التركيبة الديمغرافية على تنوعها للمغرب هي عبارة عن تركيبة اختلطت فيها أنماط من التفكير تراكمت بفعل الحضارات التي تعاقبت على المنطقة من أمازيغ كان لهم وجود في المغرب الكبير لما يزيد عن 2000 سنة قبل الميلاد.
كما عاش في ذلك المغرب منذ الأزل يهودا تعايشوا في وئام مع الأمازيغ ومع مختلف الشعوب بما فيها الحضارة العربية الإسلامية التي انتشرت لاحقا بفضل دخول الإسلام إلى أرض تمزغا، وأبى الأمازيغ الخنوع حينما جاءهم موسى بن نصير شاهرا سيفه في وجههم فقاوموه دون ان يستتب له الامر. ولما جاءهم ادريس الفاتح حاملا معه رسالة المحبة والسلام وهي رسالة الإسلام القائم على التعايش أبرموا معه عقد المصاهرة ليختلط دم المسلمين بدم الأمازيغ تجمعهما العقيدة والوطن لكن من دون التفريط في الأصول والهوية.
ولذلك، حينما نريد أن نبني استراتيجيات وسياسات إن على المستوى الداخلي أو على مستوى علاقات المغرب مع الخارج لابد من أن نستحضر المغرب في زمنه الحالي لكن من دون أن نغفل زمنه الماضي الذي وإن ولى فهو يعيش معنا بكل حمولاته في وجداننا وفي ما هو متعارف عليه بالوعي التاريخي للجماعة وبالضمير الذي لا يموت عبر ما نتحدث عنه دائما وأبدا بالروح الوطنية. أما من يريد أن يتنكر لهذا الرصيد باستيراد فكر دخيل فهو بذلك يتنكر للهوية ولتاريخه ويسيء للوطن متحاملا في ذلك على الوعي الجماعي الذي ترسب وتجدر في العقول والأذهان على مدى قرون خلت.
رغم هذه الحمولة بأبعادها التاريخية والإثنية والدينية، يتعامى البعض إما عن عمد أو عن جهل بمحاولة القفز على كل هذه الحقائق ليسمح لنفسه بممارسة العادة السرية في السياسة وفي الخوض في قضايا كبرى تهم المغرب والمغاربة. ويستعين هذا البعض بفكر غريب ودخيل تم تحنيطه في معقله، فيما الفاقدون للهوية عندنا يتمسكون به لعلهم قد يجدون في ذلك الفكر ما يعالج مرضا ألم بهم اسمه بالانفصام في الشخصية وفقدان الهوية المغربية الأمازيغية. أولئك عوض أن يتماثلوا مع رموز المقاومة والنضال من أبناء جلدتهم الأمازيغ، أمثال موحى وحمو الزياني، وجدوا أنفسهم ضحية استيلاب فكري قادهم إلى التماثل مع مؤسس إيديولوجية القومية العربية ميشيل عفلق، والتودد لقيادات سياسية أرادت ترجمة تلك القومية على أرض الواقع من قبل صدام حسين وحافظ الأسد.
لكن سرعان ما اتقلب السحر على الساحر. وعوض أن تكون القومية مشروع وحدة سرعان ما تحولت إلى مشروع بلقنة المنطقة ومواجهة مفتوحة بين سوريا والعراق وهما البلدان اللذان كانا يتناطحان كالثيران في ملعب القومية محررين بذلك شهادة وفاتها. ولم تكن الناصرية هي الأخرى مستثناة من الانهيار الذي آلت إليه ربيبتها في القومية العربية. بل كان مصيرهما واحدا انتهت الناصرية بممات مؤسسها جمال عبد الناصر ولم تلد لنا سوى ذلك العاق في شخص معمر القذافي الذي ما زالت ليبيا تعاني من حماقاته إلى يومنا هذا.
وإذا لم يكتب لهذه الأيديولوجيات البائدة أن تجد مستقرا لها أو من يحضنها في مكان ولادتها، فكيف لها أن تتواجد في أرض شعبها من أمازيغ وعرب ويهود ومسلمين عاشوا دائما في وئام وسلام. لقد حاولت الناصرية أن تنغس العيش على المغاربة وبتواطؤ من اولئك المغاربة الذين تشبعوا بهذا الفكر الهدام من يساريين وقومجيين في فترة ستينيات القرن الماضي.
وهناك من اليساريين من تم تجنيده في الجزائر ولقي كل الترحيب والتشجيع من الرئيس بومدين والرئيس القذافي لزعزعة استقرار المغرب. ولم يستثن هذا الفكر الهدام خلال تلك الفترة اليهود المغاربة بل تعمد أن يطلق حملة ضدهم من خلال تضييق الخناق على وجودهم في المغرب وتخويفهم بخطر الناصرية التي ستزحف لا محالة بالطول والعرض على المغرب مما أجبر العديد منهم على مغادرة البلاد. وقد ساهم ذلك اليسار في تهجير اليهود إلى إسرائيل.
ستينيات القرن الماضي كانت شاهدة على مدى تواطؤ بعض القيادات اليسارية على المغرب والمغاربة وفي مقدمتهم الفقيه محمد البصري الذي كان يتنقل بين بعض العواصم العربية التي كانت تدعي التقدمية والفكر التحرري منها على وجه التحديد القاهرة وطرابلس والجزائر وبغداد ودمشق.
وكانت هذه العواصم تخصص للفقيه البصري استقبالات تليق برؤساء الدول وكانت تموله بالمال وتوفر له السلاح من أجل تدريب عصابات لزعزعة أمن واستقرار المغرب. وكان من أبرز هذه المخططات العدوانية أحداث مولاي بوعزة بنواحي خنيفرة عام 1973 حيث صدر على إثرها حكم على الفقيه البصري بالإعدام لضلوعه في تلك الأحداث.
غير أن الأمة المغربية كانت عصية عليهم وعلى الدول التي كانت تقف من ورائهم. وهي ليست المرة الأولى التي يواجه فيها المغرب هكذا تحديات خارجية كما لن تكون هي الأخيرة، جميعهم انقرضوا وبقي منهم من يبحث اليوم عن نفسه وعن موقع يعوض به المهنة التي فقدها لما كان يشتغل سائقا عند الفقيه البصري. فكيف للسائق، مع احترام كل المهن، أن ينجح فيما فشل فيه سيده.
سائق الأمس أراد اليوم أن يصنع لنفسه عالما خاصا به، وأن يحلق بأجنحة مكسورة في سماء مغرب فسيح ورحب. لكنه عوض أن يغرد فإذا به غراب ينعق بالخراب والدمار ويتوعد المغرب بالزوال من خارطة العالم.
بل أكثر من ذلك أشاد مؤخرا بما حمله الفكر اليساري من توجهات في حقبة ستينيات القرن الماضي التي يدعي أنها كانت واعدة مشعة ومنيرة في الحياة السياسية للمغرب أكثر من أية حقبة أخرى. وسمح السائق لنفسه، بشكل فيه نوع من الالتفاف، أن وصف الحقبة الحالية في تاريخ الدبلوماسية “بالبوريطية” أي نسبة للوزير ناصر بوريطة معتبرا إياها بالأسوء وبأنها بداية السقطة النهائية.
أحكام من هذا القبيل تدل أولا على وجود إفلاس في قراءة الأحداث، وثانيا على وجود نية مبيتة ضد الوطن ومصالحه العليا، وثالثا على وجود ارتباط مع الخارج لإجراء تقييم يروج في شكله ومضمونه لأجندة الخصوم داخل المغرب على غرار ما كان يفعله ولي نعمته الفقيه البصري.
هذه الادعاءات هي أهون من بيت العنكبوت لدحضها لأن واقع الحال يتحدث عن نفسه ويشهد على عكس كل ذلك. دبلوماسية المملكة المغربية بقيادة جلالة الملك، والتي يتفانى في خدمتها وتنفيذها بوريطة، تعتبر خلال العشر سنوات الأخيرة من ألمع وأسطع العهود في تحقيق إنجازات ومكتسبات في تاريخ المغرب الحديث.
فإن كان هناك من سقوط في الهاوية فهو سقوط الدبلوماسية الجزائرية. وبلغة الأرقام والإحصاءات سجلت دبلوماسية الخصوم خسائر كبيرة منها :
ـ تراجع الاعتراف بجمهورية الوهم من 80 اعترافا إلى 30.، والحبل على الغارب ـ اعتراف مجلس الأمن الدولي بمبادرة الحكم الذاتي كحل للنزاع المفتعل ـ اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء ـ اهتداء معظم الدول الأوروبية بنفس النهج الأمريكي ـ فتح العديد من الدول الإفريقية والعربية قنصليات لها في الأقاليم الصحراوية ـ تمكن المغرب ولأول مرة من مقارعة بعض القوى الأوروبية وإرغامها على الامتثال إلى طلباته كما هي في أجندته الوطنية ـ اقتناع العديد من الدول الإفريقية بطرد الكيان الوهمي من الاتحاد الإفريقي.
يبدو أن هذا الواقع يتحدث عن نفسه، بينما ذلك السائق لا يريد أن يقرأه كما هو. ويحق فيه قول الله تعالى “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي هي في الصدور”.
ولعل هذا العمى الذي ابتلي به صاحبنا كان بسبب شدة فرطه في التحامل على ما يسميه بتطبيع بلادنا مع إسرائيل. وهو لا يتحامل على هذا التطبيع إلا إذا تعلق الأمر بالمغرب. بينما لا يستطيع أن ينطق ولو بكلمة واحدة في التطبيع الذي يقوده الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان الذي بادر مؤخرا وهو محق في ذلك إلى رفع التمثيل إلى مستوى السفراء بين أنقرة وتل أبيب حيث العلم الإسرائيلي يرفرف في سماء العاصمة التركية. وبالمناسبة أتحدى أي يساري أو إسلاموي أن يدلو بدلوه في هذا الموضوع فيما تركيا تفتح مجالها الجوي للتدريب العسكري الإسرائيلي.
فليطمئن اليسار الذي لم يعلن بعد توبته ولم يتعظ من فشل أسلافه، وليطمئن ذلك السائق الذي يقرأ المستقبل برجم الغيب، على أن الأمم الحية لا تموت بل تظل صلبة وقائمة الذات بفضل تماسك مكوناتها على مبدإ التسامح والعيش المشترك، سر قوتنا في هذا التعايش وتقبل الآخر. بينما الكيانات القومجية المتحجرة والتي لا تقبل الا بالفكر الواحد الأوحد هي الآيلة إلى السقوط والقابلة للانقراض.