
دائما أتساءل متى نطلع من عنق الزجاجة؟
هكذا كان يردد العم خليفة، و هو يحس بالغبن من أحوال هذا البلد التي لا تتغير ظروفه و يصبح كتلك البلدان المتقدمة، اقتصاديا و إجتماعيا و سياسيا و حقوقيا.
يقول العم خليفة، منذ ولدت و الفقر يتبعني كظلي، أعمل بكد و إجتهاد منذ نعومة أظافري و لا أحصل إلا على فتات، أعيش عيشة الذبانة في البطانة، كنت أتمنى أن أملك منزلا و سيارة، لكن اليد قصيرة و العين بصيرة، عيش لا تموت، ما إكتسبناه نهارا لا يكفينا حتى لسد الرمق في الليل.
كان الشاف، موحا يقول بأننا سنخرج من عنق الزجاجة في خمسينيات القرن الماضي، مع بزوغ فجر الاستقلال، الآن الفرنسيس خرجوا من البلاد، و الأمور ستكون في أحسن حال و كان يردد شعاره الدائم، إلى” خيابت دبا تزيان” .
فعلا كانت الآمال معقودة على تحسن أحوال الناس و ظروفهم الاجتماعية و المادية، لكن الله غالب، ربما تعقد المشهد السياسي يكون من بين الأسباب التي أدت إلى حالة الجمود هذه و دخول البلاد في متاهات الحسابات الضيقة، الأسباب كثيرة و معقدة و تحتمل عدة قراءات و تفسيرات و التاريخ وحده كفيل بكشف حقائق حقبة تاريخية كهاته.
كان العم خليفة يشتغل في أحد المصانع المختصة في التصبير و كان معظم العمال من الضواحي الهامشية للمدينة الحمراء، و لهذا السبب فالشركة وضعت شاحنة كبيرة لنقل هؤلاء العمال كل صباح عند نقطة إلتقاء معلومة ثم إعادتهم لنفس النقطة عند كل مساء، فيما كان العمال القاطنين بالمدينة يستعملون وسائل النقل العام أو الخاص بهم من دراجات نارية و عادية.
كان لدى الشاف موحا دراجة نارية من نوع موبيليت بيضاء،فيما كان العم خليفة يستقل دراجته العادية من نوع بوجو.
عادة يبدأ العمال مع الساعة السابعة صباحا حتى الواحدة زوالا، ثم يستأنف العمل بعد وجبة الغداء سريعا عند الثانية زوالا و تستمر الوردية إلى حدود العاشرة مساء، إلا أنه في مواسم معلومة قد تدوم الوردية حتى منتصف الليل أو أكثر.
لا أحد يجرؤ على التذمر لأن هذا حال كل المصانع والشركات، و كما يقول الشاف موحا :الذي لا يعجبه الحال الباب أكبر من كتفيه، الباب للأحباب.
كانت لهمسات بعض العمال و خصوصا الموسميين ردة فعل قوية من الشاف موحا و حتى الحارس السيد بوشعيب.
كانت ساعات العمل طويلة و مضنية، لكن كانت تتخللها ومضات فكاهية تخرجنا من ذلك الروتين اليومي الممل، كما كانت ساعة استراحة الغذاء تعيد إلينا بسمة الحياة و نقاشات ساخنة بين العمال حول ظروف الحياة و مآلات مرحلة ما بعد الاستقلال و العمل النقابي و الانتماءات السياسية.
كان مستوى الحس الوطني عاليا، و الانتظارات كذلك كانت مرتفعة.
كان الشاف موحا يحب كثيرا العم خليفة لذلك فهو غالبا ما ينصحه بعدم التنقب و عدم تزعم اي حركة عمالية داخل المصنع، لأن ذلك سوف يعرضه لعواقب وخيمة.
كانت علامات عدم الرضى واضحة على وجه العم خليفة، فهو يرى تناقضات كبيرة بين المأمول و أحلام ما بعد الاستقلال و واقع الحال المر الذي يعيش عليه معظم الناس، كان يحز في نفسه نظرات الخيبة التي يراها في عيون الشباب مع صعوبات الحياة المريرة، شباب فقد الأمل في حضن ذلك الوطن المنشود، وطن يعطي بسخاء للمتزلفين و الوصوليين و الغرباء ،وطن تحول إلى أكبر غرفة إنتظار، انتظار لتلك الفرص التي قد لا تأتي.
بين التمني بحدوث الإصلاح الشامل، لتصلح أحوال البلاد والعباد و الإنتظار و وعود الساسة و السياسيين ،كان العم خليفة متشبتا بحلم التغيير المنشود، حلم لا طالما راوده و هو في ريعان شبابه، أثناء خروجه في مظاهرات ضد السلطة الاستعمارية، حلم الدولة المستقلة و دولة المواطنة الحقة و دولة تكافؤ الفرص، حيث التعليم للجميع و الرعاية الصحية المجانية للجميع و حلم الحرية و الانعتاق.
كانت الأحلام كبيرة و الوعود كثيرة، و لذلك كان العم خليفة يتساءل عما حدث لنقف في مكاننا كل هذا الوقت، لم نتحرك أو نتقدم قيد أنملة، غير أن الفوارق الاجتماعية بدأت في الظهور، و يبدو أن مجتمعا طبقيا قيد التشكيل، طبقية من نوع آخر حيث الفروق صادمة بين من يملك كل شيء و من لا حظ له أو لا حق له في الحياة.
كان الشاف موحا، أحد هؤلاء المتسلقين في الهرم المجتمعي، فقد أصبح مديرا تجاريا للمصنع بحكم تجربته و إحتكاكه بالوكلاء التجاريين و الفلاحين و سوق الاستيراد والتصدير و فوق هذا الثقة العمياء للباطرون فيه، من حيث ضبط الأمور داخل المصنع.
أصبح لدى الشاف موحا سيارة خاصة، بل و سائق خاص تحت أمر، بدى أن الشاف موحا قد أخذ حظه من حياة الرفاه و زخرفها و صار لديه مكتب خاص به، لاستقبال الطلبيات و الاستعلام عن الحاجيات.
كل شيء تغير في حياة الشاف موحا، الهندام و طريقة التحدث مع العمال و عادات العمل داخل المصنع و خارجه، حتى طريقة مشيته و نظرته تغيرت كثيرا، فقد سار سيرة علية القوم.
كان العم خليفة يلاحظ تلك التغييرات الكبيرة التي طرأت على حياة الشاف موحا بتلك السرعة !
(يتبع)
متألق كعادتك سرد معمق تدقيق في التفاصيل تدخلنا في تفاصيل القصة كأننا أطراف منها