آراءثقافةمجتمع

عبد الكبير الخطيبي.. وهوية المغرب البصرية

“إنّني والخطيبي نهتمّ بأشياء واحدة، بالصور والأدلة والآثار والحروف والعلامات، وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً، يخلخل معرفتي، لأنّه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها، يأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحسّ كأنني في الطرف الأقصى من نفسي، كما أنّه في علمه دائماً يبحث عن الجديد ولا يقف أبدا عند عتبة الأبواب، إنه يلجها بكثير من المغامرة وكثير من الحذر العلمي الباهر، إنّه يفكّكها ويعيد تركيبها من جديد، إنّه يمتلك القدرة على الغوص في أعماق الأشياء”. (رولان بارت).

الكتابة عن الهوية للمفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، آتية من الانتماء العضوي للغة عربية تشكل ذاكرته البصرية والشفهية وإلى قيم ثقافة فرنسية تنويرية يكتب بها عن المهمش في الثقافة العربية الإسلامية مثل الوشم والجسد والأمثال الخ، يقول: «الولادة في المستقبل هي تواصل مستمر مع الذاكرة». إقتضى منه هذا المشروع الفكري، البحث في الذاكرة البصرية عن «المغايرة» والحق في «الاختلاف»، وهذا لا يحصل في نظره بدون معاينة الذات ومعرفتها ونقدها، أي بعد أن «نتخلص من وهم الأصل المطلق»، مضيفا: «الازدواجية قوة للمعرفة والتسامح. عندما يكون لها مركز ثقل محدد للهوية وتكون تعبيرا عن الإجماع، فيما تتحول إلى عامل من عوامل ضياع الطاقات وانكفاء المجموعة، حيث يتم إخفاؤها أو إنكارها. فإنكار الواقع يؤدي إلى التخلف، وإلى هشاشة الصورة التي نرسمها بأنفسنا».

الهوية العمياء

تبلورت الهوية ككل هويات الشعوب عبر مراحل لانهائية، ابتدأت متعددة واستمرت كذلك، ومحكوم عليها أن تستمر دائما؛ لأنّ قدر الهوية ذاته يدفعها نحو التعدد.

وكان يدعو المفكر عبد الكبير الخطيبي دائما إلى محاربة الهوية العمياء المقيتة التي تدفعنا نحو إقصاء الآخر والمغاير وتمارس ديكتاتورية الأصل الواحد. وهذا ما أكده الناقد والباحث فريد الزاهي: «يعلمنا الخطيبي أن وهم الهوية لا يكمن فقط في الرجوع إلى السلف، كما مارسته السلفية وتمارسه اليوم التيارات الإسلاموية بفروعها السياسية والجهادية، وإنما في كل أشكال الاستغراب أيضًا التي لا تعي بشكل عميق علاقتها بالغرب».

اللسان العربي الجريح

ويعد كتاب الخطيبي «اللسان العربي الجريح» وقفة مع الذات الجريحة في متاهات تشكلها مع الآخر، لقد تبلورت الهوية ككل هويات الشعوب عبر مراحل متعددة لانهائية، ابتدأت متعددة واستمرت كذلك، ومحكوم عليها أن تستمر دائما، لأنّ قدر الهوية ذاته يدفعها نحو التعدد، قائلا: «لا يمكن للهوية الأصلية التي تقوم على الأصول اللغوية والدينية والأبوية أن تحدد وحدها العالم العربي. فهذه الهوية قد تصدعت وتمزقت بفعل الصراعات والتناقضات الداخلية.

ثم إنها تجد نفسها مرغمة على التكيف مع مقتضيات الحياة العصرية والتفتح على العالم» وهذا النقد المزدوج للتراث العربي والغربي في مرجعتيهما وعوائقهما. كما عبّر عن ذلك موريس بلانشو «ونصّ الخطيبي مسكون بلغات وثقافات متعددة، وهذا التعدد يجعل منه نصاً يقاوم كلّ انغلاق أو انسداد، ولو كانت ذاته نفسها، إذ أنّ عمق ذات الخطيبي ـ ككتابة ـ يعمل من أجل كشف وتصفية الحساب مع لغة وكلام يحتجزه ويراقبه المجتمع.

من هنا تأتي ضرورة الحديث عمّا يبدو صامتاً في المجتمع وما يتحالف الجميع على تركه منسياً، أو على الأقل تهميشه بعدم الحديث عنه».

عاد عبدالكبير الخطيبي إلى الروافد الشعبية الغنية للثقافة المغربية، مبرزا ذخيرتها الحية في الذاكرة البصرية مثل الزخرفة والخط والعمارة والأوشام والأمثال والمحكيات الشفهية المشبعة، برؤى مفاهيمية جديرة بالدرس والمراجعة بعيدة عن نظرة التغريب التفكيكي الغربي المتعالية للتراث العربي.

الحالة المغربية

في محاضرة ألقاها سنة 1978 في كلية الآداب في الرباط، قال: «حقاً، يكون المحاضر غربياً وشرقياً في مسألة المغرب، لماذا؟ لأن وجود المغرب هو بين الغرب والشرق، بين المغرب والمشرق، بين التاريخ وما قبل التاريخ، بين الميتافيزيقا وما يناقضها، بين العرب والبربر، بين الدين والسحر، بين القبيلة والإقطاعية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى، بين ـ بين».

من هنا تلك الدعوة الملحاحة إلى «نقد مزدوج» يضع نفسه بين عدة «تخصصات»، وينهج طرقاً متعددة تجد التعبير عنها في كتابة متنوعة الواجهات».

لقد أسس معيارا جديدا لجدلية السؤال في جسد الفكر العربي المعاصر، حيث يقول «إنّ منهجية التساؤل هي مشروع في حدّ ذاته، فتحت باباً في علم الاجتماع مع آخرين، وساهمت في تأسيس بداية لمدرسة اجتماعية في المغرب، ثم انتقلت إلى الاهتمام بالثقافة الشعبية باعتبارها جزءاً من المجتمع، لأنني أهتمّ بالفئات الصامتة والمكبوتة.

ولأنني أدركت أنّه لا يمكن أن نتكلم عن المجتمع إذا لم تكن له كلمته ضمن التحليل نفسه، كان هذا بعد أن أدركت نوعية العلاقة الرابطة بين كبت المجتمع وكلام المثقف. عدت إذن إلى أسس الثقافة الشعبية في الأدب الشفوي والفنون الشعبية والعادات والحياة اليومية، أي أنني إنتقلت إلى البحث في الحياة اليومية من الناحية الاجتماعية والسيميائية، وبهذا فتحت باباً آخر فتح بدوره المجال للعديد من الكتابات حول الثقافة الشعبية في هذه الجهة أو تلك وحول الوشم وحول الموسيقى وحول أشياء أخرى عديدة».

التشكيل والهوية

كان يعتقد إعتقادا جازما، أن المغرب مخصوص بهوية تشكيلية: «وأن الرسم ككل فن، حكاية ذاكرة، أي أنه استعادة الذاكرة لماضيها»، والذاكرة بمفهومه، خصبة بتلاقح ثقافة الآخر. انطلاقا من رؤيته الشخصية لمفاهيم الفن التشكيلي العربي، على اعتبار الرسم المغربي الراهن مسبوق بحضارة الدليل القديمة والمستمرة، فالمعرفة في المرحلة الكلاسيكية إبان القرنين التاسع والعاشر الميلاديين كانت مقسمة بين فنون الكتاب، خطة وتزويقا، والتزيين المعماري أو زخرفة المنتجات اليدوية.

والكلاسيكية العربية في نظره: «بحر كبير، ليست مجرد الأرستقراطية بل هناك الكلاسيكية الفنون القديمة والحديثة في صميم الرسم الطبيعي العربي، فكل نظرة مبنية بمظهر اجتماعي، ثقافي بقانون الرؤية وعدم الرؤية، خصوصا والذاكرة هي أثرها الشفاف كثيرا أو قليلا».

وحسب نظره، المعمار والخط والشعر، هي كنوز الفن العربي في مرحلته الكلاسيكية، وقد كان المعمار وكذلك الخط مندمجين في التقاليد العربية، يكفي أن تلقي نظرة فاحصة على مدارس فاس ومراكش، أو مدرسة سلا، حتى تلحظ إلى أي حد ما الأمكنة نفسها ذاكرة بصرية حيث الأشكال والأحجام موقعة بالمواد المختلفة، مانحة للمجموع توازنا يعود إلى أساسيته الأرضية وينفتح في الوقت ذاته، على النور السماوي ويكفي أيضا أن ننظر بإعجاب إلى تخطيط القندوسي (في القرن التاسع عشر) أو إلى نسخة دليل الخيرات، حتى نتبين أن هناك فنا مغربيا للخط، له أسلوبه المتميز، وأصالته في التلوين وتوزيع المضيء والمعتم، ويمكننا أن نرى بإعجاب في الخطوط ذاته، البهاء الدي يحتفل به التزويق. هذا الكنزان للذاكرة، فضاء الكتاب وفضاء المعمار، عنصران أساسيان لموروثنا الثقافي وليسا وحيدين، بل هناك كنوز أخرى تنحدر من الموروث القديم.. كفنون الزخرفة والمعمار التزييني على الجدران، وفنون الحلي والثياب، وصولاً إلى فن الوشم على الجسد.

الهوية البصرية

كان يعتقد أن المكون الفني لهذه الفنون، يشكل جزءا من هوية المغرب البصرية لأنه لا يفرق في تعريفه بين الفنون والصناعات اليدوية، أو بين الفنون العظيمة، والفنون البسيطة في تاريخ هوية تشكيلية للشعب ما بالزمان والمكان.

فالثقافة المغربية تتوفر على مهارتها الخاصة وتقنياتها، فهي تستعمل عددا هائلا من المواد في النسيج وصناعة الزرابي والفخار والجلود والجلي وكل المواد التقليدية للمعمار.

وكان دائم الاستشهاد بالفنان التشكيلي المغربي فريد بالكاهية الذي استطاع إدماج عناصر الرسم على الجلد في بحثه التشكيلي، هذه الاستمرارية بين هذا الموروث والفن المعاصر تضمن لشخصية الفنان المغربي قوة هو بحاجة إليها حتى يتجاوز اضطرابات الهوية الناجمة عن الاستعمار وإستعمال مماثل للمنتجات المغربية، لا يؤدي فقط إلى توسيع لائحة المواد التي يشتغل بها الفنان، ولكنه يسمح له بالتفاعل أيضا على القماش كمحمول اللوحة بسريرة تقنية عنيفة.

ميزة ثانية يراها الخطيبي، تكمن في النزعة الخطية، قانون «خطوط « تنتقل بين الزرابي والخزف والأرابيسك والوشم. هذه الخطوط عبارة عن وحداث وأشكال هندسية ذات دلالات غالبا ما تتكون رمزية وسحرية، تعبر ببساطتها عن أحد تواردات الفن.

ويذهب بعيدا في بحثه ويجد أن السويسري بول كلي المتمتع بحساسية اتجاه حضارة الدليل، وجد في تونس ضوءا آخر يتوحد بفضائية الأدلة والأشكال في الهندسة المعمارية (للبيوت والأضرحة والشوارع)، والأرابيسك، والخط، والزرابي، فنون عديدة ظلت فترة طويلة متخفية عن نظرة الغرب وفنانيه، ويؤكد أن هؤلاء الفنانين كانوا يسافرون حتى يعارضوا فنهم بتقاليد فنية أخرى.

وقد نشأ الفن الاستشرافي بتمثل هذه الرغبة، فبفضل هذه المواجهة يستمد الرسم المغربي من تجربة رسامين عالميين من دولاكروا إلى ماتيس، حداثة يراهن عليها مستقبلا.

https://anbaaexpress.ma/sqt8x

عبدالله الحيمر

كاتب وناقد ومفكر مغربي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى