في عيادة وهمية للعيون تدخل مريضة لمراجعة الطبيب، ويكون في غرفة الانتظار جمهور من المرضى والمراجعين -ولكنه جمهور وهمي (ممثلين)- بحيث أنه كل فترة زمنية قصيرة يدق جرس، فيقوم الجمهور الوهمي بالوقوف لحظات ثم يعود للجلوس، تكرر الأمر، عند المرة الرابعة لم تستطع المريضة مقاومة فعل الجمهور فانخرطت معهم في الوقوف كلما دق الجرس دون أن تعرف السبب لذلك، ولما بدأ الجمهور بالانسحاب واحدًا تلو الآخر، بقي شخص أخير من الجمهور الوهمي، سألها لماذا تفعلين ذلك؟ ضحكت وابتسمت وقالت: لا أعلم، رأيتهم يفعلون ذلك ففعلت.
قد يكون طبيبًا بارعًا، وإنسانًا راقيًا، وشخصية محترمة جدًا، يُشار إليه بالبنان في إخلاصه بالعمل، وسلوكه المهذب، واحترامه لأقواله وأفعاله، ولكن عندما يدخل في الجماعة أو الجمهور يخلع عباءته ويلبس عباءة الجماعة، فيصبح كالمُنَوم مغناطيسيًا، مساير للجماعة بشكل مُذهل وغرب، كفرد من القطيع، وهذا ما يُسمى ب (ضغط الجماعة = الروح السائدة).
ولقد جاء علم النفس الاجتماعي ليثبت أن تفكير الأفراد داخل الجمهور غير عقلاني، وغير منطقي، فلو كان هناك مؤسسة أو جماعة تُطبل وتُبرر للمدير أو للقائد كل ما يفعله، فظهر هناك من يعترض وينتقد فعل ذلك المدير أو القائد، وهذا نادر الحدوث؛ فإنه سيُطرد من المؤسسة أو الجماعة ويُقصى تحت شعار “الجماعة تنفي خبثها” أو أنه لا يلتزم بالأوامر، أو أن الفرد ذاته لا يستطيع أن يحتمل ذلك فيخرج بملء إرادته.
وبسبب تلك الروح السائدة أو ضغط الجماعة وقعت حروبًا كبرى أهلية وطائفية ومذهبية وعرقية، فحسب علم النفس الاجتماعي فالجماهير عاطفية ومجنونة وضاغطة، ومن السهل التلاعب بمشاعرها.
ويوجه غوستاف لوبون عالم النفس الاجتماعي الفرنسي الذي أصدر كتابه (سيكولوجية الجماهير)، والذي أهداه إلى الطبقة الحاكمة لكي تسيطر على الجماهير وتوجهها وتحركها كيفما تشاء وتُريد، بأن على الحاكم أو الحكومات أن تبيع شعوبها الوهم لا الحقيقة، فيحدثونهم عن الأحلام ويخلطونها بالأوهام، وأنه يجب أن يتكلموا دائمًا في العموم، والحذر الحذر من إخبارهم بخطة محددة ومرسومة ومجدولة وفق جدول زمني محدد بل حدثوهم عن برامج ومشاريع فيها من المبالغة الشيء الكبير، فمثلًا: أخبرهم عن مشاريع تُدر مبالغًا ضخمة تُحقق الاكتفاء الذاتي، أو أنك ستعمل وفق آلية تقضي فيها على كل منابع الفساد والفاسدين، سنتخلص من الاحتكار الأجنبي، وتبقى لنا مؤسساتنا الوطنية، سنطرد المستعمر، سنحرر أراضينا المحتلة، كلمهم بالعواطف، والعب على وتر المشاعر، وأخبرهم أنك في كل ثانية تُنجز مشروعًا، وأنك في كل دقيقة تقبض على فاسد أو مُقصر في العمل، وأن الأمن والأمان الذي تحقق في زمنك وعهدك لم يتحقق في زمن من سبقك، واعمل مقارنات وهمية كاذبة تضحك بها على عقول الجماهير، وفي عز فقرهم وجوعهم وهجرة وموت أولادهم وغلاء الأسعار أخبرهم أنك اكتشفت آبار البترول والغاز والفوسفات، وأنهار اللبن والعسل، وأن كل شيء سيرخص قريبًا ويُصبح في متناول اليد، وأن الرخاء الاقتصادي قادم لا محالة بعد قليل فالجماهير عاطفية لا يمكن أن تربط بين الحقيقة والخيال، بين الوهم والحقيقة.
ثم يستمر غوستاف لوبون قائلًا: إستخدم الصورة والشعارات الفضفاضة الواسعة، حتى ولو كان ذلك كلمة واحدة، فمثلًا: الرئيس الأمريكي أوباما استخدم كلمة واحدة (التغيير)، بينما ديفيد ترامب رفع شعارًا (اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى)، بينما الإخوان المسلمون وغيرهم من الإسلاميين طرحوا شعار (الإسلام هو الحل) فواضع هذا الشعار كما يقول مالك بن نبي: ذكيًا وماهرًا وخبيثًا أيضًا، فهذا الشعار انتخابي وليس عقائديًا، وما وضع إلا ليجذب أكبر عدد ممكن من الجماهير لصندوق الانتخاب، لأن واضع هذا الشعار يعرف سلوكيات وسيكولوجية الجماهير والتي تتلخص في جملة واحدة (صفر عقل ومنطق، وكثير من المشاعر).
ثم يأتي بعد ذلك ميكافيلي ليقول لك: العب سياسة صح، وأضف قليلا من المقدس (الدين)، فمثلًا أخبرهم أن العلوم والاختراعات الإسلامية القديمة لا زالت تُدرس إلى اليوم في جامعات وكليات الغرب، ولن تجد أحدًا يسألك عن هذه الكليات أو هذه الجامعات، أخبرهم أن عبقرية خالد بن الوليد العسكرية ما زالت تُوضع كخطط واستراتيجيات للحرب، ولن تجد من يعترض عليك أو يُطالبك أن تُدرسه إياها.
وإذا رأيت الشباب لا يستطيع الزواج وأن نسبة العنوسة في النساء قد ارتفعت فإياك أن تخبرهم أن السبب هو أن هناك من يسرق قوت أيامهم وسنوات أعمارهم نهبًا وضريبة لأنه يبني قصوره وبيوته، ويقوم بتأمين مستقبل أولاده وأحفاده، بل اشغل عقول النساء بأن هناك من سحرها أو هي محسودة أو مرشوشة أو ابتعلت شيئًا ما، أو مشت فوق شيء ما، وأن من فعل ذلك أحد أقاربها لأنه يكرهها ولا يُريد لها الزواج، ولا تنسى أن تجعل ثقافة المجتمع يسودها المشايخ والدجالون، ولا تنسَ أن تسألها عن أحلامها والثعابين والحيات التي تراها في منامها، وأن هذا السحر قد طال كل أفراد الأسرة، فإذا انهارت الأم والمربية وغرقت في الجهل والخرافة سقط الجميع خلفها تباعًا.
ولا تنسى أن تنشر التفاهة والثقافة الهابطة التي لا ترفع أمة ولا تقومها، ولا تبني حضارة، وجولة اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي كفيلة أن تُريك حجم شهرة الراقصين والراقصات والممثلين والممثلات، وأصحاب المحتوى التافه، بينما مفكر أو عالم أو متخصص في مجاله لا يعرفه أحد لا يأبه به أحد.
وأخيرًا إربط بأن انتصارنا على جميع أعدائنا يكون بعودتنا إلى ديننا، وأن سبب انتكاساتنا هو بعدنا عن الدين، وأنا هنا لا أدعو إلى محاربة الدين، أو أنني كارهة أن يعود الدين – معاذ الله – ولكني أرفض أن يُستخدم الدين لأغراض سياسية ودنيوية، ولكن لو كان كلامهم صحيحًا لكانت أوروبا وأمريكا هي من تقبع تحت نير الأعداء وظلمهم بسبب علمانيتهم الملحدة والكافرة وليس نحن، فنحن شعوب مسلمة ولم ننكر خالقنا، ولكن السبب الرئيسي فيما نحن فيه هو الظلم والفساد، وغياب المحاسبة والرقابة على كل من السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية، وغياب كامل للقانون.
بعد كل هذا الاستعراض لتفكير وسيكولوجية الجماهير ما هو الحل؟ بخبرتي البسيطة والمتواضعة الحل يكمن في أن تكون لك شخصيتك المستقلة، وعقلك الحر، فترفض أن تكون فردًا في قطيع، وأن تُدرب نفسك جيدًا على أن تمتلك عقلًا نَقْديًا صارمًا، هذا العقل مُتقد دومًا، يُخضع كل شيء حتى المُسلمات للنقد، وأن تحاول أن تُفكر خارج الصندوق، وأن لا تخجل أن تسأل عن أي شيء، وأن تقرأ مهما إستطعت إلى ذلك سبيلًا، فذلك أول أمر من الله لك، واقرأ كل شيء، فالله عندما قال لك (اقرأ) لم يُحدد لك ما تقرؤه، ولا تستمع إلى من يقولون لك لا تقرأ لهذا أو هذا، فربما كل الحق يكون لهذا ولا يكون لمن منعك.
ففي النهاية لك عقل كرمك الله به، قادر على أن يُميز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، والقرآن الكريم حذرنا من ضغط وسحر الجماعة ففي أعظم مسألة عقائدية على وجه الأرض هي مسألة الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أمرنا أن نفكر فرادى أو اثنين، وأن لا يزيد الأمر عن اثنين، وان لا نفكر جماعة، لأن الجماعة لا تكون دومًا على الهدى، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) سبأ:46.
فالتفكير الجمعي يُلغي عقلك ويُقصيه، فالفرد وسط الجموع كالآلي، يتصرف بشكل لا واعٍ، يُنفذ ويتحرك وفق رغبة وتفكير الجماعة لا وفق رغبته وتفكيره، وفي تفكير الجمهور يغيب العقل والمنطق، لنحل محله العاطفة لتستبد وتستأسد وتحكم وتتحكم، ولا تنسى أن الله خلقنا شعوبًا وقبائل لنتعارف، وأنه خلقنا مختلفين ومتنوعين، فالاختلاف والتنوع سر قوتنا.