أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تغييرات على “أسس السياسة الثقافية للدولة”، تقضي بحماية مؤسسة الزواج كاتحاد بين رجل وامرأة، وتهيئة الظروف لتنشئة الأطفال وتنميتهم على أساس القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية، ومكافحة الاستخدام المفرط للمفردات الأجنبية والكلمات البذيئة.
ويعرّف المرسوم الرئاسي “السيادة الثقافية” بأنها مزيج من العوامل الاجتماعية والثقافية التي تسمح للشعب والدولة بتشكيل هويتهما، وتجنبهما الخضوع الاجتماعي والنفسي والثقافي للمؤثرات الخارجية، وتأمّن لهما الحماية من الأيديولوجيا والإعلام “المدمر”، وتحافظ على الذاكرة التاريخية، وتلتزم بالقيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية.
ولطالما قدّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه على أنه وصيّ على القيم الروسية التقليدية، من اعتناق الأرثوذكسية والزواج. ومنذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، ضاعفت السلطات الروسية جهودها لإبعاد شعبها عن القيم الغربية، ويقول العديد من الفنانين -الموالين للكرملين- إن على الفن أن يكون القناة الأساسية لمحاولات الإبعاد هذه.
تعزيز “الجبهة الثقافية”
وقبل شهر واحد فقط، وفي سياق التمهيد للمرسوم الأخير، أصدر بوتين تعليمات للحكومة بالترويج لأبطال التاريخ والفولكلور الروسي، ونشر صورهم، بما في ذلك من خلال إنتاج الهدايا التذكارية والمنتجات المطبوعة والمرئية.
وتزامنا مع مرسوم بوتين، طالب اتحاد الناشرين الروس بفتح تحقيق في عدد مما وصفها بـ”المؤامرات” التي وردت في أعمال من قائمة الأدب الكلاسيكي والمناهج المدرسية، اعتبر أنها تروج لإنكار قيم الأسرة، وتم إرسال استئناف بمثل هذا الطلب إلى دوما الدولة (البرلمان).
وأثار اتحاد الناشرين حينها ضجة، عندما أعلن أنه تلقى الكثير من الطلبات من قبل دور نشر، تطالب بحق نشر معلومات ومضامين تنكر القيم العائلية وتروّج للعلاقات الجنسية غير التقليدية.
وتزامن ذلك مع ما ذكرته صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” من أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان طالبت روسيا بإدخال إجراء قانوني للاعتراف بالعلاقات الجنسية المثلية.
وأشار الطلب الأوروبي المذكور إلى أنه ليس من الضروري تسمية مثل هذا الاتحاد زواجًا، ولكن يجب أن يتمتع الأزواج من نفس الجنس في علاقة ما بنفس الحقوق الزوجية التي يتمتع بها الأزواج من الجنس الآخر.
وردت موسكو حينها على لسان السيناتور في مجلس الاتحاد الفدرالي ألكسي بوشكوف، بأنه لا يمكنها إجبار روسيا -مثل الدول الأخرى- على الاعتراف بزواج المثليين.
التعارض مع الغرب
ويقول مدير منتدى الحوار من أجل السلام القس ديمتري باخوموف إن روسيا انتقلت إلى مرحلة أصبحت تقدم فيها نفسها طرفا يتعارض مع الغرب، ليس فقط في منظومة القيم السياسية، بل الثقافية أيضا.
ولا يستبعد باخوموف أن تتحول روسيا، في ظروف السعي لإقامة عالم متعدد الأقطاب، إلى رأس حربة المدافعين عن القيم الروحية والأخلاقية العالمية التقليدية، إلى جانب الدول والمنظمات التي تؤيد هذا الخط.
وبرأيه، فإنه إلى جانب تحصين الجبهة الداخلية في مجالي الثقافة والقيم، فإن المرسوم الرئاسي يدعم كذلك صورة الدولة الروسية على الساحة الدولية، ويقدمها باعتبارها الحارس والمدافع عن القيم الروحية والأخلاقية.
كما يشير إلى جدية المعركة الحالية، والفرصة التاريخية التي نشأت لمواجهة محاولة إضعاف وتدمير روسيا وطرح مصيرها على الطاولة، مما يستدعي التصدي لمحاولات غزوها ثقافيًا بكافة السبل.
حصان طروادة
يذكر أن مبادئ السياسة الثقافية للدولة قد تمت الموافقة عليها بموجب مرسوم لبوتين عام 2014، اعتُبر ضروريا لتطوير القوانين التشريعية الأخرى في مجال التنمية الثقافية لروسيا.
وتحدثت وثيقة عام 2014 عن وجود تهديدات من قبل “الإرهابيين والمتطرفين ووسائل الإعلام والشركات الغربية، ومن دول أخرى غير صديقة، بنشر أيديولوجيا هدامة في العالم، تهدد بالتدمير الذاتي للمجتمع، وتقليل قيمة العمل والحقائق التاريخية، وزيادة عدد مدمني المخدرات والكحول، والاشتباكات بين ممثلي الجنسيات والأديان المختلفة، والموقف السلبي تجاه الجيش والمسؤولين”.
أما المرسوم الجديد، فحرص على الإشارة إلى أن “السكان يشكلون جوهر الأولوية الوطنية الإستراتيجية الرئيسية للبلاد”، وأن التغييرات الجديدة تهدف إلى “تعزيز التربية بالقيم التقليدية، وتطوير شخصية متناغمة يمكنها إنشاء أسرة متكاملة، والعمل بأمانة، وتطوير التراث الثقافي ونقل هذه القيم إلى الجيل القادم.
“روسيا فوبيا”
ويأتي المرسوم الرئاسي كذلك في وقت تتهم فيه روسيا الغرب بممارسة “الروسيا فوبيا” (معاداة الروس)، وتفاقم هذه النزعة بشكل حاد مع اندلاع الحرب في أوكرانيا.
وتتحدث وسائل إعلام روسية عن منع بلدان أوروبية عدة إقامة حفلات أوبرا لموسيقيين كلاسيكيين روس، مثل تشايكوفسكي وشيستاكوفيتش وراخمانينوف، فضلًا عن حظر بيع كتب لأدباء معاصرين وكلاسيكيين، كرد فعل على الحرب في أوكرانيا.
وبرأي عالم الاجتماع فلاديمير كوشيل، فإن الصراع الأوكراني هو أحد النزاعات الرئيسية، لكنه ليس الحلقة الأولى ولا الأخيرة في تراجع هيمنة أوروبا الغربية على العالم.
ويضيف أن روسيا بدأت تدرك علامات “التدهور الأخلاقي” في منظومة القيم في الغرب، إلى جانب “الابتذال” السياسي القائم هناك، وتتابع كيف تتراكم بشكل متسارع.
ويوضح أن الغرب “يخوض صراعا يائسا للحفاظ على هيمنته باستغلال السطح الأيديولوجي”، وتقديم الصراع على أنه بين الديمقراطيات الليبرالية والسلطوية.
ويختم بأنه صراع مجموعة من البلدان للحصول على مركز متميز، وفي الوقت نفسه، يؤمن الكثيرون بـ”التغليف اللفظي” لهذا الصراع، وهو السبب الذي يقف وراء مسارعة الكرملين لتحصين الجبهة الداخلية في بعديها الثقافي والقيمي.