يأتي محمود درويش بشعره من مطية التفلسف الذي يعلم الموت، كما قال فيودون، إن الموت لا يكتسب فداحة الشعور برهبته إلا في سياق العلاقة بالآخر، ولذلك تكمن في الإنسان بذرة الموت كبوصلة لملاقاة حالة ما قبل الكينونة.
«يا موت! يا ظلّي الذي، سيقودني يا ثالث الاثنين، يا لون التردد في الزمرد والزبرجد/ يا دم الطاووس، يا فناص قلب/ الذئب، يا مرض الخيال، إجلس/ على الكرسي! ضعْ أدوات صيدك/ تحت نافذتي. وعلّق فوق باب/ البيت/ سلسلة المفاتيح الثقيلة! لا تحدّقْ/ يا قويُّ إلى شراييني لترصد نقطة/ الضعف الأخيرة».
من هنا تأتي نصوص جدارية درويش، بدهشتها الإنسانية لتخرجنا من مأزق إشكالية كيف نواجه الموت بالإبداع؟ كيف نضفي أنسنة على الموت فينا؟ وكيف ننتــــصر عليه؟ ونجعل من المتن الشعري ممتعاً، وهو يمجد الموت، باحثاً عن الجـــوهري في كينونة الجسد والجثة.
أيها الموت، انتظرني عند باب
البحر في مقهى الرومانسيِّين. لم
أَرجِعْ وقد طاشَتْ سهامُكَ مَرَّةً
إلاّ لأُودِعَ داخلي في خارجي،
وأُوزِّعَ القمح الذي امتلأتْ به رُوحي
على الشحرور حطَّ على يديَّ وكاهلي،
وأُودِّعَ الأرضَ التي تمتصُّني ملحاً، وتنثرني
إن كيمياء الموت في النصوص الشعرية في الجدارية، تخرجنا من سديمية العدم إلى مستوى من التحقيق التخيلي يطغى عليه طابع الحياة خارج المدار البشري. وهي محاولة عنيدة وقاسية وعنيفة في الآن نفسه، تجعل الجسد/القلب مجسداً وموضوعاً شعرياً يراهن على الاستفهام أو التذكير أو المساءلة أو المخاطبة الحوارية.
وبهذا المعنى، فإن تجليات الموت تتخذ من الثقافة الميثيولوجية للهلال الخصيب، أقنعة متعددة لوجه واحد بشع هو الموت، سواء كان طبيعياً أو طارئاً.
هو نص شعري لا هاجس له ولا إحساس له ولا وعي له بأي شيء خارج مدار مواجهة الموت. وكأن الزمن موقف، وكأن نسيان الموت خطيئة أو خيانة.
رأيت ريني شار / يجلس مع هيدجر
على بعد مترين مني / رأيتهما يشربان النبيذ
ولا يبحثان عن الشعر
الجثة التي تحدثت عن حصارها من طرف الموت أكثر ما تتحدث عما فيها من حياة، وبهذا المعنى فإن إرادة الموت انتصرت على إرادة الحياة. كما يقول كلود برنار «الحياة هي الموت نفسه».
أَرى السماءَ هُنَاك في مُتَناوَل الأَيدي
ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ
طُفُولَة أُخرى ولم أَحلُمْ بأني
كنتُ أَحلُمُ. كُلُّ شيء واقعيُّ. كُنْتُ
أَعلَمُ أَنني أُلْقي بنفسي جانباً…
وأَطيرُ. سوف أكونُ ما سأَصيرُ في الفَلَك الأَخير.
الحدث في الجدارية، ليس الموت السريري، وإنما المقصود به انتصار رمزي على الموت، أي خواء المعنى المتعذر استعماله والذي لا يتحقق إلا بتجربة خارج كل شيء، أي ما يسميه جورج باتاي، التجربة الداخلية.
فالموت في نهاية المطاف هو كل ما يحيل إلى الغياب/ الماضي/ الانفعال/ المحو/ السحق/ النسيان. تفقد الأشياء معانيها، فيحل لا مألوف محل المألوف ويأخذ الميتافيزيقي محل العقل، منتجة معرفة شعرية مبنية على ما وراء الغياب. ويصبح الموت نشوة في مواجهة عبثية الحياة ـ عبث وجودي بمفهوم سارتر ـ وسفرا في جزر الروح المجهولة. وهكذا تضعنا نصوص الجدارية أمام خيار واحد لا ثاني له للتخلص من الموت: ركوب شعره صهوة الموت بخاتم البقاء.
ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا،
فنحن قادرون على التذكر قادرون
على التحرر، سائرون على خطى
جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن
لعل الجانب الأكثر قسوة في هذه المواجهة الشعرية بالجدارية، هي محاولة القبض على جغرافيا الموت بذاكرة الحضور والغياب. بدون خوف أو تردد أو تفجع، بل اخترق حجابه السميك، بتحويل جدلية العبور إلى الأبدي إلي ملحمة البقاء.
كل شيء أبيض/ البحر المعلق فوق سقف غمامة
بيضاء واللا شيء أبيض في/ سماء المطلق البيضاء/
كنت ولم أكن.. فأنا الوحيد في نواحي هذه الأبدية البيضاء.
نصوص شعرية لا تعرف من أين تبدأ فيها المناجاة أو المونولوج الداخلي ولا أين تنتهي. فبقدر ما يكون البوح الشعري مشدوداً إلى ضمير المتكلم، بقدر ما يكون موزعاً بين أزمنة الحياة وأزمنة الموت، بين الداخل والخارج، بين الجسد والجثة بين الأنا والجسد.
وهذه الثنائية الأخيرة، هي ما يخلق في ظل النصوص مسافة توتر بين أزمنة الحياة وأزمنة الموت. تتيح للبوح الشعري أن ينمو في خضم الجدل بين الحي والميت، بين المتواصل والمنقطع. بين الأنا كسارد للشعر والجسد. كشخصية ضمن الموت، وهذا المنحى في خلق المسافة بين الأنا والجسد هو ما ينمو بالكتابة الشعرية إلى مد جسور تواصل بين المشهود والغيبي، بين الدنيوي والماورائي.
يكتسي الجسد لدى درويش بعداً إنسانياً من خلال وضعيته في سياق الإبداع اليومي للشعر وفي علاقته بالآخرين كحاضر و تاريخ. وبما أن الجسد المختصر بعضوه القلب، يلجأ الشاعر إلى توظيف لغة يختلط فيها المحكي مع المتخيل. ويتعامل من الداخل مع مفهوم الموت، وطبقاً لرؤيته كنعانيا وعربيا معاصرا، ثم كمبدع يحرص على بلورة هدا المفهوم من منظور المعرفة الشعرية حيث تنتهي إلى: «هزمتك يا موت، والقلب لا يمكن أن يخضع لغير نداء الشعر، ومهما تعاظم التعب، ومهما فعل المرض بشرايين القلب تبقى القصيدة هي النبض الحقيقي الذي يبعد المرض ويحوله إلى طاقة هائلة». حتى أنه استبق الموت، ورأى نفسه بعد الموت وأوصى أن تنزع عنه أجهزة التنفس إذا دخل في حالة موت سريري، «إذا جاء يوم وتفاقم وضعي الصحي واختل جسدي أو أصابته نكسة أو تشوه، أرفض العيش في حالة كهذه، ومن الآن أطلب تنفيذ هذه الوصية».
كان واضحا أنه يعيش قلقاً كبيراً، قلق الحياة والموت معا، بل درويش حدق بخواء المعنى كثيرا وانتصر على الموت وواجه بوقف الانفجار الكبير لقلبه من طرف الموت مرارا عليه، بإيقاف قنبلته بالانفجار بقلبه وتشظي في فكره واشتعاله على الشعر سر كينونته حيث قال
أيٌها الموت انتظرني خارج الأرض،
انتظرني في بلادِك، ريثما أنهي
حديثا عابرا مع ما تبقٌى من حياتي
قرب خيمتك، انتظِرْني ريثما أنهي
قراءة طرْفة بنِ العبْد. يغْريني
الوجوديٌون باستنزاف كلِ هنيْهة
حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة
المفهوم الثقافي الرمزي للموت
اختار الشاعر الموت بمعناه الثقافي، مفهوما للموت يقوم على أساس المواجهة بالتفكير وتشغيل المخيلة كذخيرة حية لسلاح رمزي للانتصار على الموت في عقر داره، انتصار للشرط الوجودي المعمق بالتفلسف خارج المدار البشري، أي الخروج من شرنقة الجسد والغريزة والتماهي مع الفائض العدمي. كما يقول ريلكه إننا يجب أن نقرا كلمة موت بدون مدلول سلبي..
ألديك وقت لاختيار/ قصيدتي
لا ليس هذا الشأن شأنك/ أنت المسؤول عن الطيني في البشري…
الموت عند درويش في الجدارية، هو تجربة داخلية لمصافحة فائض الفراغ. هذا الفراغ الاستثنائي، المؤثث بعنف جذري يهدد الإنسانية في كينونتها على شكل موت بيولوجي أو روحي أو نفسي. وهذا هو السبب الذي دفع الشاعر إلى التأمل بالموت كثيرا بطريقة استباقية من أجل استنتاج عقلي يمنحه الشعور بطمأنينة صوفية البياض.
«مثلما سار المسيح على البحيرة، سرت في رؤياي. لكنني نزلت عن الصليب لأنني أخشى العلو ولا أبشر بالقيامة». الحدث في الجدارية، ليس الموت السريري، وإنما المقصود هذه المقاربة بين الذات والموت في عنفوان عري الغياب لدى الشاعر، أي خواء المعنى المتعذر استعماله والذي لا يتحقق إلا بتجربة خارج كل شيء أي ما يسميه جورج باتاي: بالتجربة الداخلية. فالموت في نهاية المطاف هو كل ما يحيل إلى الغياب/ الماضي/ الانفعال/ المحو/ السحق / النسيان/ .
أنا وحيد
لا شيء يوجِعني على باب القيامةِ
لا الزمان ولا العواطف. لا
أحِسٌ بخفٌةِ الأشياء أو ثِقلِ
الهواجس. لم أجد أحدا لأسأل:
أين أيْني الآن؟ أين مدينة