السيرة الذاتية:
الاسم بالكامل: فاطمة سنوسي عمر سنوسي. الميلاد: خمسينيات القرن الماضي بمدينة الحصاحيصا.
التخصص الجامعي: تاريخ، لغة عربية.
المؤهلات الدراسية: بكالوريوس آداب، جامعة الخرطوم، فترات دراسية متفرقة داخليًّا وخارجيًّا في مجال الإعلام.
الوظائف: إعلامية، محررة إذاعية، رئيس القسم الثقافي للإذاعات الموجهة والمتخصصة، الإذاعة السودانية. صحفية، مترجمة
النشاطات الثقافية والمجتمعية: نشاط ثقافي واسع داخل جامعة الخرطوم ثم خارجها بعد التخرج، نشاط ثقافي في مدينة الحصاحيصا. نشاط اجتماعي داخل جامعة الخرطوم، المشاركة في نشاطات جمعية (تطوير الريف) بجامعة الخرطوم. الإسهام في العمل الطوعي والتوعوي. العمل في المنظمات الخيرية. نائب رئيس جمعية (تكاتُف) لذوي الاحتياجات الخاصة.
الكتب المُترجَمة التي تم إصدارها: كتاب الصراعات أفضل السبل لحلها، كتاب فيتامين ج.
الكتب المترجمة: كتاب البيئة الصحراوية في (أبو ظبي)، كتاب تاريخ الأدب الأوربي، كتاب تفسير الأحلام
في بعض الأحيان النادرة الكاتب الهاوي الموهوب يكتب بفطرته، فيما بعد يجد أن ما كتبه بجودة واحترافية، أصبحت له مسميات وقواعد وأسس في تاريخ الكتابات الأدبية، هل كانت فاطمة السنوسي الفتاة التي تهوى الكتابة بشغف منذ الصغر وتمتلك الموهبة؟
لكل شيء بداية. كل ضرب من ضروب الأدب هو مُستحدَث في وقت ما. قد تسبق الكتابة المسميات والقواعد والأطر. الكاتب لا يضع نفسه داخل إطار، إنما يكتب ما يُعبِّر عنه وتُملِيه عليه قريحته وموهبته. قد يكون ما كتبه مطروقًا وقد لا يكون. إن لم يكُن مطروقًا يتم التنظير له وتُستنبَط منه الأسس والقواعد، ويُصنَّف كأحد الأُطُر الأدبية. هذا ما حدث بالنسبة للقصة القصيرة جدًّا، والتي بدأتُ في نشرها في منتصف الثمانينيات تحت مسمى (قصة قصيرة جدًّا).
كنت أكتب منذ الصغر وقد تعددت مجالات محاولاتي الأدبية وأنا أتلمس طريقي للتعبير عن نفسي، إلى أن استقر بي الأمر أخيرًا إلى كتابة القصة القصيرة جدًّا بملامح وفنيات جديدة أثارت كثيرًا من اللغط في الأوساط الأدبية والنقدية حينها ما بين القبول والرفض، ولو أنها كانت موجودة بالفعل بنفس ملامحها لما حركت الأقلام مدحًا وقدحًا.
وقد تحدثت بمجرد أن بدأت في نشرها عن فنياتها وضوابطها في العديد من اللقاءات الصحفية في السودان وخارجه. صمدت القصة ووقفت على قدميها وانتشرت في كل العالم العربي. بدأ الاهتمام بها بعدلعام 1986 من قِبَل النقاد والمهتمين؛ فصارت فنًّا له قواعد وأسس.
الوسط الزمكاني في تكوين مخزون الكاتب المعرفي، لتُحدِّثنا سيدة القصة القصيرة جداً عن الوالد سنوسي عمر سنوسي بصفته داعمًا مؤمنًا بأهمية تعليم البنت، ودور جمعية (تبادُل الكتب) بالحصاحيصا لفاطمة السنوسي وإنسان المنطقة؟
الميلاد والنشأة كانت بمدينة الحصاحيصا، حي الحلة الجديدة، حيث منزل الأسرة المطل على النيل الأزرق. الموقع الجغرافي لمنزلنا كان له الأثر الكبير في تكوين الشخصية وتغذية الوجدان بجماليات ومعارف عديدة.
نشأت في أسرة متماسكة متحابة لوالدة حنون تبذل الحب بلا حدود (عليها الرحمة)، ووالد مستنير واسع المعرفة والحكمة، محب لأبنائه وأسرته. كان لينًا في حسم، حاسمًا في لين مع أطفاله. أذكر أننا كنا في طفولتنا نلقى منه دعمًا معنويًّا يمتص به الرعب الذي يصاحب خلع أسنان الطفولة، ثم نتلقى الحوافز بعدها؛ فتعلمنا الصبر والجَلد، ثم صرنا نتلقى حافزًا أكبر عند التفوق في الامتحانات المدرسية؛ فتعلمنا الطموح. لا يتهاون في أمر الدراسة والتعليم؛ فاشتهرت أسرته بالتفوق الدراسي.
الوالد (عليه رحمة الله) نصيرًا للمرأة بكل المقاييس. كان محبًّا للتعليم، داعيًا وداعمًا له، وبخاصة تعليم البنات؛ فقد دخل في تحدٍّ مع مفاهيم المجتمع السائدة آنذاك، وانتصر عليها بتعليم بناته وبنات الآخرين. نحن نتحدث عن زمان بعيد، الحصاحيصا منطقة وعي وعلم وتفوُّق. انتشر فيها التعليم بعد ذلك بصورة كبيرة، وهناك العديد من الأسر التي اشتُهِرت لاحقًا بالتفوق العلمي والأكاديمي، منها على سبيل المثال: أسرة الحاج جعفر عمر بالحلة الجديدة، أسرة الحاج عبد القادر أحمد بابكر من الحي الشرقي والد دكتور كمال عبد القادر استشاري النساء والتوليد ودكتور حسن وإخوتهم، والذين كان ولا يزال لهم دور كبير وفاعل في ترقية وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية لخدمة إنسان المنطقة. هناك أيضًا أسرة المقدم في الحي الأوسط، أسرة أب كريق بالامتداد، وقد اشتُهِرت بتفوق ونبوغ بناتها ومن هذه الأسرة أيضًا دكتور محمد عبد العزيز وأخواه دكتور حسن ودكتور عمر عبد العزيز.
أسرة محجوب قوليب بالحلة الجديدة، ومنها دكتور سلام (عليه الرحمة) ودكتور علام. أسرة كرار، ومنها الصحفي الأديب هاشم كرار، أسرة محمد رحمة الله، ومنها ابنه الشاعر عبد المنعم محمد رحمة الله، أسرة المنصوري ومنها طبيب الاسنان دكتور علي عبد الوهاب المنصوري.. رفدت الحصاحيصا المجتمع السوداني والعربي والدولي بالعديد من الكفاءات في شتى المجالات.
ومن أسرة سنوسي عمر سنوسي دكتور جمال الطيب العبيد أخصائي جراحة العظام، وعبد الحكم الطيب العبيد استشاري طب الطوارئ، وياسر تاج السر المبارك ترجمة فورية. وغيرهم من الأحفاد النابغين.. هذه فقط أمثلة لبعض الأسر والمدينة زاخرة بالنوابغ والمتعلمين المتفوقين.
الحاج سنوسي عمر سنوسي رجل الحصاحيصا وحكيمها الذي يعمل بالتجارة، جسَّد لنا المعنى الأمثل لكيف تكون رجلًا مؤثرًا ومغيِّرًا في زمان يصعب التغيير فيه؟
كان الوالد متحمسا جدا لنشر الوعي والتعليم في محيطه. سعى لإنشاء مدرسة ابتدائية للبنات في الحي حتى لا تضطر التلميذات الصغيرات في الحي لعبور مساحة كبيرة خالية من المباني تفصل بين الحي ومدرسة الحصاحيصا الشرقية كما كنا نفعل. نجح في استخراج تصريح بإنشاء المدرسة على أن تكون بالعون الذاتي وكان في معيته صديقه المقرب العم الحبوب ابراهيم. صاحب تصريح المدرسة تصريح بناء مركز صحي بالحي ونادي رياضي ثقافي اجتماعي. تكاتف رجال الحي جميعهم من كبار السن وجابوا المدن والقرى يجمعون التبرعات إلى أن رأت هذه المنشآت النور وما زالت شامخة تقدم العلم والوعي والرعاية الصحية.
تأسست مدرسة ذو النون للبنات في العام1969. تأسس المركز الصحي في العام 1970. سبق ذلك تأسيس نادي الشبيبة الرياضي الثقافي الاجتماعي.
بعد سنوات طويلة أقام اهل الحي حفل تكريم كبير لهؤلاء الرجال الأفذاذ. ما زلنا نحتفظ بوشاح التكريم وشهادة تقديرية للوالد عليه رحمة الله.
لم تقتصر رعايته للتعليم على بناته فقط بل كان يشجع بنات الحي ويناقش الآباء في أمر تعليم بناتهم. تحفظ له الكثير من الأسر هذا الجميل.
أسرة الحاج سنوسي عمر السنوسي لها دور عظيم وإنساني في تعليم إنسان المنطقة، تحدثنا عن الوالد (عليه الرحمة)، حدِّثينا عن الروضة مبادرة التعليم قبل المدرسي المجانية من قبل شقيقاتك عام 1955 وأثرها في حب التعلم عند إنسان المنطقة.
بدأ وعيي بحب والدي للتعليم ودوره في نشره وأنا طفلة صغيرة؛ إذ أنشأ روضة مجانية في منزلنا للأطفال من الجنسين في منتصف الخمسينيات؛ حتى لا يقضوا النهار الحار لعبًا في الشارع. تقوم أخواتي في الإجازة الصيفية بتعليم أطفال الحي ومراجعة الدروس لمَن دخل منهم المدرسة.
كنت أنا ومعظم أفراد مجموعة التبادل فيما بعد من أطفال هذه الروضة؛ نظرًا لتقارُب السن. كانت هذه نواة حببت أخواتي في امتهان مهنة التدريس فيما بعد، وقدَّمن خدمات جليلة في مجال التعليم.
إسهام الأسرة في نشر الوعي في ذلك الزمن كان بدخول مجال العمل العام. تم تكوين أول اتحاد نسائي بعد ثورة أكتوبر 1964في المدينة بواسطة شقيقتي سعاد سنوسي، وكانت رئيسة الاتحاد، وعضوية معلمات المدرسة المتوسطة.
ثم كوَّنت لجانًا فرعية في كل الأحياء من معلمات المدارس الابتدائية واستقطاب كل مَن نالت قدرًا من التعليم واستقطاب الشباب والصبية والصبايا لتنفيذ بعض النشاطات. كان نشاطًا ملحوظًا وكبيرًا غيَّر الكثير من المفاهيم والعادات الضارة عند النساء.
لم تكُن عضوات الاتحاد النسائي ينتمين لأي اتجاه سياسي، بل كان الهدف المشترك هو ترقية إنسان المنطقة ونشر الوعي بين النساء.
أُقيمت الندوات التثقيفية والمحاضرات والأسواق الخيرية، ويومًا للنظافة العامة في المدينة؛ إذ كنا ننظف الشوارع بنين وبنات مرة كل أسبوعين. دخلت السياسة معترك العمل العام وحُورِب الاتحاد النسائي؛ فتفكك وانتهى، لكن بعد أن ترك أثرًا كبيرًا في المدينة.
حُورِب الاتحاد وفُكِّك، لكن جمعية (تبادُل الكتب) واصلت نشاطها؟
كانت هذه الجمعية في نطاق جغرافي محدود، هو حي الحلة الجديدة. يتم الحصول على الكتب والمجلات من المكتبات العديدة في سوق الحصاحيصا. فيما بعد قامت مجهودات كبيرة ومتعددة في أوقات مختلفة لإنشاء مكتبة للصغار، وإنشاء مكتبة لاستعارة الكتب. كانت تلك المجهودات على أيدي المعلمين والمعلمات (لهم التقدير).
كنا مجموعة من التلاميذ والتلميذات صغار السن نتبادل كتاباتنا بعد أن نذيلها بأسماء حركية؛ حتى لا يؤثر الاسم على التقييم أو تكون هناك محاباة. ونتداولها فيما بيننا ونُعلِّق عليها ويسبق ذلك تداولنا للكتب والمجلات التي أشبعت عندي النهم للقراءة في تلك السن المبكرة.
عفوًا للمداخلة، لكن استخدام أسماء حركية من مصداقية النقد يُعَد هذا ذكاءً طفوليًّا سابقًا لزمانه؟ هل بإمكانكِ تذكُّر رفيقات الطفولة بأسمائهم الحركية والحقيقية؟
استخدام أسماء حركية ربما كان ذكاءً طفوليًّا كما تفضلتِ. كنا مجموعة نعرف بعضنا البعض في الحي منذ الطفولة، لعبنا معًا وبنينا القباب على رمال شوارع الحي، وتشاجرنا وبيننا كل ما بين الأطفال من مودة ومشكلات. هناك مَن تربطه بالآخر قرابة الرحم، ومَن هو جار قريب، ومَن هو صديق، ومَن بينه وبين الآخر مشاحنات لأي سبب، خاصةً الأولاد؛ لذلك نبعت فكرة أن تكون الأسماء حركية حتى لا تؤثر على التقييم. لا أذكر الأسماء الحركية، وقد نسيت اسمي الحركي تمامًا. لم نكُن نفكر بأكثر من متعة الكتابة والتعليق عليها في حينها.
بين الطفولة والمراهقة بدأتِ الكتابة، (المرحلة المتوسطة)، لأي أجناس الكتابة الأدبية قادتها موهبتها البكر في ذلك الوقت؟ مع كتابة نموذج لو أمكن. (ذِكر التاريخ، واسم المدرسة، وأسماء مَن أشار أو لفت الانتباه).
بدأت بذرة الكتابة تزدهر عندي وأنا بعد طفلة في مدرسة الحصاحيصا الشرقية الابتدائية، وكنت أسمع من الجميع أنني «شاطرة في الإنشاء». لم أكُن أعرف حينها أن ذلك قد يعني أكثر من بضع درجات أتفوق بها على زميلاتي.
في المرحلة المتوسطة بمدرسة رفاعة الحكومية الوسطى، عرفت متعة أن أكتب موضوعًا خارج كراسة الإنشاء وأن أختار عنوانه ومادته بنفسي. ولجت باب الجمعية الأدبية بنهم شديد، والتي كانت تُقام عصر يوم الاثنين من كل أسبوع. كان المجتمع المدرسي هو المتلقي الأول لبواكير الإنتاج الخاص، والذي تغلب عليه المسحة الطفولية؛ نظرًا للسن المبكرة.
كان ذلك متزامنًا مع نشاطات جمعية التبادل بالحي في الإجازة الصيفية. كان أول مَن لفت انتباهي إلى أن ما أكتبه له قيمة هو الناقد الصغير في مجموعة الحي عثمان علي الشيخ، وكان يأتي من منطقة سنار في الإجازة الصيفية. لا أعرف عنه شيئًا منذ ذلك الحين، وقد لا يذكرني، لكني أحفظ له الجميل. كما أحفظ الجميل لأستاذتي الجميلة علوية محمد الحاج، المشرفة على الجمعية الأدبية في المدرسة الوسطى، وقد وجدت عندها كل الدعم.
إلى جانب الجمعية الأدبية كنت أقوم في المدرسة الوسطى بكتابة جريدة حائطية متنوعة، بها الشعر والقصة والطرفة والموضوع الجاد وغير ذلك من الموضوعات، وكانت تجد قبولًا وإقبالًا من الطالبات. وكنت أفرح كثيرًا بالتعليقات الإيجابية من أستاذي علي محمد خير، وأستاذي أمين صديق التوم، وأستاذتي علوية محمد الحاج. لم أحتفظ بأي قصاصات من تلك المرحلة، ولم أكُن أعرف أهمية الاحتفاظ بها، بل اكتفيت بمتعة كتابتها.
فاطمة الزهراء تخاطب الصحٍف السودانية لنشر ما تكتب، لتُحدِّثنا فاطمة عن تجربة النشر في المرحلة الثانوية باسم مستعار؟
اختيار اسم (الزهراء) لم يكُن فقط لمخاطبة الصحف، إنما كنت أستخدمه أيضًا في محيط المدرسة، ولم يكُن بدافع الخوف أو التخفي. ربما استهواني استخدام اسم حركي؛ كما كنا نفعل في جمعية الحي.
في المدرسة الوسطى كانت الأساليب التربوية في غاية التشدد؛ ربما نظرًا للسن الحرجة. كانت هناك رقابة صارمة على الخطابات، ولا بد أن تكون مفتوحة حين نُودِعها مكتب المعلمات؛ لتتم قراءتها قبل إرسالها. لم أفكر في مراسلة الصحف في ذلك الوقت.
المرحلة الثانوية كانت أكثر انفتاحًا ومرونة، فراسلت الصحف من داخل المدرسة وراسلت الإذاعة السودانية، وأذكر أنه كان برنامجًا للمواهب الأدبية يُشرِف عليه الشاعر محمد سعد دياب، وقد أشاد بمحاولاتي الشعرية، وأطرى على اللغة والمفردات وشجعني كثيرًا. كانت تلك دفعة قوية لي للاستمرار في الكتابة. لم تكُن الأسرة على علم بنشاطي الأدبي، ولم يكُن أبي ليعترض على ذلك، ولو عرف لشجعني على استخدام اسمي الحقيقي.
في المرحلة الثانوية وجدت تشجيعًا من أستاذي عبد الله الفادني وهو أستاذ الرياضيات. لم يُخفِ إعجابه بكتاباتي، وكان يقرأ من دفتري الخاص على الطالبات في بعض الحصص. كما وجدت تشجيعًا من أساتذة اللغة العربية: الأستاذ محمد الأمين أوشي، والأستاذ عبد الله شريف، والأستاذة صفية الشيخ الأمين أستاذة الفنون، وهي امرأة مبدعة فنانة تشكيلية ومهتمة بالموسيقى والأدب، وشاعرة صدر لها ديوان بعنوان (إيحاء).
دور التوجيه والدعم والتشجيع للموهبة لتثبِّت قلمها؟
لم يكُن هناك أي نوع من التوجيه للأسف، وإلا كنت على الأقل احتفظت بكتاباتي. كان هناك تشجيع فقط باستحسان ما أكتب ولا يزيد على ذلك.
التطور السريع من بداية الكتابة في المرحلة المتوسطة لناشرة في الصحف في المرحلة الثانوية، هل لمدينة رفاعة رائدة تعليم البنت دور في ذلك؟
رفاعة بعد موطني الحصاحيصا هي أحب بلاد الدنيا إلى قلبي. أشعر بكثير من الامتنان والعرفان لمدينة رفاعة التي احتضنتني مدارسها، وأنا بعد طفلة صغيرة، ودفعت بي وأنا طالبة ناضجة إلى جامعة الخرطوم.
نسكن داخلية المدرسة، ولا يُسمَح لنا بالخروج إلى المدينة أو الزيارات، ولكن كانت المدرسة جامعة للعديد من الدارسات من مناطق الجزيرة المختلفة. كانت هناك الهلالية، الحصاحيصا، أربجي، الكاملين، المسيد، الحلاوين، بنات الشرفة، بالإضافة إلى بنات القسم الخارجي، وهن بنات رفاعة، وغيرهن. كان لهذا التداخل والتناغم الأثر الكبير في تكوين شخصياتنا. معظم المعلمين والمعلمات كانوا من أبناء رفاعة نفسها، نهلنا العلم على أيديهم، فكان أن تركوا أثرًا مباشرًا لتأثير رفاعة علينا علمًا وسلوكًا وانضباطًا. ما زلت أدين لرفاعة بأي نجاحات أصبتها في حياتي العلمية والأدبية، إلى جانب الأسرة ومجتمع الحصاحيصا الرحب.
رفاعة ومدارسها، داخلياتها وطالباتها محفورة في داخلي، وما زلت أحلم بها في منامي؛ فيعذبني الحنين.
ما اسم الصحيفة السودانية التي كان لها شرف السبق ونشر ما كتبت فاطمة السنوسي؟ وَمن الذين كانوا يعرفون أن الزهراء هي فاطمة السنوسي؟ يا حبذا لو ذكرتِ لنا التاريخ والأسماء؟
لا أذكر صحيفة بعينها. الصحف التي راسلتها لم تكُن تعرف مَن الزهراء، كنت فقط أراسل الملاحق الثقافية في حالات نادرة، أتناول بعض موضوعات الملاحق بالتعليق، مع إرسال نماذج من كتاباتي، وكنت أجد التشجيع. من الأسماء التي رسخت في ذهني في ذلك الوقت: الشاعر صديق المجتبى مُعلِّقًا على بعض كتاباتي.
لم تكُن الصحف متاحة لنا ونحن في الداخلية، ولا أتحصل عليها إلا لمامًا حين كنت أستجدي طالبات القسم الخارجي أن يمدوني بالصحف من منازلهم بعد الفراغ منها. لم أكُن أجد استجابة تروي عطشي للقراءة وأنا حبيسة الداخلية. لكني أقرأ الصحف قديمها وحديثها مرة كل أسبوعين في الحصاحيصا حين نذهب لزيارة أهلنا.
الشغف مؤثرًا على العملية المعرفية والكتابية، وشغف فاطمة الزهراء بكل ما يُكتَب، هل كان لفاطمة نمط قرائي تثقيفي محدد؟
كان الشغف بالقراءة بوجه عام، ولم يكُن هناك انتقاء؛ فذلك ترف مَن تُتاح له الكتب في كل المجالات. أقرأ ما تقع عليه يدي أيًّا كان وأسعى للحصول على غيره. لم يكُن كل ما تقع عليه يدي ممتعًا بالنسبة لي، لكن ليس أمامي خيار غيره. ومن المفارقات أن أختي التي تكبرني كانت مغرمة بالروايات المُترجَمة، وكانت لا تستهويني إطلاقًا، ولا أجد فيها متعة اللغة. المفارقة أنني عملت مُترجِمة!
كنت أشعر بكثير من الامتنان للأخ عثمان محمد السيد الطالب الجامعي آنذاك والمحامي فيما بعد (عليه رحمة الله) وكان شاعرًا. كان جارنا في الحي وتربطنا بأسرته أواصر الصداقة ولا تزال. لقد أتاح لي قراءة العديد من الكتب والدواوين الشعرية، والدخول إلى مكتبته بمنزل أسرته في أي وقت أشاء في عدم وجوده إذا كان بالخرطوم.
قالت فاطمة: «السبعينيات هي سنوات الازدهار الثقافي والأدبي» صاحبتها دراستكِ الآداب بجامعة الخرطوم، لتُحدِّثينا عن هذه الفترة (مجتمع داخلي جامعة الخرطوم، والحياة التقدمية والسياسية في الخرطوم)، مع استصحاب أسماء زملاء دراسة أو مجتمع في هذه الفترة المهمة جدًّا.
تميَّز عقد السبعينيات بالازدهار في كل مجالات الفنون والثقافة والأدب على مستوى العالم. لم يكُن السودان بمعزل عن هذا الازدهار، ومن حُسْن حظي أن التحقت بجامعة الخرطوم في ذلك الوقت، فوجدت مجتمعًا يختلف تمامًا عن المجتمع المدرسي. وجدت الحيوية والانفتاح على الثقافة والأدب والفنون والعلم والنشاط السياسي بمختلف ألوانه.
وجدت نفسي في تناغُم تام مع هذه المتغيرات، فولجت باب النشاط الأدبي والثقافي والسياسي والاجتماعي. كنت عضوًا فاعلًا في جمعية المسرح الجامعي، وجمعية الثقافة الوطنية، وجمعية تطوير الريف السوداني، وجمعية التصوير، بالإضافة إلى الجمعيات الأكاديمية. وجدت في الجامعة شعراء ومسرحيين وتشكيليين أثروا حياتنا الجامعية وأضاءوا ليالي الخرطوم.
أذكر من الشعراء: الشاعر كمال عووضة، والشاعر مأمون الباقر، والشاعر حسن السر، والشاعر مبارك بشير، والشاعر عمر محمود خالد، وغيرهم. كما كانت الجامعة تستقطب للياليها الثقافية والأدبية شعراءها الذين تخرجوا فيها، أمثال: الشاعر محمد عبد الحي، والشاعر علي عبد القيوم، والشاعر كامل عبد الماجد. ومن خارجها: الشاعر عزمي أحمد خليل، والشاعر كمال الجزولي، والشاعر عز الدين هلالي، والشاعر عثمان خالد، والشاعر محجوب شريف، والشاعر عمر الطيب الدوش و وغيرهم.
ميادين الجامعة الرحبة تحتضن حفلات الفنانين محمد الأمين، وأبو عركي البخيت، ووردي، وزيدان إبراهيم، وعبد القادر سالم، وغيرهم.
من أبرز السياسيين الذين سبقونا ووجدناهم يشعلون جذوة النشاط السياسي داخل الجامعة: الخاتم عدلان، ومحجوب عباس، وأحمد علي قوي، وعلى الجانب الآخر أحمد عثمان مكي، وعبد الرحمن عامر، وآخرون.
من زميلات الدراسة والسكن الداخلي الصديقات: إحسان القدال، وأميرة عبيد، وإنصاف عووضة، ونعمات الشامي، وسهام عتيق، وفاطمة أحمدون، ومحاسن زين العابدين، ومحاسن عبد الرحيم، والعز فضل الله، وجواهر سيد أحمد، وهدى حامد، وآمنة حنفي، وعزة خالد، وعفاف سنادة، ونجوى حسن كامل، وأسماء وسعاد الرشيد.
كانت علاقتي قوية جدًّا بالطلاب من رابطة أبناء الحصاحيصا، أذكر منهم: موسى عباس، ومحمد عثمان إدريس، وكمال عبد القادر، وآمنة عوض الله، ونفيسة علي بابكر، وحسن عبد العزيز، وعمر علي جلي، وآخرين. كما كانت لي علاقات واسعة جدًّا بالطلبة والطالبات من كليات الجامعة المختلفة، تربطني بهم نشاطات سياسية أو ثقافية أو اجتماعية.
بدأتِ 1982 كتابة آخر عنقود السرد الأدبي، القصة القصيرة جدًّا، بالولايات المتحدة الأمريكية، هل القصة القصيرة جدًّا هي طريقة ونمط حياة أحبته فاطمة السنوسي؟ (الإحساس بقضايا ملحة مسكوت عنها حينها، الإيجاز في الحديث، السخرية، الانتقاد بأسلوب ساخر بلطف)؟
منذ طفولتي والقلم صديقي، أتلمس به طريق التعبير عن الذات. تعددت مجالات الكتابة عندي في مختلف سنوات العمر إلى أن كتبت القصة القصيرة جدًّا؛ ربما مواكبةً لإيقاع الحياة السريع، وربما لإشباع ميول ذاتية أملتها طبيعتي التي لا تتحمل التفاصيل والإسهاب في الحديث في الحياة العادية. أستمتع جدًّا عندما أحادث شخصًا ذكيًّا؛ فرأيت أن أحادث قارئًا ذكيًّا هو مثلي لا يحب التفاصيل التي تُشعِره بالملل، ويمكنه التوصل إليها بنفسه؛ فكانت القصة القصيرة جدًّا عملًا مشتركًا بيني وبين القارئ.
عام 1986 نُشِرت لكِ أول (ق. ق. ج) بصحيفة السياسة من 82 وحتى 86، لما ظلت القصاصات في مخابئها لأربع سنوات لم تكُن نضجت بعد؟
قبل العام 1982 كنت أعمل محررة إذاعية بالإذاعة السودانية. كان مجالًا رحبًا تنوعت فيه أدوات التعبير عندي، كما تنوعت مجالات البرامج التي كنت أقوم بإعدادها، وقد وجدت نفسي تمامًا في هذا المجال. توليت رئاسة القسم الثقافي بإذاعة صوت الأمة السودانية؛ ما أتاح لي العمل عن قُرْب مع أهل الثقافة والأدب والشعر والمسرح، وكل دروب الفن والثقافة. بنهاية العام 1982 انتقلت للإقامة بالولايات المتحدة الأمريكية، وهناك انشغلت بمجال الترجمة، لكني لم أنسَ دفاتري وقصاصاتي والتعبير عن ذاتي، فكان أن كتبت القصة القصيرة جدًّا. عدت للسودان في العام 1986، وعملت بصحيفة السياسة السودانية، فبدأت النشر بتلك الصحيفة الرحبة.
كان يُشرِف على القسم الثقافي الأستاذ سامي سالم، والأستاذ عيسى الحلو (رحمهما الله)، والأستاذ نبيل غالي امد الله في عمره. دفعت لهما بمجموعة من نصوصي في القصة القصيرة جدًّا، وكانت تُنشَر أسبوعيًّا، ووجدت رواجًا، وأخذت نصيبًا كبيرًا من النقد والتحليل. لا أذكر أول قصة تم نشرها؛ فقد سلَّمت القسم الثقافي مجموعة من النصوص، وكانت تُنشَر تباعًا، منها على سبيل المثال:
في قلب سحابة بعيدة..
حفرا مخبأ لحبهما..
أمطرت السحابة..
انسكب الحب على المدينة.
*************
تحاببنا بصدق..
توحدنا..
سألني صورتي..
فأعطيته المرآة.
الكاتب مرآة مجتمعه، الحبكات الذهنية لأفكار وقضايا تُطرَح من خلالها قضايا مجتمعية وإنسانية، الهموم المجتمعية شكَّلت نصوص الـ(ق. ق. ج) عند فاطمة السنوسي؟
الكاتب هو ابن بيئته ومجتمعه الذي يتفاعل معه ولا بد أن ينعكس ذلك على كتاباته، إلا أن الكاتب لا يكون منغلقًا على مجتمعه فقط، بل يتفاعل مع القضايا الإنسانية بشكل عام، وهو الأكثر قدرة على الإحساس بها والتعبير عنها.
الوطن في دواخلي أينما ذهبت بأفراحه وأتراحه، همومه وقضاياه. ينغمس قلمي في عروقه وتتلون كتاباتي بلون دمائه. وقد عبَّرت في كتاباتي عن قضايا متنوعة ألتقط مادتها من حياة الناس اليومية.
التنوع الموضوعي يخلق النبض للنص والديمومة للكاتب، حدِّثينا عما بين الفكرة والحبكة الذهنية والرسائل المتضمنة في نصوصك الجميلة التالية:
النص الأول:
طفلي الرائع يحبني
يغفر أخطائي
عند الشهيق أغضبته
عند الزفير سامحني
تتنوع موضوعات نصوصي، إلا أن هناك خيطًا يربط بينها جميعًا، وهو الحب بمعناه الأشمل؛ حب الوطن، حب الإنسان لأخيه الإنسان، حب الخير، حب المعاني الإنسانية السامية.
النص الأول:
دعوة للتسامح وصفاء القلوب. استخدمت تعبير الطفل لنقاء قلبه، فالفكرة هنا هي الدعوة للتسامح؛ كما ذكرت، ولا نترك الغل والكره والغضب وكل المشاعر السلبية أن تتغلغل في دواخلنا؛ لذلك استخدمت تعبير الشهيق والزفير كنايةً عن قِصَر المدة الزمنية ما بين الخطأ والمسامحة.
النص الثاني:
قرأت مرة بالصحف إعلانًا
من دائرة الشرطة برصد مكافأة
لمَن يدلهم على رجل يملك إمتاع
العقل والروح والعين والفؤاد
في لحظة واحدة
خنت حبيبي
أرشدتهم إلى مكانه وقبضت الثمن
هذا نص عاطفي أدعو فيه للتمعن في الصفات الإنسانية والاحتفاء بها؛ فالمادة ليس لها وجود في هذا النص، ومَن يملك إمتاع العقل والروح والوجدان؛ فقد ملك مقومات علاقة عاطفية ناجحة تسمو فوق الماديات.
النص الثالث:
أعمل كل أسلحته
امتشق غضبه
خرج للشارع عاري الصدر
ساعداه رمحان ينتصبان عاليًا على جانبيه
أخرج صوته من غمده ملء حنجرته
التحم بالجموع الهادرة
سالت الدماء هنا وهناك
طالته الرصاصة الغادرة
أغمض عينيه
على الأفق رأى بوادر صبح جديد للوطن
رافقته نشوة الانتصار إلى عليائه
هذا النص من وحي الثورة العظيمة، ونحن نرى في كل يوم شهداء شبابًا يرتقون إلى عليائهم، جُوبِهوا بالرصاص، وسالت دماؤهم، ولم تكُن أسلحتهم سوى حناجرهم وهتافاتهم والإيمان بقضيتهم. هذا النص تمجيد للشهداء، نسأل الله أن يتقبلهم أحسن القبول.
اللهم آمين، ويديم على بلادنا الرخاء والأمن. أمتعنا التنوع الموضوعي وطريقة التناول المرتبة بعذوبة واحترافية. لاحظت أن نصوصكِ لا تسبقيها بعنوان؛ كالعادة المتبعة في أساسيات القصة القصيرة جدًّا؟
لا علاقة لنصوصي بعادة متبعة؛ فقد وضعت أساسيات وضوابط نصوصي بنفسي والتزمت بها. هي ليست قصيدة، بل قصة بكل مقومات القصة.
اخترت أن تكون نصوصي بلا عنوان؛ حتى لا أقود القارئ لفكرة معينة، وأنا التي تقول إنه شريك في النص، بل أجعله يعمل ذكائه ويختار العنوان الذي يناسبه بحسب ما يقوده فهمه للنص وبحسب الفكرة الأساسية التي يراها داخل النص.
نصوصي ليس بها أسماء أشخاص أو مكان أو زمان؛ فالقارئ في أي مكان وزمان يجد نفسه في النص ويضع تفاصيله ويتفاعل معه. قد تكون اللغة أحيانًا شاعرية؛ ربما كان ذلك بتأثير خلفيتي في الكتابة إذ كانت محاولاتي الأولى هي كتابة الشعر.
أما وضعها الكتابي الرأسي فلا علاقة له بالشعر، لكن هناك فراغات زمان أو مكان أو أحداث أترك المجال للقارئ لملئها؛ فالجملة عندي لا تنتهي بنقطة لتعقبها الجملة التي تليها في نفس السطر، بل تنتهي في سطر يعقبه فراغ يملؤه القارئ، ثم تحتل الجملة التي تليها السطر التالي، وهكذا.
عام 1961 تُوفِّي إرنست همنغواي، بعد أربع سنوات من موته ظهرت قصته القصيرة جدًّا (للبيع حذاء طفل لم يُلبَس قط)، وتقول الرواية التي لا أحد يدري مدى صحتها إنه دخل في تحدٍّ أن يكتب قصة مكتملة من 6 كلمات. هل يمكننا تقسيم القصة القصيرة جدًّا لقصة لمحة أو برقية، و(ق. ق. ج) من حيث عدد الكلمات؟
هذه المسميات والتقسيمات ربما تنطبق على آخرين بحسب ما يرون أو بحسب التسمية التي تروق لهم. أما أنا فأكتب تحت عنوان (قصة قصيرة جدًّا)، هكذا بدأت وهكذا أستمر.
أنا لا أحبذ أن تكون الكلمات قليلة جدًّا؛ فنظلم بذلك المتلقي، بل لا بد أن يجد المتلقي لغة يستمتع بها. القصة ليست فكرة عارية، لا بد من نسيج لغوي يحتويها ويُكسِبها الجمال. لم أكتب قصة في أقل من ثماني كلمات أو عشر كلمات. أملك المقدرة على أن أكتب بأقل عدد من الكلمات، لكن في رأيي هذا ينتقص من متعة النص من ناحية اللغة ووفرة مفردات مكثفة وبليغة تُمتِع القارئ.
عبارة «وهكذا أستمر» هل هي دعوة وترسيخ للأجيال السردية بالتمسك بالنمط الإبداعي الخاص بهم دون الالتفات لنُظُم وقواعد آرائية وُضِعت بعد أو قبل وضعه لأسس النمط الخاص به. والجيد يبقى مهما يكُن؟
عبارة «هكذا أستمر» قصدت بها تسمية ما أكتب بقصة قصيرة جدًّا، ليس ومضة أو لمحة أو فلاش ولم أقصد المحتوى. المحتوى لا يكون جامدًا والعقل البشري متجدد ومتطور ويمكن أن يُحدِث تغيير للأفضل. بعض نصوصي الآن تختلف قليلًا. لا أتمسك بنمطي الإبداعي بتعنت، لكني أراه الأفضل، أراه الأفضل لي حتى الآن.
الأسلوب الساخر المضغوط (تكثيف، إيجاز، اختزال) يتناسب مع الأجيال المعاصرة التي ديدنها السرعة. أما آن للـ(ق. ق. ج) أن تحتل الساحة التي تنادين لها ومهيئة نفسيًّا لها (الجرأة، السخرية، التهكم، المفارقة، الحكائية، الرمزية، الواقع والمتخيل، المصادفة والحدثية)؟
القصة القصيرة جدًّا انتشرت في كل العالم العربي الآن، ولها كُتاب وقراء، وقد جذبت الأجيال الحديثة التي تمل القراءة المطولة مع إيقاع الحياة السريع ووجود وسائط ووسائل أخرى غير القراءة تأخذ من اهتماماتهم وأوقاتهم.
الأسلوب المضغوط هو الركيزة الأساسية في البناء القصصي في نصوصي، أما المفارقة فهي إحدى السمات التي تعطي النص حيوية ومساحة للترويح، وكما أقول دائمًا هي بصمة خاصة بي اخترتها لنصوصي، ولكل كاتب رؤيته وطريقته في كتابة نصوصه، وأسلوبي ليس ملزمًا لغيري من الكُتاب.
قرأت لرجاء نصًّا تحت مسمى (الصاعقة):
جلست تمشط شعرها، بينما هو قبالتها
يلف سيجارة، يبللها بلعابه ثم يدخنها
لم تمضِ لحظات، حتى ارتج المكان بصراخها
لا لا يأبى، أنا ابنتك مريم.
رأيك في النص أولًا، ثانيًا: هل تحسين بالاطمئنان على الـ(ق. ق. ج) السودانية؟ وما اقتراحاتك من أجل الأفضل؟
هذا نص جميل فيه ذكاء وتفاصيل غير مقروءة يتوصل إليها القارئ بذكائه. الإبداع لا يتوقف والأفضل قادم لا محالة، المهم هو وجود الأساس الذي ستبني عليه الأجيال القادمة وتُضِيف وتُطوِّر وتُغيِّر كيفما شاءت، ولكل إبداع طعم مختلف.
فاطمة السنوسي، رائدة القصة القصيرة جدا في الوطن العربي، حدِّثينا عن الانعكاسات وردود الأفعال الإقليمية العربية عن هذا النمط الكتابي المستحدث لو لديكِ إفادات، واللقاءات التي تمت معكِ من قِبَل الأوساط العربية ،الآن كثير من الأدباء في الوطن العربي يسألون عنكِ؟
أكبر ردود الأفعال وأقواها هي تقبُّل هذا النمط من الكتابة في كل الوطن العربي تقريبًا، وصار له كتاب رفدوا المكتبات بإبداعاتهم في هذا المجال، كما ظهر العديد من الكتب التي استخلصت الضوابط والأسس من نصوصي المنشورة ولقاءاتي الصحفية، ولم تزِد عليها؛ مما يُعَد اعترافًا بهذا النمط الكتابي وقوة تأثيره.
بعد فترة وجيزة من بداية نشري القصة القصيرة جدًّا وانتشارها في الأوساط السودانية، أجرى معي الأستاذ عبد الوهاب أحمد تاج الدين، والذي يعمل في المجمع الثقافي في (أبو ظبي) أجرى معي أول لقاء صحفي حول القصة القصيرة جدًّا لصالح جهة خارج السودان، كان ذلك في العام 1986.
تلا ذلك حوارات صحفية مع الأستاذ علي أبو الريش من صحيفة الاتحاد الظبيانية، ولقاء مع صحيفة الخليج، ثم لقاء مع صحيفة الوحدة أجراه الأستاذ جعفر محمد أحمد جعفر. كان هناك لقاء مع الأستاذ الصحفي والأديب الليبي جمعة الفاخري لصحيفة أخبار أجدابيا الليبية.
كانت هناك مسابقة القصة القصيرة جدًّا تُقام دوريًّا في دولة المغرب تحمل اسم (فاطمة السنوسي)، يُشرِف على التحكيم فيها كوكبة من الأدباء والمهتمين من ذوي الكفاءات العلمية. أيضا تم تسجيل حلقة من برنامج المشاء مع قناة الجزيرة.
نصوص الغربة والترحال غربة المكان والروح، احتلت حيزًا عند فاطمة المهاجرة بجسدها وروحها عند النيل المنساب أمام بيت والدها بمدينة الحصاحيصا بولاية الجزيرة في السودان، هل لنا بنصوص نبعت من هذه التداخلات الحسية والشعورية؟
ابتعدت كثيرًا عن الوطن أنا المسكونة بحبه وأتعذب بجراحاته. هناك الكثير من النصوص كتبتها وأنا في الغربة، وكثيرًا ما تبدأ بعبارة في بلاد بعيدة، منها على سبيل المثال:
في بلاد بعيدة
نظر الطبيب صورة لقلبي
بالأشعة السينية
قال بانزعاج: «هناك تشوهات بالقلب»
قلت بغير انزعاج: «ليس تشوهًا، لكن قلبي في الغربة دائمًا يتشكل بخارطة الوطن»
استمع الطبيب إليَّ مندهشًا، وعكف على الخارطة يدرسها بإمعان
هل اختفاء منتجكِ أو قلة وجوده ووجودكِ داخل الساحة الأدبية والوسائط الافتراضية عمل على تراجُع (ق. ق. ج) في السودان، رغم الريادة الإقليمية من قِبَلك في هذا النسق الكتابي؟
اختفائي عن الساحة لا يؤثر؛ فقد وضعت لهذه القصة القصيرة جدًّا أساسياتها وفنياتها وبناءها المُحكَم، فصارت عملًا مكتملًا يقف على قاعدة ثابتة، وقد أخذ نصيبه من النقد والرواج في كل الوطن العربي، ومنتوجي موجود وما زال مُتداوَلًا في كثير من المحافل.
نعم الذكاء الكتابي لديكِ ووضعكِ لنمط سردي حداثي غير مطروق، لكن عند إحصائي الموجودة وجدتها 47 نصًّا فقط مُتداوَلة افتراضيا وبين الصحف، هل وضْع الأسس يعني الاكتفاء أو التقليل من المطروح، وأنا على يقين أن أضابيرك الخفية فيها آلاف القصص والبرقيات؟
هذه النصوص المُتداوَلة هي ما وقع تحت أيدي الناس من أرشيف الصحف، لديَّ الكثير من النصوص، وستظهر في كتاب قريبًا بإذن الله.
وضْع الأسس لم يكُن هو فقط الغاية، والتي بالوصول إليها تتوقف العملية الإبداعية. ما زلت أكتب، التقليل من المطروح قد تحكمه بعض الظروف الحياتية أحيانًا.
حدِّثينا عن معاناة الكاتبة، خاصةً إذا كانت أمًّا وموظفة ومهارات النسج الذهني في خضم الأعباء والمسئوليات؟
ليس هناك كاتب بلا أعباء أو مسئوليات سواء كان هاويًا أو محترفًا، المسئوليات تستقطع وقتًا من زمن الكاتب، لكنها لا تعطل إلهامه، ولا تتعارض مع موهبة وملَكة الكتابة ولا تخمد جذوتها. هي – قطعًا – ليست خصمًا على الكاتب، فالأعباء والمسئوليات قيمة في حد ذاتها، يمكن أن يخرج من رحمها الإبداع. الكاتب يعرف كيف يوازن ما بين الكتابة والأمور الحياتية الأخرى، ومع ذلك فإن تقلُّبات الحياة قد تُبعِدنا أحيانًا عن دنيا الكتابة والإبداع، لكن سرعان ما نعود إليها؛ فهي الملاذ الآمن للكاتب.
في مقالكِ (اعتذار للخنساء في زمن الرحيل المر) نعيتِ الشاعر مبارك بشير، وذكرتِ أن الشاعر لا يسأل عن مصدر إلهامه. حدِّثينا عن ذلك.
نسأل الله الرحمة والمغفرة للشاعر الرقيق الخلوق مبارك بشير، تربطني به علاقة صداقة وإخاء منذ دخولي جامعة الخرطوم، مظلة الإخاء والمحبة هذه اتسعت لتجمعنا بآخرين من أصدقاء وصديقات الجامعة. تواصلت علاقاتنا جميعًا وامتدت للأسر ولم تنقطع لعشرات السنين، كان رحيله المفاجئ مفجعًا لنا جميعًا.
قُبَيل رحيله كانت هناك ضجة كبيرة في الصحف والأسفار حول إحدى قصائده المغناة وكثر الحديث عن ملهمة القصيدة؛ لذلك قلت إن الشاعر لا يُسأَل عن مصدر إلهامه ولا يُحاسَب عليه. الشاعر يلتقط إلهامه أينما وجده، فقد يلتقطه من موقف أو رأي أو وجه أو نص أو معانٍ وقِيم تُحفِّز إلهامه. أوجه الإلهام لا حصر لها، القصيدة ليست سيرة ذاتية لشاعرها، وليست صحيفة وقائع حياتية توثق لحياة الشاعر، إنما هي مشاعر وفكر ورؤى وخيال، الإلهام هو الجذوة الأولى والخيال هو الذي يشعلها ويُكسِبها التوهج.
هل راضية رائدة القصة القصيرة جدًّا الأستاذة فاطمة السنوسي عن إنجازاتها ورحلة كفاح قلم وحياة إيجابيًّا؟ وكيف تمكنت من الاستفادة من السلبيات؟
الحمد لله، أنا راضية كل الرضا عن تأسيسي لهذا النمط من الكتابة الإبداعية الذي يقف الآن على أرض صلبة بضوابط مُحكَمة وفنيات ممتعة للقارئ. أرجو دائمًا أن أتفوق على نفسي وأرضى عن كتاباتي.
حاورتها الروائية فدوى سعد كاتبة رواية جدارية العاج