
بين التشكيل والذاكرة تعاقد قديم، فكيف إن كانت الذاكرة نفسها هي المخزون الرافد للإبداع، وهو تماما ما نجده في لوحات أوجين دولاكروا، حيث تسكن صورة المغرب الدّاخلي، إن رضينا بتوصيف تيراس على سبيل الحذر، وهو الذي سيُعنى بإحياء التراث الفني المغربي عصر الحماية.
رحلة دولاكروا إلى المغرب سنة 1830، كمرافق للبعثة التي أرسلها الملك الفرنسي أنذاك لويس فيليب إلى السلطان عبد الرحمن، مرحلة كان فيها المغرب يتمتّع بدولة مستقلة ذات تقاليد، سيكشف عنها الاستشراق الفنّي، بل لنقل الاستشراق، لأنّ أصل هذا الأخير، حسب برنار لويس، هو الفن والتشكيل، أي صورة الشرق في مرآت التشكيل الأوروبي.
دولاكروا الذي سافر إلى المغرب، ومنه إستوحى عالم شرقي، يؤكد على العمق الشرقي للمغرب، من بوابة طنجة وصولا إلى مكناس دون أن يوغل كثيرا، لكنه إلتقط صورا ذهنية، ثم سافر إلى باريس حيث سيعيد إبداع صور من وحي الخيال، تعكس التقاليد المغربية، الجيش، المجتمع، الخيول، الأسود، مغرب متخيّل، لكنه يستند إلى الواقع، حيث يربط دولاكروا بين الواقع والخيال من خلال شعرية اللّون، سيكون دولاكروا أوّل فنان تشكيلي غربي يدخل المغرب وينقل شيئا من تقاليده وصوره عبر الخيال والصورة والتشكيل. تنقلك لوحات دولاكروا إلى المتاهة الهرمسية في تأويل اللّون والأوضاع المصفوفة بعناية ودقة فائقة يحددها الخيال المعصوم كما عند إبن عربي.
الصلة العميقة بين التشكيل والقصيدة بالنسبة لأبي الرومانسية، تتجلّى في شهادة صاحب أزهار الشّر، الذي اعتبر دولاكروا الرسالم الأكثر أصالة في كل العصور القديمة والحديثة، بل سيصف بودلير دولاكروا بالعبقري العظيم المريض بالعبقرية.
وثّق دولاكروا جانبا من تاريخ المغرب بالخيال، ومدّ اللّون في هذه المتاهة البصرية: صور عن الجيش، والمجتمع، وأسد الأطلس، والمهرج، والحريم…إنّها لغة اللّون، والخيال، والوفاء، وتداخل الفنون والأشكال التعبيرية التي تصل لوحات دولاكروا ببودلير وغوته وشكسبير، قابسا ومقتبسا، ملهما ومستلهما، في العصر الرومانسي العظيم، عصر الجمال وثورة الخيال.
تكرس لوحات دولاكروا المغرب ببعده الشرقي، وهي تعفينا من أكثر أشكال خطاب القطيعة، فالخيال هنا يكذب لعبة التقطيع، لأنّ الخيال يحيل إلى الواقع أكثر من مغالطة تتلحّف البرهان. كما تكرس لوحات دولاكروا أيضا شعرية المكان الآهل بالرموز والطبيعة والبشر. دولاكروا ينظم من خلال جذبة اللون قصيدة شعر تسافر في كل البحور، وهي في كل طور تزداد تعبيرا وإيحاء وعراقة، إنّها لوحات معتّقة تكشف في كل جيل عن معالم نبوغ تشكيلي لا يضاهى.
قبل يومين سافرت في تلك اللوحات على إنفراد..سفر في الخيال، الى العصر الرومانسي، عصر التنوير والجمال، تدفق الخيال قبل ميلاد الأيديولوجيات الكبرى، بله تدنّيها المدنّس.