وقعت في هذا القرن والذي قبله عشرة مفارقات عجيبة من (بزوغ دعوة اللاعنف) و (وفرة الغذاء مع تكاثر السكان) و (ولادة السلام من رحم آلة الحرب) و (معرفة الكود الوراثي للانسان وازدياد الجهل بالانسان ) و (اختراق تابو الجنس للارتداد عنه) و (الغوص إلى الحافات الحدية للعالمين السفلي والعلوي لمواجهة اللانهاية) و (نظرية الانفجار العظيم وتشكل عالم المجرات من نقطة رياضية متفردة) و (تطور مباحث الأعصاب المادية لاكتشاف حقيقة الروح) و (دخول مباحث الفيزياء النووية باليقين للخروج بالارتياب) و (دخول الكوسمولوجيا بالالحاد للخروج بالايمان).
ترك لنا القرن العشرين ندبات في وجه الحضارة ففيه نشبت أشد الحروب دمويةً وكلفةً وإزهاقاً للأرواح، ومن السنة اللهب خرجت دعوة (اللاعنف) برداً وسلاماً صدع بها غاندي ومن سار على دربه مثلي وجودت سعيد ومالك بن نبي وعبد الغفار خان ومبارك عوض وعشرات غيرنا، أما غاندي فاستطاع أن يقود أمته إلى الاستقلال وبناء واحة من الديموقراطية يحلم بها العرب اليوم.
وفي عام 1798 م توقع (مالتوس) في كتابه (بحث في تزايد السكان) أن عدد السكان يزداد بطريقة هندسية والغذاء وفق سلسلة عددية والطريق مسدود أمام الجنس البشري الا بكارثتين: المجاعة أو الحرب؟ وبين عامي 1800 و 1930 م ارتفع عدد البشر الى ملياري نسمة ليقفز الى ثلاثة مليارات عام 1960 م خلال 30 سنة، ثم الى أربعة مليارات بعد 15 سنة كما أعلن ذلك في مؤتمر بودابست للسكان عام 1975 م، ومع إقفال ملف القرن العشرين زحف الرقم الى ستة مليارات، وهو مع كتابة هذه الأسطر قفز إلى حافة 8 مليارات من الأنام ثم تجاوزها، والتوقعات أن المخطط سينكسر عند عام 2050 برقم 12 مليار نسمة كحد أعلى فالارحام تدفع مع كل شروق شمس 340 ألف انسان للوجود، والمقابر تبلع في أحشاءها مع كل غروب شمس 150 ألف انسان، بزيادة 240 ألف انسان يومياً. مع هذا ففائض الغذاء يتلف في الدول الصناعية، وتتطلع تقنية الجينات والاستنساخ الى انتاج غذاء بدون نفاد.
وحصلت أعظم مفارقة لتطوير السلاح، فوضع الانسان يده على قوة اشتعال النجوم مايمكنه من محو الحياة الانسانية، وتحويل كوكب الأرض الى جمهورية للأعشاب والصراصير والعقارب، ولكنه توقف عن رحلة المضي في التسلح وبدأ في رحلة الإياب للتخلص منها، في تناقض فريد لكل رحلة التسلح في تاريخ الجنس البشري، بعد أن امتلكت أمريكا سبعين الف رأس نووي بـ 115 نوعاً على ثلاثة أجيال من (الانشطاري) و (الاندماجي) و (الاشعاعي) محمولة على رقبة 65 نموذج قذف صاروخي بكلفة 6 آلاف مليار دولار، لضرب 12500 موقع كوني ومسح مدن بسكانها، حتى وصلت رحلة التسلح الى قنبلة الجروباتس (أو القيصر الروسية) بعيار 58 ميجاطن بقوة ثلاثة آلاف مرة من قنبلة هيروشيما، في رحلة نحو الجنون المطبق.
والذي ثبت في أشد الظروف حلكةً في كوريا وفيتنام وكوبا والشرق الأوسط أن السلاح النووي ليس للاستخدام، وبذلك ألغت القوة نفسها بنفسها، ودُفنت الحرب الباردة في جنازة خاشعة في باريس في إعلان رسمي لموت اله الحرب مارس، وأن مؤسسة الحرب شبعت موتاً؛ وأما حرب أوكرانيا فهي انتفاضات الموت الأخيرة في مؤسسة الحرب التي يخوضها بشر متخلفون من طراز بوطين؟
وحين نستعرض ذاكرة التاريخ نصاب بالهول من فداحة الإصابات مثل كلفة احتلال جزيرة اوكيناوا في الحرب العالمية الثانية بمقتل 75000 جندي أمريكي، وكيف حصدت الرشاشات الألمانية صيف عام 1916 م في 12 ساعة أرواح 57450 جندي بريطاني، وكلفت معارك السوم مليون و 250 ألف من البريطانيين والفرنسيين والألمان، والتحق بعالم أنوبيس السفلي في معارك الفردون 695000 قتيل، ومات في معركة كربلاء (خمسة) 65000 شاب بين ايراني وعراقي، وعندما انتهت الحرب بين باراغواي من جهة والتحالف الثلاثي من الارجنتين والاورغواي والبرازيل عام 1870م كان قد مات 80% من كل الرجال في الباراغوي في كارثة ديموغرافية.
وفي عام 1989 م تم الانطلاق بمشروع الماموت ( الهوجو HUMAN-GENOM-PROJECT ) العالمي بكلفة ثلاثة مليارات دولار، لفك الكود الوراثي عند الانسان موزعاً في ثلاثة مليارات حرف، مايعادل مكتبة تضم عشرة آلاف كتاب، كل كتاب يضم ثلاثمائة صفحة، في كل صفحة ألف رمز بدون فاصلة أو نقطة أو اشارة تعجب، مضغوطة في ثلاثة وعشرين زوجاً من الكروموسومات، في نواة كل خلية لاترى الا بتكبير آلاف المرات، تعطي الأوامر من خلال مائة ألف جملة مفيدة، لخلق خمسمائة بليون كوبي في الثانية بدون خطأ واحد، لتركيب وصيانة 210 نوعاً من الأنسجة، في بدن يضم مائة مليون مليون خلية.
والمفارقة التي خرج بها العلماء أن (جبل) المعلومات الذي سيخرجون به من الكنز الانساني سيضعهم أمام تحدي خرافي في مشكلة (الترابطات بين الجينات) من نموذج ضغط الدم الذي ينظمه مثلاً مايزيد عن 200 جين، إذا تصورنا ضفيرة مكونة من مائة ألف عقدة في عدد مخيف من الشبكات لانهائي، يجعلنا ندرك أننا في أول رحلة معرفة الانسان في محيط مترامي من المجهول.
وفي الجنس تدفقت أفلام الاباحية كطوفان ليحصل أمر في غاية الغرابة كما عبرت عنه مجلة الشبيجل الألمانية (AUS LUST WIRD FRUST) فمع الولوغ فيه يزداد قرفاً؛ كما في عمل الهورومونات في الجسم فتحريض الغدة الدرقية بواسطة الغدة النخامية إذا قفز عن عتبة محددة يقود الى لجم الطرفين المتبادل.
هكذا تعمل الهورمونات بتوازن الطرفين، ويسبح الدم بلطف بين التخثر والتميع، والجهاز الهضمي بين الحموضة والقلوية، كما جاء في محكم التنزيل: إنا كل شيء خلقناه بقدر وينطبق هذا على الجنس فمع تسليط الضوء على الأماكن الخفية تتوقف الاثارة، وأفضل شيء للجنس عندما يتحرك بين الستر والانارة، بين الفصل والدمج.
ينطبق هذا على الوسط الأوروبي الذي انخفض فيه سعار استهلاك الأفلام الجنسية الى الربع في سنوات، ولكنه ينشط في الأوساط المغلقة لعقول محبوسة في زنزانات خانقة من الهلوسة الجنسية؛ فبقدر التشدد في لف وتغطية جسد الأنثى يشتد العفن الجنسي داخلياً، وكل فضيلة هي وسط بين رذيلتين كما يقول الفلاسفة.
في الفيزياء تفصل الاسلاك عن بعض، وفي الأعصاب تغلف بغمد (شوان) و (النخاعين) مرتين وكذلك ينفصل الجنس. نقطة الاتصال في الاسلاك يجب أن تكون في نقطة محددة فتتولد الطاقة وتعمل الماكينات، ومحل انفراغ الطاقة العصبية ينفتح في اللوحة (العصبية) بين ألياف العضلات وكذلك وجب أن تلتحم مؤسسة الزواج.
اتصال الاسلاك الكهربية الاعتباطي يفضي الى حرق الإلكترونيات، وانكشاف أغمدة الأعصاب يؤدي الى آلام مبرحة، وتدفق الاباحية في المجتمع يهدد بنسف المجتمع بانقراض النسل وهرم الأمة.
إنتبه لهذا عالم النفس البريطاني (هادفيلد) قبل أكثر من نصف قرن فكتب في (تحليل نفسي للخلق) يفكك آلية الاباحية وعلاقة (البيولوجيا بالأخلاق) أن هناك وهماً بأن: (القانون الطبيعي مضاد للقانون الخلقي الذي يظن أنه مشتق من مصدر ما خارج الطبيعة) ليصل الى تقرير أن القانون الفطري والخلقي هما طوران في رحلة الانسان نحو تحقيق الذات، وأن الانسان البدائي في حالته الفطرية وهو يعبر عن غرائزه بشكل فوضوي لايعتبر آخر ماجادت به الطبيعة، السعادة بالتالي هي طبقة أعلى من اللذة؛ عندما يتم التعبير عن مجموع الغرائز بشكل متناسق.
لم تكن الموسيقى منعشة الا بالتناسق بين أنغامها، وتقوم صحة البدن بالتنظيم المتوازن لإخلاطه، ويتقدم المجتمع بالتوزيع العادل للثروة بين أفراده.
أوركسترا مع ألحان نشاز تعذيب للروح، واضطراب أخلاط البدن مؤشر الانهيار نحو المرض، وتصدع المجتمع الى طبقات مؤشر دخول المجتمع المرض الفرعوني بانقلابه من مجتمع متجانس الى مجتمع (الشيع) في رحلة نحو الزلزال، عندما تتقلقل الطبقات الجيولوجية فتندفع اللافا من الشقوق فيصب العذاب (من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) .