آراءثقافة

ثمن الإصلاح الديني.. قصة الفقيه ذو اللوثة

نبي جاء صدق المرسلين قبله وكذب المعاصرين في زمانه. وكل مصلح اعتبر هرطيقاً بالنسبة لمن عاصره، ثم رفعت له التماثيل بعد موته!.

كل ذلك يتم في دورة رتيبة يكاد لا يتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة. ينقل لنا الرحالة المغربي الشهير إبن بطوطة، قصة مثيرة كان شاهداً فيها، أثناء مروره على دمشق، حينما تعالى صراخ الناس في المسجد وهم يحيطون برجل يشبعونه ضرباً، فهرع فيمن هرع يستطلع الخبر، ليُفاجأ بهجوم العامة الكاسح على فقيه “مصاب بلوثة عقلية”!، ونُفاجأُ بأن الفقيه الذي “أكل هذه العلقة” وطارت عمامته، لم يكن سوى العالم المصلح المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى!

هذه القصص وأمثالها تروي حقيقة إنسانية مكررة في جانب الإصلاح الديني، في دورة حزينة متكررة، ذات وقع رتيب، ودورة خالدة ترسم التاريخ بالآلام، وأن التقدم الإنساني يمشي على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع، وهي دورة لامناص منها ولا مفر ولا ملجأ.

يقول إبن بطوطة في كتاب الرحلات: “وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم… فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلم به فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته… واحتملوه إلى دار عزالدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزّره”.

بقي أن نعرف سبب “حفلة” الضرب هذه. ينقل لنا إبن بطوطة أنه كان يقول بـ”أمور منكرة، منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة”، ومن الغريب أن القضاء في بعض البلدان الإسلامية أخذ لاحقاً بفتوى إبن تيمية.

وأما الفقيه “ذو اللوثة” (أي ابن تيمية) فهو اليوم من يعتبر مالك بن نبي أن مؤلفاته، حسبما أشار إليه في تقديم كتاب “حتى يغيروا ما بأنفسهم”، لجودت سعيد، كانت “الترسانة الفكرية التي لا تزال تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية حتى اليوم”.

مات إبن تيمية لاحقاً خلف قضبان السجن حزيناً مكسور القلب، في سجن القلعة بدمشق، ودفن في مكان مستشفى الولادة حالياً المقابل لجامعة دمشق، وبجانبه تلميذه الوفي صاحب المؤلفات الغزيرة إبن قيم الجوزية.

أما ابن بطوطة فقد خرج من طنجة في المغرب الأقصى عام 1325 ميلادي، ورجع إلى بيته عام 1354، بعد رحلة إستغرقت من السنوات الميلادية 29 سنة، وهي الرحلة المشرقية فقط، ولأنه لا يعرف الجلوس، فقد تابع رحلته إلى أفريقيا والأندلس فأكمل نصف قرن من التجوال.

وينقل عنه ابن خلدون أنه كان إذا روى للناس ما رأى، ما صدقوه بل اعتبروه من الكاذبين، ويعلق إبن خلدون فيقول: والسبب في هذا العادة والاعتياد وما ألف عليه الناس. ثم يذكر قصة ابن الوزير والفئران، وخلاصتها أن ابن الوزير المسجون مع والده، لم يكن يتصور شيئاً غير الفئران السارحة في السجن فإذا حدثه عن أي حيوان كان يسأل والده: أتراه كالفأر يا أبت؟

وهذا المصير للمفكرين والمبدعين والفلاسفة معروف، لأنهم يقطعون السياق الطبيعي والرتابة والروتين في المجتمع، ولذا يذكر القرآن أن من اتبع موسى كانوا الشباب الصغار، أي الذين فيهم بقية مرونة لتقبل التغيير وتحمله، وهو ما وصى به لقمان إبنه الشاب أن يصبر على ما أصابه، فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم، وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المفسدين.

فهذه هي دورة التاريخ المكررة الرتيبة، في خمسة مفاصل وحلقات ضمن السلسلة الدائرة عبر الفضاء اللانهائي.
دعوة، فجهاد ومحنة وصبر، فإصلاح، فتغيير، فركود، تتبعه حركة تجديد… فحلقة مغلقة جديدة، ونبض مختلف، وهكذا. سنة الله في خلقه وخسر هنالك المبطلون.

https://anbaaexpress.ma/ykl4q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى