سؤال يسأله كل إنسان مسلم وعربي مهما كانت درجة تحصيله العلمي، لماذا نحن هكذا نرزح تحت الفقر والجهل والظلم والاستبداد؟ لماذا نحن من الأمم النامية المتخلفة التي لا تخطو خطوة واحدة إلى الأمام بل تعود عشرات أو مئات الخطوات إلى الخلف؟ وأسأل نفسي كفلسطينية تعيش على أرض الرباط، وفي أكناف بيت المقدس، لماذا لم ننتصر رغم ألوف التضحيات من الشهداء والأسرى والجرحى، ورغم مرور مائة عام على نضالنا وكفاحنا ضد محتل سرق الأرض والعرض والتاريخ والتراث والسماء وحتى الهواء الذي نتنفسه؟ لماذا لا تتغير أحوالنا نحو الأفضل؟ بل إننا من سيء إلى أسوأ!.
سؤال ما كففت أبحث عن إجابة له حتى لحظة كتابتي لهذه الكلمات، وكم سألت من أشخاص قابلتهم هنا وهناك في ندوات أو ورشات أو محاضرات علمية … وكم بحثت عن إجابته بين طيات الكتب والمجلات العلمية وصفحات الانترنت ومحاضرات اليوتيوب، إلى أن سمعت يومًا محاضرة لمفكر إنساني أتى على مصطلح الأفكار الميتة والأفكار المميتة، فرحتُ أبحث عن المقصود من هذين المصطلحين، فعلمت أنهما للمفكر الرائع مالك بن نبي. وأنه عندما شَخَّصَ مشكلات العالم الإسلامي ذكر أن مشكلتنا تكمن في أفكارنا الميتة والمميتة.
أما الأفكار الميتة فيعرفها مالك بن نبي بأنها: “أفكار خذلت من أصولها، وإنحرفت عن نموذجها المثالي، فلم يعد لها جذور في محيطها الثقافي، وأما الأفكار المميتة أو القاتلة فهي الأفكار التي فقدت شخصيتها وقيمتها الثقافية بعد أن فقدت جذورها التي ظلت مكانها في عالمها الثقافي الأصلي.
فالأفكار الميتة هي الأفكار الذاتية التي أفرزها التطور الحضاري الإسلامي، ولكنها فقدت مبررات وجودها وإستمراريتها، أو كانت في الأصل مشوهة، ولم تتخلص الأمة الإسلامية منها، بل تغلغلت فيها فأصبحت خطرًا عليها، مثل: الدعوات التي تُنادي بالعودة إلى الماضي، وإستدعاء التاريخ لحسم معارك الحاضر، والحديث عن الخلافة بأشكالها التاريخية عوضًا عن الحديث عن المعنى والمضمون القيمي لها، وطريقة تولي المناصب العليا في الدولة بطريقة الانقلاب وسفك الدماء، أو تبرير ظلم الحاكم وإستبداده بمقولات طاعة ولي الأمر، فهذه الأفكار وأمثالها تشدُ الإنسان ليعيش وضعًا حضاريًا منحطًا يمنعه من النهوض، فهو يحمل أفكاراً فاقدة للحياة عديمة الفاعلية، تقوم على الخرافة والشعوذة، وتجعله قابلًا للاستعمار والاستعباد.
ومما يؤسف ويُحزن أن النخبة المسلمة هي التي تجري وراء تلك العناصر خوفًا من بطش حاكم مستبد، أو مصالح أحرزتها، أو مكانة اجتماعية تتمتع بها، أو سلطة استحوذت عليها.
وأما الأفكار القاتلة فهي الأفكار الوافدة والمستوردة من الغرب، والتي فقدت قيمتها وهويتها الثقافية في عالمها، فاستوردناها بكل مساوئها، سواء على المستوى الفكري أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو السياسي، فأتينا بخليط من الأفكار المستعارة الممجوجة، دون تنقيح أو ترشيح، فلم تُجدي معنا نفعًا، فجلبت علينا من الويلات ما الله به عليم.
فالماركسية والشيوعية سقطت في موطنها الأصلي، والعلمانية والبراغماتية فيهما من العيوب ما جعل الغرب يتجاوزهما منذ سنوات طويلة، ليأتي زمن الحداثة وما بعده، وتقوم حضارة الغرب مستفيدة من هذه المذاهب الفكرية، فتأخذ ما يصلح لها، وتنبذ ما إكتشفت سوءه وبطلانه، فغيرت وبدلت وطورت؛ فشيَّدت حضارة يُشار إليها بالبنان، بينما نحن ما زلنا ندافع عن الماركسية والشيوعية بعد سقوطها ونطالب أن تُطبق في بلادنا وبأنها النجاة لما نحن فيه.
وأما الحداثة فلم نأخذ منها إلا القشور والنفايات، وتركنا العلوم والتكنولوجيا التي وصلت إليها، فبينما يدرك اليوم الغرب ما جلبته عليه الحريات المطلقة من ويلات؛ ويُطالب بالعودة إلى الأخلاق المسيحية بعد أن طبقَ قيم العدل والمساواة على كافة أفراد الشعب، نجد أنفسنا نحن المسلمين غارقين في فساد وإلحاد وافد إلينا من الغرب، بعد أن غرقت بلادنا في الظلم والقهر والفقر والبطالة والاستبداد وغير ذلك مما يتعب العقل والقلب من ذكره.
إن أسباب فشلنا وتدهور حالتنا وتأخرنا عن اللحاق بركب الحضارة أن مجتمعاتنا مقسومة إلى قسمين: قسم متشنج قابع في الماضي، يفرض عاداته وأحكامه المسبقة وخرافاته وشعوذاته باعتبارها سُننًا أصيلة وجوهر الدين، ومن جهة أخرى لدينا قسم يدَّعي أنه ثوري ينتفض بالفعل، ويقاوم ويثور، لكن ليس ضد القيم الخاطئة، بل ضد أكثر القيم والمبادئ أصالة، فبدلًا من أن ندافع عن قيم الحق والحرية والأرض، نُدافع عن أشخاص وأحزاب وأيدولوجيات وأنظمة حكم قد بان وظهر للعيان فسادها وإفسادها، وتغرق البلاد في صراع بين نخبتين، لا بل صراع بين مجتمعين، يتكلمان بلغتين مختلفتين، كل مجتمع يحمل أفكارًا يتبناها ويدافع عنها حتى ولو وصل الأمر إلى سفك الدماء، ولا مشكلة عند ذلك لدى الطرفين على الإطلاق، وها نحن نرى بأم أعيننا اليوم مجتمعاتنا العربية غارقة في ظلمات حالكة من الاختلاف والتنازع والشقاق، بينما بلاد أخرى غارقة في بحر من الدماء.
ونعود إلى الإجابة عن السؤال الذي طُرح في بداية المقال فنجيب بمثال حي ضربه مالك بن نبي عندما شخَّص المشكلة وعرضها فيقول: “إن اليابان خرجت من حرب ضروس، دُمرت فيها كل جوانب الحياة، إلا أنها ما لبثت أن إستعادت نهضتها وأصبحت قوة عُظمى في كل المجالات، وذلك من خلال المحافظة على ثقافتها وتقاليدها وماضيها، وأخذت كل ما هو صالح وفعال وحي من الثقافة الغربية”.
في النهاية نستطيع القول إن الأخلاق والثقافة والتعليم والحوار والتخطيط السليم ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب هي الأسس التي تقوم عليها أي حضارة.