على خلفية هروب الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي، التي تُعد أحد وجوه الحراك الشعبي في الجزائر، إلى فرنسا، بعدما وضعتها السلطات الجزائرية على لائحة الممنوعين من السفر، يبدو أن قضية بوراوي بدأت تأخذ مسارا غير متوقع، ما ينذر بأزمة جديدة في العلاقات الفرنسية الجزائرية.
عودة العلاقات لسابق عهدها
عادت العلاقات الفرنسية الجزائرية إلى نقطة التأزم مرة أخرى بحيث تجمدت قنوات الإتصال السياسي والدبلوماسي مجدداً، بعد إعلان الجزائر استدعاء سفيرها من باريس للتشاور، وحديث الحكومة الجزائرية عما وصفته بـ”انتهاك للسيادة الوطنية” من قبل فرنسا.
وحسب وسائل إعلام فرنسية، عملت الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي بتنسيق مع ضباط تابعين للمديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي (الذراع الإستخباراتي للجمهورية الفرنسية في الخارج )، على ترتيب خطة مُحبكة للهرب من قبضة النظام الجزائري، حيث كان يواجهها السجن بسبب العديد من المحاكمات والمتابعات، كما صدرت بحقها قرارات قضائية تمنعها من مغادرة التراب الوطني.
وتنظر الجزائر إلى المسألة على كون فرنسا لم تحترم تفاهمات غشت 2022، والتي نصت على بنود تخص في شق خاص التعاون والتنسيق الأمني وتبادل المعلومات في كنف إحترام سيادة كل طرف.
وهذا ما أكده تقرير لوكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، التي إتهمت المخابرات الفرنسية بالسعي لإحداث القطيعة في العلاقات الجزائرية الفرنسية، مؤكدة انه من المؤسف رؤية ما تم بناؤه بين رئيسي البلدين لفتح صفحة جديدة ينهار.
وتأتي هذه الأزمة الجديدة في وقت كان الطرفان يحضران عن كثب لزيارة رئيس عبد المجيد تبون في ماي المقبل إلى باريس، مما يعني نسفاً كاملاً لتفاهمات غشت الماضي، وتحييداً لهذه الزيارة التي تبدو مهددة بقوة في حال ما لم يتم إحتواء الأزمة الجديدة، إذ لا يعقل أن يذهب الرئيس الجزائري إلى هناك وسفير البلاد لم يعد إلى منصبه.
أميرة بوراوي
وعُرفت أميرة بوراوي وهي طبيبة نساء، وناشطة حقوقية معروفة بمعارضتها للنظام الجزائري، وسبق أن حكم عليها في قضايا تتعلق بالمس برئاسة الجمهورية بسبب مواقفها السياسية وصدر قرار بمنعها من مغادرة التراب الجزائري.
وفور وصولها إلى فرنسا أكدت الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي أن رحيلها إلى فرنسا عبر تونس ليس هروبا إلى “المنفى” وأنها “ستعود قريبا” وكتبت في تدوينة على فيسبوك “لم أذهب إلى المنفى، فأنا في بلدي هنا، وسأعود قريبا جدا إلى الجزائر”.
وفي تصريح مسجل لها تقول الناشطة أميرة بوراوي ” لم أرغب أبدا في مغادرة الجزائر، هذه بلادي، أرضي. حيث قاتلت، كانت الظروف هي التي أجبرتني على ذلك، أصبح الضغط لا يطاق”.
موقف تونس من الأزمة
إمتدت الأزمة إلى تونس، فحسب جريدة “لوموند” الفرنسية فإن باريس طالبت من تونس مساعدتها في ترحيل الناشطة الجزائرية إلى فرنسا، وقوبل هذا الطلب بالتريث بحكم العلاقة المعقدة بين الرئيس التونسي قيس سعيد والنظام العسكري الجزائري وما لها من “غموض” خصوصا وأن الرئيس قيس سعيد أصبح بيدق في يد “النظام العسكري الجزائر” وهو ما جعل الخارجية الفرنسية تتدخل مباشرة لدى وزير الخارجية التونسية، عثمان الجرندي، الذي مَهَدّ الطريق لأميرة بوراوي بمغادرة التراب التونسي، بداعي أنها تحمل الجنسية الفرنسية، وهو ما سيكلفه لاحقا منصبه فبمجرد وصول الناشطة السياسية الفرنسية بوراوي لباريس حتى أعلن قيس سعيد عن إقالة وزير الخارجية في الوقت الذي لم يستطع فيه الرئيس التونسي أن يهاجم فرنسا الذي ضحى بوزير خارجيته من أجل كسب ودها.
وهكذا بعدما فتحت تونس الباب أمام أميرة بوراوي لمغادرة أرضيها إتجاه فرنسا اختارت الانصياع لأوامر باريس مما يكشف قوة حجم التدخل الفرنسي المتغلغل في الشأن الداخلي التونسي، إذ إن إشهار الجنسية الفرنسية أضحى بمثابة حصانة دبلوماسية وسببا من أسباب سقوط المتابعات القضائية.
وفي نفس الوقت الموقف التونسي من القضية جعلها تأخد أبعادا كبيرة وحجم سياسي وإعلامي واسع، إذ تداخلت فيها ثلاث دول (فرنسا الجزائر تونس) على الرغم من أن الجزائر الآن لا يبدو بأنها توجه أصابع الإتهام بشكل مباشر للطرف التونسي، لكن تحت الطاولة وفي الخفاء هناك غضب جزائري مما وقع في تونس، خصوصا وأن هناك تعاون مسبق بين الجانبين في تسليم المعارضين.
البعد الحقوقي للأزمة بين الجزائر وفرنسا
يعد نفي الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي مظهر من بين العديد من مظاهر القمع المتزايد في الجزائر ضد النشطاء الحقوقيون ومناضلي الحراك الشعبي، التي اجتاحت البلاد بشكل محموم في عامي 2019 و 2020، والتي كانت السيدة بوراوي جزءا منها.
أزمة بوراوي لم تنحصر على مستوى الخلاف الجزائري الفرنسي، بل سلطت الأضواء على منسوب الاستبداد الجزائري الذي بلغ منتهاه مع ملاحقة كل الناشطين في الجزائر، والذين يعانون بحسب تقارير حقوقية وإنسانية من التضييق على حرية التعبير، والاعتقالات غير المبررة وتحت تُهم جاهزة كما وصفت، لتعيد التذكير بمحاولات ناشطين كُثر الخروج من البلاد بالطريقة ذاتها، أو في غفلة من السلطات، بسبب ما يعتبرونه تضييقا سياسيا عليهم من السلطة، بالإضافة إلى منعهم من السفر وبسبب الضغوط القضائية المرتبطة بمواقفهم السياسية مما دفع بالنظام إلى تركيز الجهود على لجم كل الأصوات المخالفة لهوى الجنرالات.
وفي تصريح لجريدة “لوموند” الفرنسية، وصف الأكاديمي الجزائري “مولود بومغار” النظام الجزائري بأنه “نظام سلطوي أكثر من ذي قبل” وتابع ذلك بالقول “لقد دخلنا اليوم مرحلة ديكتاتورية لعدة أسباب: التشكيك في التعددية والاستغلال السياسي لتهم الإرهاب، على نطاق واسع للغاية، والسياق السياسي الذي يتسم بالعسكرة..”.
وأشار مولود بومغار إلى تزايد عسكرة النظام علانية لووسائل الإعلام المستقلة، قائلا إن ” كما أننا نشهد ضغوطًا شديدة جدًا تمارس على وسائل الإعلام المستقلة فبالنسبة للنظام يجب أن تخضع وسائل الإعلام الحرة هذه أو تختفي”.
بالرغم من السياقات المختلفة للأزمة الجزائرية مع فرنسا، إلا أن البعض يحاول ربطها بالأزمة المغربية الفرنسية خصوصا مع التزامن الحاصل بين سحب البلدين سفريهما، سواء بطريقة معلنة في حالة الجزائر، أو بطريقة أقل حدة في الحالة المغربية وبالتالي شغور التمثيلية الدبلوماسية للبلدين في باريس.
عموما بينت الأزمة الفرنسية الجزائرية للعالم الخروقات السافرة لحقوق الإنسان في الجزائر والتي يرتكبها النظام العسكري ضد نشطاء حقوقيون وسياسيون وإعلاميين ويعمل جاهدا في إيهام باقي الشعب أن الجزائر الجديدة صارت واقعاً، وأن البلد على أبواب إقلاع إقتصادي جديد، الأمر الذي يثير الذهول والسخرية.
بينما الحقيقة هي أن ركائزَ منظومةِ الحكم لم يتغير منها شيء بعد الحراك الشعبي الذي عرفته البلاد والذي رفع خلاله شعارات من قبيل “الجزائر دولة مدنية لا عسكرية” “لا رئيس بالوكالة..” ، غير أنه لا شيء تغير فالزمرة الفاسدةَ التي كانت تحكم قبل مجيء تبون رئيساً للجزائر هي نفسها التي تحكم الآن ولكن بوجوه جديد.