آراءمجتمع

التوحش: رؤية خارج الأسوار (4-4)

تتمة

الدكتاتورية: بيئة الرعب

حري بنا أن نسأل عن جانب رُبما يعتبر من المسكوت عنه، أليست الدكتاتورية تدفع المجتمعات إلى أن تتخذ صور عديدة من التوحش؟ ماذا يعني أن تُمارس تيارات دينية، وسياسية، واجتماعية مفاهيم وأبجديات الدكتاتورية ضد بعضها البعض؟ كيف نقرأ تأثير الدكتاتورية العليا التي لا تكترث سوى الحفاظ على صورتها الخارجية، حتى لو كلفها تريليونات والتي تتشكل عبر صفقات سياسية مُغلفة بالاقتصاد؟ وبالطبع صورتها الداخلية يتصدرها الممثلين في مجالسها الديموقراطية جداً وعبر المهرجين الذين يفشلون في كل مرة في الدفاع عن نتائج الدكتاتورية. هذا الواقع الاجتماعي السياسي هو الوقود الذي يُغذي التوحش والذي يختبئ تحت الرماد حتى تقوى شوكته ليعبر عن ذاته وفق ما تقتضيه المواقف والتحولات. التيارات الدينية داخل الطائفة الواحدة تجد بينها صراعات قديمة ومتجددة يرتفع صوتها تارة وتارة ينخفض لمستويات لا تُرى.

الحركات السياسية من يسارية، ماركسية، شيوعية، قومية والتي إكتسحت العالم العربي في وقت مبكر من ستينات القرن الماضي كان لها الكثير من التأثير المعاكس لثقافة الدكتاتورية فكان نصب عينيها هو إحداث تغيير حقيقي يمنع كل صور التوحش، ولأن الدكتاتورية السياسية والدينية كانت تُسيطر على الوعي الاجتماعي وأبعاده عن تلك الحواضن مما عرض كثير من الشخصيات إلى الاعتقالات، والترحيل القسري أو حتى الاختطاف وصولاً إلى الاغتيالات حتى في الدول الغربية لتسجيل الكثير من الحالات ضد مجهول.

التكفير الديني والسياسي

لا أجد حرجاً في أن شخص ما يُطلق صفة الكفر على من يختلف معي في جزء من الاعتقاد أو حتى كله، لأنها بطبيعة الحال هي الصفة المُعاكسة إلى صفة الإيمان، تكمن الخطورة الحقيقية في جعل هذا التكفير يتجاوز الموضوع الفكري إلى اصدار قرارات تتجاوز النصوص الدستورية والتشريعات القانونية التي تُعبر عن هوية الوطن، إبتداء من التعرض إلى خطر وجودي على حياة المواطن وبقية منظومة الحقوق المدنية الأصيلة.

بكل تأكيد الحديث هنا هو عن التكفير بشقيه، فكما للفاعل الديني تأثير خطير، كذلك الفاعل السياسي، فخطره قد يفوق التصورات لأنه بطبيعة الحال يملك العلاقات ويمتاز بمناصب تمكنه من اصدار قرارات قد يدفع ثمنها أسرة، ومجتمع بكامله، لأن أحدهم أو مجموعة منهم كان له رأي سياسي مختلف تماماً ولنا في تاريخ العراق وتحديداً عندما إستولى صدام حسين على الحكم لمدة تقارب 35 عام دفع ولا يزال ثمنها الشعب العراقي بكل إنتماءاته.

إن التكفير المتجاوز للنقد المعرفي والعلمي هو حتماً صورة من التوحش الذي لم يُغادر عالمنا العربي والمحيط الإسلامي، وأما الحديث عن تحولات الاجتماعية هنا وهناك وإطلاق أوصاف خُرافية فما هو إلا نكتة سمجة لا سيما حينما يتم إيقاف والتحقيق مع فرقة عملت على تصوير أغنية في غاية الرقي الإنساني وبعيداً عن الأعمال الفنية الساقطة في مستنقع الرذيلة، فيما عشرات المُشاهدات الموثقة تكشف عن التحرشات الجنسية والتصرفات التي لا تليق بمن يفهم معنى خصوصية التعبير عن المشاعر في الفضاء العام.

في المقابل هناك نموذج يكشف أكثر مما يخبئ فما بين حركة سياسية ترى أن الوطن للجميع ولا تحصره في انتماء مؤطر وبين حركة دينية في كل مناسبة دينية تقول عبر الإعلام أن هذا عراق الحسين في صورة تختزل التنوع الديني والقومي العراقي.

الأبعاد الاجتماعية والنفسية

إن من الكوارث التي لها تبعات طويلة الأمد كنتيجة إلى البيئات التي تحتضن، وتُنتج حركات وتيارات التوحش، وتستخدمها ضد فئات اجتماعية دينية أو سياسية هو التمزق الاجتماعي وإنحدار الصحة النفسية على مستوى الفرد والمجتمع.

نظرة على المجتمعات العربية لا سيما خلال سنوات الزلازل السياسي الذي ترك آثر شديداً في تهشم البنية السياسية العربية والتي هي في أصلها متهشمة، إضافة إلى آثار التجهيل السياسي والتوظيف الديني ضد مصالح الحركات والأحزاب السياسية التي تُنادي في إصلاحات حقيقة تُساهم في ردم فهوة الفساد كالتجنيس السياسي بغرض التغيير الديموغرافي فيما فئات أخرى يتم حرمانها من حق التجنيس تحت دوافع عنصرية وسياسية، البرلمانات التي في غالبها مجرد فرقة موسيقية سياسية تعزف وفق ما هو مسموح لها من السلطة الأعلى والتي بيدها كل السُلطات، القضائية، التشريعية، التنفيذية، الدستور على فرض وجوده فهو أم معطل كلياً أو جزئياً فيما بعض الدول لا تملك دستور اطلاقاً مما يشكل حماية للفاسدين، وتعرقل تحقيق العدالة الشاملة وغيرها من عناوين ذو أهمية بالنسبة للمواطن.

أصبح المواطن العربي على إتساع جغرافية الدول الغربية قاطبة أوطان بديلة نتيجة للتوحش الذي طال الكثير من المواطنين حتى وهو في خارج وطنه، فما بين إعدام معنوي عبر إسقاط الجنسية، وملاحقات لمن يُمارس حرية التفكير بصوت مسموع، فيما البعض نتيجة لوجود الاتفاقيات الأمنية بين بعض البلدان التي لا تقوم بحماية المواطن من تُجار المخدرات، و حتى الاتجار بالبشر أو أي صورة من صور الحماية التي ينبغي أن تقوم بها الجهات الأمنية، بل بوضوح هي ملاحقة واعتقال ورُبما المشاركة في اغتيال مواطن كل ذنبه أنه عبر عن ما يجول في عقله وقلبه من أمنيات، ومطالب أقل ما يوصف عنها أنها مطالب إنسانية أساسية.

هكذا تصنع الدكتاتورية بيئة الرعب والتي قد تكون المسؤول الأول عن كل صور التوحش التي تبنتها في حقبة زمنية، ولا تزال مناهجها، ومدارسها، وقضاتها، وإعلامها، وصحافتها تتناول ذات الخطاب المتوحش، ولكن بثوب الليبرالية، والعلمانية، والانفتاح على الثقافات الأخرى.

وعلى مستوى الصحة النفسية الفردية، تُشير بعض المصادر البحثية الخاصة عن وجود نسبة تفوق 45% من المواطنين في الشرق الأوسط من هم بِحاجة إلى العلاج النفسي الشامل جراء التوحش الدموي داخل أقبية السجون، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معدلات ضحايا التوحش مرعبة للغاية.

الإنسان الذي يعد أرقى المخلوقات الحية ما هو إلا مجموعة أيدولوجيات يقوم بمسرحتها على خشبة الحياة وهذا سر من أسرار الجمال في الوجود، إلا أن المأساة تبدأ بالبروز حينما يكون نرجسي الطبع أو مُصاب في اضطراب النرجسية، لتصبح ذاته هي محور القرارات دون الاكتراث في محيطه الأسري، والاجتماعي ليصل به الحال أن لا يرى وزن حتى للعالم، فمن دفع في العديد من حروب العالم سواء كان فرد أو مجموعة فهم يعبرون عن الحقيقة النرجسية التي هي صورة آخر من التوحش الذي قد لا نلتف له في بدايات تشكله.

الحُب بِوصفه مُضاد ضد التوحش

كنا عبر هذه الأجزاء نحاول أن نعرض أبعاد مختلفة عن التوحش وأخطاره على البشرية قاطبة، لعلى البعض وجد تحامل ما أو رُبما قصور معرفي وهذا طبيعة بشرية فما يُكتب ليس له صفة الكمال المُطلق.

إذا ثمة ما يمكن التعويل عليه بما يتناسب مع حجم الآمال فهو أن نجعل من الحٌب رسالة السلام العالمية، حُب لا يُشبه الرأسمالية في أيديولوجيتها التي جعلت من الحُب في كل عام صورة من التوحش الجنسي عبر إعلامها ليصبح الحُب كائن مًختطف.

لتجعلوا من الحُب قوة ضد كل أنماط التوحش، تخلصوا من الكراهية التي منبعها الأحقاد، دعونا نحن كمجتمعات نقبل إختلافاتنا السياسية، والدينية، والفكرية، والثقافية بروح الحُب وغير ذلك سوف يستمر التوحش وصانعيه وداعميه لأن هؤلاء هم المُستفيدون من كل الخراب والدمار في المجتمعات.

https://anbaaexpress.ma/miqvr

هاني العبندي

كاتب صحفي سعودي مقيم في أمريكا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى