تقصّد المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، الدكتور أنور قرقاش، في 7 شباط (فبراير) الجاري، أن يضع نقاطاً ضرورية على الحروف. أكد أن توجه الإمارات أساسه “وحدة الكلمة والصف”، وشدد، في تغريدة عبر “تويتر”، على أنه “في هذا الإطار كانت وستبقى الشقيقتان السعودية ومصر محور توجهاتنا ومواقفنا”.
لتدخّل المستشار أسباب وضرورات تضع حداً لشطط قد يجد له مساحات داخل فضاءات الإعلام، لا سيما ذلك الاجتماعي الذي قد لا تضبطه قواعد وأصول. في المقابل فإن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اضطر أيضاً في 9 شباط (فبراير) الجاري للتدخل لنفي وجود خلافات بين مصر والسعودية، محذّراً من الانسياق وراء ما وصفها بالمواقع المغرضة التي تريد “إثارة فتنة بيننا وبين الأشقاء”، ومن تداول “مواضيع من دون أساس أو خلفية”، ومن الكلام عن “أمور قد لا يكون لها أساس من الصحة”.
ولو أكملنا استطلاع المواقف والتصريحات الصادرة عن المنابر الرسمية لهذه العاصمة أو تلك لوجدنا تأكيداً على انتفاء أي خلافات وتمسّك بالأخوّة والصداقة والتحالف… إلخ. وعلى هذا تبدو مهمة “الرسمي” هي تصويب “مزاعم” ما هو غير رسمي. لكن في ما يصدر من مواقف، ومن مستويات عليا، ما يساهم في الاعتراف بهذا التباين وذاك الخلاف، ما يفتح المجال أمام سيل من التحليلات والاستنتاجات لتفسير الفعل من خلال ردّ الفعل.
والحال أن الخلاف هو أصل في العلاقات بين الدول حتى التي تنتمي إلى مجموعات سياسية واحدة أو تنخرط ضمن تحالفات متقدمة. وحريّ الاعتراف بأن الدول مهما اتّسقت رؤاها واجتمعت أهدافها تبقى متعددة في مصالحها وحساباتها متباينة في ثقافتها السياسية وحكايات مسارها وصيرورتها. وربما أن في الاعتراف بالخلاف تأكيداً للصداقة وليس نفياً لها، وفي شفافية التباينات ما يخرجها من تناول العامة ويبقيها في موقعها الطبيعي داخل المؤسسات المتخصصة.
والأمر لا ينكر على الإعلام دوره المهني المطلوب في تداول ومعالجة كل القضايا المطروحة. بل إن هذا الإعلام جزء من أدوات الحوار والتفكير الجماعي لمعالجة الخلافات بين الدول وترتيب التعامل معها. فالخلاف ليس إثماً أو حراماً في تماسّ المصالح والأجندات. غير أن سوء إدارة هذه الخلافات هو الخطيئة التي وجب تجنبها.
وإذا ما كان مطلوباً دائماً تدوير زوايا التنافر والاهتداء إلى التسويات بين الخصوم وحتى الأعداء، فما بالك بتلك التي تشهدها علاقات من خبروا بالتجربة والحاجة والإرادة الانتماء إلى تيار فكري سياسي إقليمي متناغم خلال العقود الأخيرة.
وما صدر عن صحافيين وتناول بحدّة خلافات مع هذه الدولة أو تلك، يعبّر عن تناقض في الرؤى أو تباين في التطلّعات، حتى إن جرى سحب هذا المقال أو تمّ اعتذار كاتب أو أصدر “أولياء الأمر” مواقف تنفي السوء وتؤكد دوام الخير.
وإذا ما كان مطلوباً مما قيل توجيه رسائل مقصودة أو تسرّبت عن غير قصد، فإن الأمر بات عرفاً وقاعدة خصوصاً حين توحي وسائط التواصل الاجتماعي بأمزجة يتجنب الإعلام التقليدي لا سيما شبه الرسمي البوح بها.
تظهر التباينات داخل دول الاتحاد الأوروبي وقد ترقى إلى مستوى الخلاف. تعبّر البيانات والتصريحات الرسمية عن مواطن الخلل. تنشر الصحف وتسهب في الشرح والتفسير والاستشراف.
لكن الإعلام الاجتماعي بمعناه الشعبي يبقى غائباً غير مكترث بأجندات الكبار. شيء من هذه الخلافات دار بين فرنسا وإيطاليا في مرحلة سابقة وبين فرنسا وألمانيا بين الفينة والأخرى وبين بولندا وألمانيا بشكل حاد مؤخراً.
أكثر من ذلك. وصلت الخلافات إلى حدود غرائبية في علاقات الولايات المتحدة من جهة مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من جهة ثانية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. لم يكن الأمر ضمنياً أو موارباً، بل فجاً مباشراً، عُبر عنه من كل الأطراف. حتى أن وعد الرئيس الحالي جو بايدن برأب الصدع بين الحلفاء منذ أن كان مرشحاً للمنصب هو اعتراف رسمي كامل بأن هناك خلافات واضحة لهذا ومشروعة لذاك وجب العمل على إزالتها من غير أي طموح بإزالتها نهائياً.
وإذا ما نجح بايدن في تصويب علاقات بلاده مع أوروبا وحلف الـ”ناتو” حين جال عليهما في كورنوال (في بريطانيا) وبروكسيل في حزيران (يونيو) 2021، إلا أن ما حققه الرئيس الأميركي مع أوروبا لم يمنع من اندلاع خلافات جديدة بين الطرفين تهدد بحرب تجارية بسبب قانون بايدن للحدّ من التضخم في الولايات المتحدة الذي يتضمن تقديمات تمييزية لصناعات أميركية تهدد الصناعات في أوروبا.
لمصر برامج وخطط وحاجات وهي تشكو من ضغوط اقتصادية لم تعد سراً في الإمكان مواراته. وللسعودية والإمارات وبقية دول الخليج برامج ومصالح وأجندات وسياسات داخلية وخارجية تتطلب خيارات ظاهرة واضحة ترقى إلى مستوى التحولّات الجريئة المفاجئة.
والواضح أيضاً أن للدول الست داخل مجلس التعاون الخليجي توجّهات متعددة تتباين أحياناً وتتناقض على نحو دراماتيكي في أحيان أخرى على نحو استدعى توافقاً جماعياً تمّ إنضاجه في قمة العلا في 5 كانون الثاني (يناير) 2021. وعلى هذا فإن الإقرار بالخلاف هو سبيل لتجاوزه وهو في الوقت عينه اعتراف بأن المصالح تتصادم وحريّ إعادة قراءتها من منظار الآخر أيضاً ومصالحه.
لم تكن “الأمة العربية” بالمفهوم الايديولوجي إلا مشهدَ تضادٍّ ونفور ومنافسة وخلاف في مراحل الحرب الباردة. وقليلاً ما اجتمعت كلمة جامعة الدول العربية على موقف واحد من قضايا أساسية وإن كانت بيانات قممها تبرز الوفاق حول المسلّمات وتجهد في إخراج الديباجات بشأن التباين في قضايا أخرى.
يكفي تأمل المشهد العام لنستنتج خريطة وجهات النظر المتباينة في الموقف من إيران وتركيا واليمن وسوريا وليبيا، واللائحة تطول. وحتى حين تنعقد القمم الشاملة أو الجزئية فإن جرد لائحة الحاضرين ومستواهم والتدقيق في لائحة الغائبين لطالما كانت مؤشرات لاستنتاج أزمات بين الدول وتوتر في علاقاتها.
نعم هناك خلافات وهذا طبيعي وعادي وسيكون غريباً مقلقاً وعجائبياً أن لا تعرف علاقات الدول إلا الوفاق والانسجام. ونفيُ هذه الخلافات، وإن كان يعبّر عن إرادات سامية لتبريدها وتجنّب تفاقمها، لكنه مع ذلك لا يخفيها ولا يعالجها. وإذا ما كنا نتأمل كل يوم تغيّر هذا العالم وتسارع تحوّلاته وغموضها، فإنه حريّ أيضاً أن لا نترك للرسائل المنضبطة داخل قوالب يزعم أنها غير منضبطة أن تؤشّر بتقليدية ورتابة إلى وجود خلافات.
تتردد مقولة أحمد لطفي السيد: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية”. أما إذا كانت كل العواصم حريصة على تأكيد دوام الودّ والحرص على عدم إفساده، فوجب أن يكون استنتاج الخلافات بين الدول شفافاً من أصول وقواعد العلاقات ومن سمات وفضائل ما يفترض أنها أخوية حليفة.