كان خلف الحرب الباردة التي اندلعت في خمسينات القرن الماضي ولم تنتهِ إلا بنهاية الاتحاد السوفياتي. فإذا ما ابتهج فوكوياما بانتصار الليبرالية الغربية على الشيوعية في طبعتها السوفياتية وتداعياتها في العالم، فإن روسيا اليوم تمثّل شكلاً ربما مفرطاً من أشكال الاقتصاد الرأسمالي القائم على قواعد أوليغارشية تنافس أثرياء العالم الكبار. ينطبق الأمر نفسه على الصين التي يحكمها الحزب الشيوعي الذي انقلبت عقائده الاقتصادية على ما كان مقدساً ورائجاً في عهد ماو تسي تونغ. وأتاحت الرأسمالية في الصين بروز طبقة من الأثرياء على نحو بات يقلق أثرياء أميركا نفسها ويمثّل تحدياً منافساً موجعاً.
يستفيق التاريخ من جديد على أعراض متوترة تنهل بعض عبقها من صراع الإمبراطوريات في عهود غابرة. وتبرز تجمعات دولية من البريكس إلى الـ”أوبك+” مروراً بمواقف سياسية عبّرت عنها دول عربية وأفريقية وآسيوية لتمثّل ظاهرة جديدة في استقلالها عن قرار واشنطن، فيما تمثّل مواقف تعبر عنها دول في وسط آسيا مثل كازاخستان وأذربيجان وطاجكستان المفترض أن تدور في فلك موسكو تحفّظاً عن موقف روسيا من الحرب على نحو لم يعد معه يسيراً هضم النهاية النمطية التي نظّر لها فوكوياما وهنتنغتون، بحيث يبدو التاريخ نفسه هنا وقد أطاح بحتمياته.
لم تفقد الليبرالية الغربية مواهبها العابرة للحدود، لكن مفاهيم أخرى لإدارة العالم باتت تدافع عن حصونها وإن لم تتضح مشتركاتها النظرية. وإذا ما كانت النُظم الديموقراطية تعاني أزمة في عقر دارها وتتحلل بعض قواعدها، فإن غياب الأيديولوجيا والبعد الأخلاقي للبدائل الأخرى في العالم يعيق قراءة هذا النظام الدولي العتيد الذي تكثر وجوهه من دون أن يكون له وجه نهائي أكيد. وفي ذلك أن التاريخ لا ينتهي وأن العالم لا يشهد صدام حضارات بل صراع بدائي يرتكبه الإنسان وهو “ذئب لأخيه الإنسان” وفق نظرية الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز التي لم تستطع الحداثة وقيمها أن تُسقطها وتُثبِت خطأها.