
تقول “جينيفرمايكل هيكت” فى مقدمة كتابها “تاريخ الشك”: “مثلما هو الإيمان يتخذ الشك كثيرا من الأشكال المتباينة من شكوكية الأقدمين إلى التجريبية العلمية الحديثة ومن الشك بآلهة متعددة إلى الشك بإله واحد وإلى شك يعيد بعث الإيمان ويحييه وشك هوكفرلاريب فيه، هناك أيضا احتفاءات بحالة الشك نفسها، من التشكك السقراطى إلى كوانات الزن، هناك أيضا مشهد الضجر من الحياة وهمهمة العالم الذاهلة وصراخ ضحايا الظلم، ومع كل هذا التباين إستعان شكاك كل قرن بطروحات من سبقهم لكن فى أزمنة أخرى قصة الشك تتشكل وتجرى بالطريقة نفسها المتقطعة والخلاقة التى يجرى بها تاريخ الإيمان”. [1] ص9
إذن للشك تاريخ مثلما الإيمان ووفقا لهيكيت فإن تاريخ الشك ليس تاريخا لإنكارالإله فحسب بل إنه تاريخ أولئك الذين تشبثوا بالمسائل الدينية وإكتشفوا وجود إجابات أخرى فالشك ليس رفض للإيمان بقدرما هو محاولة للتفسير.
أولياء الشك صوت الضمير داخل العقل البشرى على مر العصور
مقالنا هذه المرة هو سرد لرحلة عقول قلقة مؤرقة نافرة عقول أتعبها التساؤل الرافض للتسليم الجمعي بالمنظومة اللاهوتية، سوف نتناول سيرة أولياء الشك سننصت للبواكير الأولى لصوت الضمير داخل العقل البشرى فكان أول شك فى التاريخ منذ حوالى 2600عام، وذلك يجعل الشك أقدم من معظم ضروب الإيمان ،يعتبر العصر الهلينى البدايات الأولى لبزوغ الشك وإذا أردنا الدقة فإن الأمر يرجع إلى نهايات العصر الكلاسيكي.
تحول الفلسفة من الطبيعيات إلى الإنسان
فى النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد، كان جل إهتمام الفلاسفة لتفسير الكون من خلال إمعان النظر فيه بدلا من الإعتماد على المنقول، ومعظم إهتمامات الفلاسفة كان على الطبيعة وبالتالي، فإن مولد الفلسفة يعتبر فى حد ذاته أحد منابت الشك وفقا لرؤية هيكيت فى كتابها الموسوعى “تاريخ الشك”. [2] ص35
أبيقور الشكاك الأعظم
عندما نبحث عن الشك فى رفات القدامى سنجد أبيقور الشكاك الأعظم الذى يرى أنه بإمكان البشر، أن يكونوا فاضلين، مشيرا إلى أن العقبات التى تقف فى وجه السعادة هى الخوف من الموت، خوف الآلهة، خوف الألم، أبيقورتعامل مع خوف الموت بالدفاع عن فكرة أن الموت هو نوم لا واع بالكامل، فالموت ليس مشكلة لأننا حين نكون أحياء لا نموت وحين نموت لا نعرف أننا متنا لذلك لا من شىء نقلق بشأنه.
بهذا الطرح أراد أبيقور تحريرنا ليس فقط من الخوف من غضب الآلهة بل من الخوف من الضرورة الكونية ومن القضاء والقدر.
يقول أبيقور: “هناك بعض الأمور التى تحدث فى الحياة كيفما اتفق ويحدث بعضها الأخر وفق الضرورة لكن البشر يمتلكون ضمن هذا الوضع إرادة حرة ما من تراتبية قيم خارج عقل الإنسان، يرى أن الذرات تتلاقى بطريقة منظمة وغير منظمة بمحض الصدفة لاشىء يوجهها نهائيا فى أثناء التجسدات المختلفة ولا شىء يحاول بغائية مساعدتنا أوعرقلة دربنا لم يخلق الآلهة العالم وليس العالم مخلوقالأجلنا يمكننا التمتع به بسلام “. [3] ص88
صوت الشك لم يتوقف عند الأبيقورية بل واصل مشاكسة العقل البشرى ليظهر فى الشكوكية فبدأ مع بيرون الإيلى الذى عاش 365،275 ق.م
بيرون لم يترك شىء مكتوب، درس أفكار الفلاسفة وتوصل إلى أن أى جوهر هو مادة الكون الأساسية، وأعتقد أنه لا يمكن معرفة أى شىء لأنه يمكن تأكيد النقيض بالمعقولية، كما أن الأحاسيس والعقول تقدم معلومات زائفة هزيلة لذلك ينبغى أن نحاول ألا نتخذ آراء ما دام لا نعرف شىء على وجه اليقين”. [4] ص9
من خلال الإنتقادات الشديدة للتأليهية التى استحضارتها الأبيقورية والشكوكية دخل العقل اليونانى مرحلة تكثيف شديدة فلم يعد يقتنع ببساطة العقل الجمعى وسذاجة علاقتة بالآلهة، وبدأت الحياة الفكرية والروحية فى بلاد اليونان تتطور تطورا هائلا فى القرن الخامس قبل الميلاد وبدأت المعتقدات الدينية تفقد مالها من ثقة ونفوذ عند الطبقة المثقفة بأسرها، واتسع الإنكار عند الكثيرين حتى شمل وجود الآلهة أنفسهم فلم يعودوا بهم يؤمنون، بالإضافة إلى أن مطالب الحياة من الناحية الأخلاقية اتسعت حتى أصبحت القواعد الأخلاقية التى وضعها الحكماء ساذجة غير كافية لإشباع الحاجات الجديدة، ومع التغيرات الجديدة فى تركيب الدولة كل ذلك كانت عوامل أدت التى ظهور السوفسطائية.
السوفسطائية وبزوغ التنوير
مع ظهور السوفسطائية هنا يجب أن نقف طويلا لنرد الإعتبارلهذه الحركة يقول المفكر السورى الكبير “حامد خليل”، لم يحدث فى تاريخ الفكر الفلسفي أن طمست معالم حركة فلسفية، وشوهت أفكارها مثلما حدث للحركة السفسطائية لكن ذلك ليس بالأمر السهل الذى يدعوا إلى الإستغراب فالسفسطائية لم تكن مجرد حركة فلسفية يقتصرهدفها على تفسير العالم فحسب.
إنما كانت حركة صاحبة قضية ومناضلة وداعية إلى تغيير أسس القهر الإجتماعي، وما يترتب على ذلك من تغييرفى قيم الناس وتقاليدهم وعقائدهم التى تحول دون ارتقائهم العقلى والبدنى على السواء السوفسطائية كانت تمثل حركة تحدى لأشرس تشكيلة اجتماعية امعانا فى تكريس عبودية الإنسان وسلبه قوى تفتحه وإبداعه التى يكون بها إنسان بحق”. [5] ص199
يقول الدكتور عبد الرحمن بدوى فى كتابه ربيع الفكر اليونانى: “السوفسطائية حركة هامة فى تاريخ الفكر الإنسانى لابد من إعادة النظر فى دراستها ورد الإعتبار لهذه الحركة التى تمثل البواكير الأولى لبزوغ التنويرلم تكن حركةهدم بغرض الهدم إنما كانت حركة هدم لبناء جديد لأنها كانت تعبرعن روح العصر”.
مع السوفسطائية انتقلت الفلسفة اليونانية من الطبيعة إلى الإنسان الذى أصبح محور كل شىء لذلك فهذه الخطوة، تمثل منعطفا مهم فى تاريخ الفلسفة اليونانية لأنها نقلتها من السطحية إلى العمق ومن البساطة للتعقيد، لذلك فالسوفسطائية أثرت تأثير كبير جداعلى معظم الفلسفات الشكية اللاحقة فالفكرالسوفسطائى أوقد التفكيرالشكي الممنهج الذى سار عليه الفلاسفة فى طريقهم لمعرفة المعارف المختلفة”.
لدرجة أن أفلاطون فى منهجه المعرفي قد أصابه الوث السفسطائى كما اصيب به أستاذه سقراط ويذكر ذلك راسل فى كتابه تاريخ الفلسفة الغربية مشيرا إلى الإزدواجية التى تميزبها أفلاطون ففى الوقت الذى يشن هجوما على السوفسطائية نجده ينتهج التشكيك فى القضايا فى محاوراته فلا يحسم القضايا بل يتركها عالقة دون أحكام. [ 6] 386 ص.
مماسبق نجد مع كل هؤلاء الشكاك اليونانيين الذين كتب عنهم هزيود وهوميروس منذ زمن طويل نجد عالم مخضب بالشك يحمل فى ثناياه جيوب الإيمان والكفر معا لذلك تقول هيكيت: “حين جعل الفلاسفة الآلهة أو الله عرضة للشك وفق سرد عقلاني وعلم طبيعى كانوايسعون إلى بديل فلسفي، لم يحاربوا الدافع الدينى كانوا يعيدون تصور المقدس فحسب بحيث يبدو حقيقي.
وظلوا على إعتقادهم أنه لا يمكن تحقيق حياةصالحة إلا من خلال تأمل الحقيقة بعمق وإجلال لأن مأزق البشرية الفعلى أكثر تعقيدا من أن يدركه العقل “. [7 ] ص98
لنقف هنا ونتناول فى مقالنا التالى قصة الحانوكا اليهودية شكاك اليهود أو مرتدوا اليهود الذين شكوا فى الله ووصايا موسى بل وصل الحال إلى تكريس الهيكل الثانى هيكل سليمان لزيوس، وذلك من خلال عرض لكتاب “تاريخ الشك” لجينيفر هيكيت .
مصادر :
1- كتاب “تاريخ الشك ” جينيفر مايكل هيكيت – ترجمة الدكتور عماد شيحه – المركز القومى للترجمة ط اولى 2014 ص9
2- نفس المصدر السابق ص35
3- نفس المصدر السابق ص88
4- نفس المصدر السابق ص 94
5- مجلة دراسات إنسانية وإجتماعية – جامعة وهران المجلد 411 – نزعة التنوير عند السوفسطائيين –دكتور زورقى كمال كلية العلوم الإجتماعية ص199
6- كتاب ” ربيع الفكر الفلسفى ” الدكتور عبد الرحمن بدوى – مكتبة النهضة المصرية ط 3 ص 386
7- نفس المصدر رقم 1 ص 98